امة إقرأ لا تقرأ

امة إقرأ لا تقرأ

lundi 10 février 2014

جذور الاستبداد في الفكر السياسي الوهابي

wahabi

جذور الاستبداد في الفكر السياسي الوهابي

wahabi
جذور الإستبداد
في الفكر السياسي الوهابي

قراءة  تحليلية

بقلم : أحمد الكاتب

المحتويات

المقدمة: ماهي الوهابية ؟ ومن هم الوهابيون؟

الفصل الأول: نظرية التوحيد الوهابية
تكفير عامة المسلمين
عدم العذر بالجهل و شرط الولاء السياسي
غربة الاسلام والمسلمين
محاولة نفي تهمة التكفير

الفصل الثاني:  ولادة الدولة السعودية الأولى
الهجرة والقتال و الخروج
الولادة السلمية

الفصل الثالث: ملامح التجربة السياسية الوهابية الأولى
1 – الاستبداد و سياسة القهر و الغلبة
الجذور التاريخية لنظرية القهر و الغلبة
نظرية ابن تيمية السياسية
الدعوة الى طاعة الامام و تحريم الخروج عليه
2 – العنف و الإرهاب
دوامة العنف
مجزرة كربلاء
دعوة أهالي مكة الى الإسلام
إعلان تكفير الدولة العثمانية

3 -  التذبذب بين المعارضة والولاء للدولة العثمانية
4 – الصراع الداخلي

الفصل الرابع: الدولة السعودية الثالثة و الشورى
علاقة ابن سعود مع (الاخوان)
قبول ابن سعود  للحماية البريطانية
علاقة الوهابية مع المسلمين
علاقة الوهابيين الداخلية
الهيمنة على الحركة الوهابية
انقلاب ابن سعود على الوهابية
علاقة ابن سعود برجال الدين
علاقة ابن سعود بالشعب
الشورى لأهل الحجاز
وعود ديموقراطية عقيمة
مجلس لأهل الحل و العقد
الأنظمة الثلاثة و الحكم المطلق

الفصل الخامس : المؤسسة الدينية الوهابية و الشورى
تشكيل المؤسسة الدينية الوهابية
التبعية للسلطة السياسية
الاعتزال السياسي
التصدي للديموقراطية
الدفاع عن الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله
إغلاق نافذة  الثورة

الفصل السادس : المعارضة الوهابية و الشورى
1 – المعارضة الاصلاحية الموالية
2 – المعارضة الخارجية الرافضة
3 – المعارضة الثورية المسلحة ( التكفيرية)
تكفير النظام و المؤسسة الدينية الوهابية

الفصل السابع: من الوهابية الى الديموقراطية
الانفتاح على الديموقراطية
المسعري ثورة على الوهابية
المالكي يرفض التكفير
عبد الرحمن عبد الخالق والمشاركة البرلمانية

الخاتمة: التكفير أزمة الفكر السياسي الوهابي


المقدمة


شهد العالم الاسلامي خلال القرن العشرين انفتاحاً كبيراً على الفكر الديموقراطي ، واقيمت أنظمة برلمانية و انتخابات رئاسية في معظم البلاد الاسلامية ، ما عدا المملكة العربية السعودية التي ظلت تحتفظ بنظام شمولي مطلق  يحتكر فيه الملك كل السلطات التشريعية و التنفيذية و فشلت في إحداث أي تطور ديموقراطي . و ربما كان لهذا الفشل عوامل عديدة ولكن أهمها الفكر السياسي الوهابي الرافض للديموقراطية . و رغم ان علاقة الحركة الوهابية مع النظام السعودي لم تكن على خير ، وكان يشوبها كثير من التوتر و الصراع بحيث كانت تفرز تيارات ثورية راديكالية تطالب أحياناً بقطع رأس النظام ، الا انها كانت تعيش أزمة فكرية سياسية محيرة تتردد فيها بين التكفير و الخروج أو الإرجاء و الخنوع ، و لا تجد بينهما مخرجاً. وهذا ما دفع بعض حركات المعارضة الوهابية للنظام السعودي كمنظمة (القاعدة) الى اعتماد استراتيجيات بديلة عن عملية الاصلاح الداخلي ، و ذلك بالتوجه للانتقام من الأعداء الخارجيين و تحميلهم كل المسؤولية عن تدهور الأوضاع السياسية الداخلية. ففي حين اعترضت منظمة (القاعدة) على التواجد العسكري الأميركي في بلاد الحرمين الشريفين ، و جهت كل غضبها على “المحتل الأميركي” وتغافلت عن الداعي والطالب للحماية الأميركية ، وهو النظام السعودي. و بدلاً من أن تطالب النظام بطرد القوات الأجنبية ، او تعمل من أجل تغييره سياسياً او تجد وسيلة للمشاركة في القرار السياسي والضغط على الحكومة من أجل تنفيذ سياسات شرعية منسجمة مع الدين الحنيف و المصلحة الوطنية.. بدلاً من ذلك وجدت نفسها مضطرة لخوض المعركة مع العدو الخارجي المحتل ونقل المعركة الى عقر داره.
وكان على زعيم منظمة (القاعدة) أسامة بن لادن أن يحكم على النظام السعودي بالكفر حتى يستطيع أن يخرج عليه ، لأنه لم يجد سبيلاً الى المعارضة السياسية السلمية الشعبية بعد أن أغلق النظام في وجه المعارضة والتغيير كل الأبواب . ولم يستطع الدعوة الى إقامة نظام ديموقراطي أو مجالس شورى حتى يتمكن هو وغيره من التعبير عن رأيه بصراحة وإجبار النظام الحاكم في السعودية على امتثال الحكم الشرعي أو الانقياد لإرادة الرأي العام في البلد ، لأنه لم يكن يؤمن بالخيار الديموقراطي من الأساس  أو لأنه كان يرى الطريق الديموقراطي بعيدا وطويلا في ظل هيمنة الفكر السياسي الوهابي في البلاد.
من هنا كان يبدو بوضوح أن الأزمة هي أولاً أزمة الفكر السياسي داخل السعودية ، حيث اعتبر ابن لادن ومؤيدوه – من جهة – النظامَ السعودي “مرتداً وكافراً لأنه يخالف أهم مبدأ من مباديء التوحيد ويأتي بأكبر ناقض من نواقضه وهو الولاء للكفار” . ومن جهة أخرى اعتبر النظامُ السعودي وأنصارُه من كبار رجال الدين ، أسامةَ بن لادن  وأتباعَه “خوارج ومتمردين “. ولم توجد بينهما  لغة للحوار أو وسيلة للتفاهم ، في ظل انعدام الحياة السياسية الطبيعية في المملكة العربية السعودية وعدم وجود مجالس  شورى منتخبة أو أحزاب سياسية أو صحافة حرة ، وهو ما دفع و يدفع بأي معارض للنظام للخروج والتمرد والعصيان والكفر التام بالنظام وتكفير أصحابه.
وعلى رغم قوة الانشقاق الذي قامت به المعارضة الراديكالية ، الا انها بدورها لم تقدم نظاماً سياسياً بديلاً عن النظام الاستبدادي المطلق القائم ، ولم تدع الى تطبيق الديموقراطية أو مشاركة الأمة في الحياة السياسية أو تأسيس قنوات دستورية للتعبير عن الرأي الآخر.
ومع ان النظام السعودي قدم خلال العقود الماضية كثيرا من الوعود بإقامة نوع من الديموقراطية ومجالس الشورى ، ولكن تلك الوعود لم تترجم الى واقع ملموس أو مؤسسات دستورية ، ليس بسبب الرغبة السلطانية في الحكم المطلق والاستبداد فقط ، وانما لغياب الفكر الشوري ومعاداة الفكر الوهابي للديموقراطية باعتبارها ديناً إلحادياً غربياً ، وكفراً معادياً للدين الاسلامي ، وشركاً بالله تعالى ، وناقضاً من نواقض التوحيد ، اضافةً الى الخوف من عامة السكان و التشكيك بدينهم او اتهامهم بالشرك و الانحراف و الضلال و الفسق و الفجور.
وسعياً من أجل حل هذه الأزمة وجدت من الضروري دراسة وتحليل الفكر السياسي الوهابي ، والغوص عميقا في نظرية “التوحيد” الخاصة ، التي طرحها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأقام على ضوئها حركته المعروفة التي افرزت النظام السعودي في مراحله الثلاث ، خلال القرون الثلاثة الماضية.
ان الظاهرة الديكتاتورية موجودة في كل زمان ومكان ، ولكنها تتمتع بخصوصية بارزة في التجربة السعودية ، وترتبط بعلاقة وثيقة بالتفسير الوهابي للدين ، بما يمكننا من القول بوجود ظاهرة خاصة في التجربة الوهابية تتجاوز حدود الديكتاتورية المعروفة في جميع أنحاء العالم ، والتي تتمثل في استبداد الحاكم بالسلطة المطلقة وإقصاء مختلف طبقات الشعب وفئاته وأحزابه ، إذ انها تبدأ هنا مع  تكفير الحركة للمجتمع ومحاربته واستباحة دمائه وأمواله وإنكار أية حقوق انسانية أولية له . واذا كان النظام السعودي الحديث قد خفف من غلواء الفكر الوهابي القديم ، وتخلى عن الكثير من تطرفه ، الا انه لم يستطع التحرر تماما من التركة النفسية المرعبة للروح الوهابية المتشددة ، ولا يزال يتداخل معها ويتأثر بها  ويدعمها  ويستند الى الكثير من النظريات والمؤسسات والمدارس الوهابية المتطرفة.
ومع ان النظام السعودي عانى ويعاني من تطرف التفسيرات الوهابية وأحكامها المتشددة ضده ، الا انه يخشى ان ينفصل عنها تماما ، خوفا من فقدان القاعدة الاجتماعية والعصبية الحزبية التي تحتضن النظام . وقد استطاع ان يتجنب غضب القاعدة الوهابية عبر ضمان ولاء القيادات  الدينية التقليدية (من آل الشيخ خصوصا) والتظاهر ببعض الشعائر الاسلامية وتطبيق بعض الحدود الشرعية ، واستغلال الفكر السياسي الوهابي الذي ينص على وجوب الطاعة للأمراء والخضوع لهم.
وفي الوقت الذي كان النظام السعودي يستفيد من الفكر الوهابي في تدجين المعارضة الوهابية ، كان  يستخدم الحركة الوهابية كبعبع في مواجهة الحركات الشعبية المطالبة بالديموقراطية ، وذلك بالإيحاء اليها بامكانية سيطرة الحركة الوهابية على المجتمع ، وإمكانية فوزها  في أية عملية انتخابية، واطلاق يدها في التعامل بشدة مع التيارات المختلفة العلمانية والطائفية والحزبية التي تعتبرها الوهابية كافرة ومرتدة ، وحث المعارضة الديموقراطية على القبول بالنظام السعودي واستبداده خوفا مما هو أعظم.
ولا يعني ذلك ان الصورة قاتمة جداً و لا أمل في التطور الديموقراطي في السعودية ، إذ أن ما يهون الخطب ويبشر بغد أفضل هو حدوث تطور مهم و ان لم يكن كبيرا في داخل الحركة الوهابية ، و ولادة حركات اسلامية ديموقراطية تعيد النظر في كثير من الأسس الوهابية . واذا قيض لهذه الحركات النمو والانتشار فانها يمكن ان تساهم في تغيير ملامح النظام السعودي أو بناء نظام اسلامي ديموقراطي جديد.
ولكي نتعرف على كل تلك التطورات والاتجاهات والتيارات لا بد ان نقوم بدراسة الحركة الوهابية ، ابتداء من (نظرية التوحيد) التي قدمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبنى على أساسها النظام السعودي الذي منحه الشرعية والقوة والاستمرارية. وأثر تلك النظرية في تفجير الصراع الدموي العنيف داخل منطقة نجد والجزيرة العربية ، وقيام الدولة السعودية الاولى وانهيارها ثم قيام الدولة السعودية الثانية  وتشكيلها لأرضية المقاومة في وجه الهيمنة المصرية (العثمانية) وما رافق ذلك من تفجر للصراع الداخلي بين أبناء الحركة الوهابية حكاماً ومحكومين ، وتكفير بعضهم لبعض.
ثم ننتقل الى الحديث عن نشوء النظام السعودي الجديد الذي ولد في بداية القرن العشرين على يدي الملك عبد العزيز بن سعود ، وطبيعته وملامحه وعلاقته بالحركة الوهابية ( الإخوان) التي  اعتمد عليها أولاً في السنوات الاولى ثم قضى عليها بعد ذلك ، ونشوء المؤسسة الدينية الوهابية وموقفها من الديموقراطية و الديكتاتورية ، ونقوم بعد ذلك  بجولة على أهم فصائل المعارضة الوهابية الموالية والخارجية ، ونتوقف أخيرا  عند الحركة الديموقراطية الاسلامية لنرصد أهم ملامحها واحتمالات نجاحها وقدرتها على تشكيل البديل الاسلامي عن الحركة الوهابية.

وأرى من نافل القول الإشارة الى ضرورة الفصل بين الحديث عن الوهابية النظرية ، والوهابية في الواقع ، إذ ليس كل من حمل اسم (الوهابية) أو انتمى اليها في يوم من الأيام هو بالضرورة مؤمن بكل مقولاتها وملتزم بكل مواقفها و مترجم لكل ملامحها ، فان ثمة حركة ثقافية متطورة  ومتشعبة داخل الحركة الوهابية ، وربما نجد بعض “الوهابيين” ليس له من الوهابية الا الاسم أو الهوية بالولادة ، ولذا ينبغي أن لا نقع في خطأ النظرة الى الآخرين وكأنهم كتلة واحدة جامدة لم ولا تتغير.

ان الحديث عن الوهابية هو نموذج للحديث عن الحركات الاسلامية المتطرفة التي تحتكر الاسلام لنفسها وتجرد الآخرين منه او تشكك في ايمانهم ، وانعكاس ذلك على آلية العمل السياسي والتوجه نحو الديكتاتورية والاستبداد.

من هم  الوهابيون؟ وما هي الوهابية؟

“الوهابيون” هم كل من ينتسب الى مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي قاد في أواسط القرن الثاني عشر الهجري في نجد، حركة اصلاحية ضد الاستغاثة بالأولياء و الصالحين ، الاحياء و الأموات ، و زيارة قبورهم و طلب الشفاعة منهم ، معتبراً تلك الممارسات شركا أعظم بالله تعالى ، وكفراً مخرجاً عن الملة ، ثم تحالف مع أحد أمراء نجد وهو  محمد بن سعود و أسس معه ما عرف بالدولة السعودية الأولى سنة 1157هـ
وفي حين كان أتباع هذه المدرسة السابقون يطلقون على أنفسهم اسم “الموحدون” أو “المسلمون” في مقابل المشركين ، فان خصومهم كانوا يطلقون عليهم اسم “الخوارج” . أما أتباع هذه المدرسة المعاصرون فيفضلون استخدام اسم “السلفية” و “السلفيون” . وقد شاع أيضا استخدام اسم “الوهابيون” من الطرفين كاسم علَم عليهم من باب أنهم يشكلون تيارا فكرياً مميزاً له تاريخه وخصائصه ومصنفاته وشيوخه ، وهو يختلف عن التيار العام للسلفية في كثير من الأمور ، ولذلك فقد استخدمه علماء المذهب كالشيخ  محمد بن عبد اللطيف ، والشيخ الشاعر سليمان بن سحمان  الذي يقول  متفاخرا:
(نعم نحن وهابية حنفية  حنفية تسقي لمن غاظنا المـُرّا)  . وقال الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة العربية السعودية السابق : “هذا لقب مشهور لعلماء التوحيد علماء نجد ينسبونهم إلى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه؟ لأنه دعا إلى الله عز وجل في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، واجتهد في إيضاح التوحيد وبيان الشرك للناس  … وصار أتباعه ومن دعا بدعوته ونشأ على هذه الدعوة في نجد يسمى بالوهابي… فهو لقب شريف عظيم يدل على أن من لقب به فهو من أهل التوحيد، ومن أهل الإخلاص لله “.[1]
و رغم التزام  الدولة  السعودية بالفكر الوهابي ، وتدريسه في المدارس والجامعات ، الا انها تحاول منذ فترة طويلة التخلي عن اسم (الوهابية) الذي يقف عائقا أمام طموحها لقيادة العالم الاسلامي ، حيث تصر على أنها تنتمي للتراث الاسلامي السني العام ، ولا تتبنى مذهبا خاصا باسم (الوهابية). وفي هذا المجال صرح الملك عبد العزيز بن سعود في 11/5/1929 قائلا:”يسموننا بالوهابيين ، ويسمون مذهبنا (الوهابي) ، باعتبار أنه مذهب خاص . وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض. نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة ، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد ، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح”.
[1] وقال الملك فهد  عام 1989 :” إن الوهابية ليست مذهبا وإنهم يُنعتون بالوهابية مدحا تارة وذما تارة أخرى ، في حين أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يقم الا بالدعوة لتطهير العقيدة من البدع والضلالات”.[2]
وهكذا يقول وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية السعودي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ بتاريخ 18/11/2001: ” ان ما يدعونه بالوهابية ويزعمون اننا عليه هي منهج السلف وجوهر الدين وليس هناك داع لتسميتها بذلك لانها ليست مذهبا جديدا”. ويؤكد انه “ليس هناك مذهب اسمه الوهابية” وان الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي ينسب اليه تأسيس هذه الحركة في القرن الثامن عشر “لم يأت بجديد بل أحيا مذهب السلف الذي يحرص على ان يكون الدين خالصا وخاليا من الشوائب والبدع”. وعبر الشيخ صالح آل الشيخ عن أسفه لأن “الوهابية تستخدم اليوم لوصف المملكة لكي يقال انها دولة متشددة “. وفي نفس الوقت أكد الوزير على ضرورة “التمسك بثوابت  المملكة وعلى رأسها التزامنا بالدعوة السلفية التي تمنحنا فرصة الانطلاق الى العالم باتزان وبرؤية ذات افق واسع”. وشدد على ان “حفاظنا على المملكة انما هو بالمحافظة على هذه الدعوة وهذا الفهم السلفي للشريعة والعقيدة الاسلامية”.[3]
و يقول الاستاذ عبد الرحمن بن سليمان الرويشد في (الهدية السنية) : ” لم يكن إطلاق كلمة “الوهابية” التي يراد بها التعريف بأصحاب الفكرة السلفية شائع الاستعمال في وسط السلفيين ، بل كان أكثرهم يتهيب إطلاقه على الفكرة السلفية ،  وقد يتورع الكثيرون من نعت القائمين بها بذلك الوصف باعتباره وصفا عدوانيا كان يقصد به بلبلة الأفكار والتشويه ، وإطلاق المزيد من الضباب لعرقلة مسيرة الدعوة ، وحجب الرؤية عن حقائق أهدافها . وبمرور الزمن تحول هذا اللقب بصورة تدريجية الى مجرد لقب لا يحمل أي طابع للإحساس باستقرار المشاعر ، أو أي معنى من معاني الإساءة ، وصار مجرد تعريف مميز لأصحاب الفكرة السلفية وماهية الدعوة التي بشر بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ، وأصبح هذا اللقب شائعا ورائجا بين الكتاب والمؤرخين الشرقيين والغربيين على حد سواء. وبالتالي فليس هناك ما يبرر هجر استعمال تلك الكلمة كتعريف شائع أو تعبير يستخدم في إطاره الصحيح للرمز الى المضمون الفكري المقصود”.
ولذا فقد فضلت استخدام هذا الاسم ليس من باب الذم أو المدح وانما  من باب الدقة في التعريف.

أحمد الكاتب

Ahmad@alkatib.co.uk







[1]  -  http://www.ibnbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=719
[2]  – الحصين، أحمد: دعوة الامام ..سلفية لا وهابية ، ص 378
[2]  – عبد الله ، أنور : العلماء والعرش ، ص 407
[3]  – في حوار مع  صحيفة “عكاظ” بتاريخ 18/11/2001


الفصل الأول:

نظرية التوحيد الوهابية

تقدم النظرية الوهابية تفسيراً خاصاً لمعنى التوحيد ، ينطلق من تفسير كلمة (الله) او (الإله) و بالتالي فانها تقدم تصوراً خاصاً لمعنى (المسلم) الذي يشهد (ألا إله إلا الله) ، فخلافاً لما كان يعتقده عامة المسلمين منذ الجيل الأول من أن معنى (الإله) هو خالق الكون حسبما يفهم من الآيات التالية (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا).42 الإسراء و(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).22 الأنبياء ، ، وان شهادة التوحيد تعني الاعتراف و التسليم بعدم وجود شريك لله في الخلق ، تقول النظرية الوهابية إن المقصود بكلمة (الإله) : المعبود ، و ليس الخالق. و بالتالي فانه لا يكفي للمرأ ان يعترف بعدم وجود شريك للخالق لكي يصبح موحداً ، و انما يجب عليه ان يمارس العبادة لله وحده ، و اذا ما مارس أي نوع من العبادة لغير الله فقد أصبح مشركاً . ثم تتقدم النظرية الوهابية لكي تفسر معنى العبادة ، خلافاً لما كان يعرفه المسلمون من أنها تعني أداء نوع من الطقوس الخاصة كالصلاة كما في الآية الكريمة: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني و أقم الصلاة لذكري)14 طه ، أو انها تعني الطاعة والإتباع كما في الآية التالية: (أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و اعبدوني)61 يس
فتقول النظرية الوهابية: ان العبادة تعني ممارسة كل ما يختص بالله تعالى من الدعاء و النذر و القسم والاستغاثة و الخوف و الرجاء و طلب الشفاعة و ما الى ذلك بالنسبة الى شخص آخر غير الله ، و بناء على ذلك تعتبر النظرية الوهابية دعاء الصالحين والأئمة و الأنبياء والنذر لهم و طلب الشفاء منهم .. نوعاً من العبادة التي ترقى الى مستوى الشرك الأكبر بالله تعالى مما يخرج مرتكبها من ملة الاسلام و يعيده الى الجاهلية الأولى.
لقد كان المفهوم الاسلامي السابق عن الشرك قبل بروز النظرية الوهابية ، هو الاعتقاد بوجود شريك لله تعالى و ليس مجرد طاعة غير الله كطاعة الشيطان مثلاً والتي وردت بصيغة العبادة ، فان طاعة الشيطان ذنب إذا لم تكن تعني عبادته من دون الله تعالى ، و بالتالي فان الله يغفر الذنوب جميعا الا الشرك به ، كما تقول الآيات الكريمات التاليات: (ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) 48 النساء ، (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) 116 النساء ، (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) 72 المائدة ، ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير) 31 الحج ، مما يدل على وجود مفهومين للشرك أصغر و أكبر ، كوجود مفاهيم مختلفة و درجات متفاوتة عن الإيمان و الاسلام و النفاق و العبادة و ما الى ذلك.
ولكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، تبعاً للشيخ ابن تيمية كان يعتبر بعض الممارسات المختلف حولها بين المسلمين مثل دعاء الأنبياء و الصالحين والاستغاثة بهم ، شركاً ، و شركاً أكبر مخرجا عن الملة و الدين.
يقول: إن معنى كلمة (الله) : المألوه المقصود المعتمد عليه [1] ، والمدعوّ و المرجوّ [2]. ويعرَّف (الإله) بأنه: الذي فيه السر.  ويقول :” ان المعبود عند العرب ، هو الاله الذي يسمونه عوامنا (السيد) و (الشيخ) و (الذي فيه السر) والعرب الأولون يسمون الألوهية ما يسميها عوامنا (السر) لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر ، وكونه يصلح ان يدعى ويرجى ويخاف منه ويتوكل عليه”.[3]
ولذلك فقد أطلق كلمة (التوحيد) على توحيد الألوهية (وهو توحيد الله تعالى بأفعال العباد كالدعاء والنذر والنحر والرجاء والخوف والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة ) وليس توحيد الربوبية الذي يعني (الإيمان بالخالق الواحد) . وقال : ان الكفار على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور الا الله وحده ، ولكنهم لم يكونوا يقومون بتوحيد الألوهية ، وان هذا التوحيد هو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه.[4]
وقال: ” ان التوحيد هو إفراد الله بالعبادة ، وهو دين الرسل الذين ارسلهم الله الى عباده فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله الى قومه لما غلوا في الصالحين وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً… وأخر الرسل محمد (ص) وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين ، أرسله الى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله ، لكنهم – يعني كفار قريش – يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله” [5] و ” ان التوحيد الذي جحدوه هو (توحيد العبادة) “.[6]

وقال : “ان الكفار الذين قاتلهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانوا يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عز وجل ، ولكنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية ،  وذلك أن المشركين كانوا يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى و عزير وغيرهم من الأولياء ، فكفروا بهذا مع اقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر. واذا عرفت هذا عرفت معنى (لا اله الا الله ) ، وعرفت أن من نخا نبيا أو ملكا أو ندبه او استغاث به ، فقد خرج من الاسلام “.[7]
وقال بعد ذلك :” ان الاعتقاد  بأن الله هو الخالق والرزاق وحده ولاشريك له، وانه لايرزق الا هو ، ولا يدير الامر الا هو ، وبأن جميع السموات والارض ومن فيهن ، والارضين السبع ، ومن فيها ، كلهم عبيد، وتحت تصرفه..كل ذلك لايفيد ولا يجعل الانسان موحداً ، ولا مسلماً  “. [8] وأضاف:” ان ترك الشرك ليس قول (كلمة التوحيد) باللسان فقط ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، وانما بالكفر بما يعبد من دون الله”.[9]
واعتبر أن من الشرك الأكبر : الاستغاثة بغير الله ، وكذلك طلب الشفاعة من النبي او الأولياء والصالحين ، وقال:” من طلب الشفاعة من محمد (ص) كان كمن طلبها من الاصنام سواء بسواء”.[10]
وذكر في كتابه (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين ، وأن (وداً و سواعاً و يغوث ويعوق ونسراً) هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان الى قومهم أن اعبدوها . وقال: ان من نخا نبيا أو ملكا أو ندبه او استغاث به ، فقد خرج من الاسلام ، وهذا هو الكفر الذي قاتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عليه المشركين … وان كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفرا من الذين قاتلهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .[11]
و قال: ان ” من طلب الشفاعة من محمد (ص) كان كمن طلبها من الاصنام سواء بسواء “.[12]  و”ان هذا هو الشرك الأكبر”. وان هذا ما يفعله الكفار عند عبادتهم للأصنام.[13]  إذ أنهم لا يعتقدون أن تلك الأخشاب والاحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ .[14]
وقال : لا تظنوا ان الاعتقاد في الصالحين مثل الزنا والسرقة ، بل هو عبادة الأصنام ، من فعله كفر وتبرأ  منه رسول الله (ص) .. وان دين الكفار الذي كفرهم به هو (الاعتقاد في الصالحين)  الذين كانوا يقولون : انما اعتقدنا فيهم ليقربونا الى الله زلفى ويشفعون لنا [15]. وقال: ” ان هذا الذي يسميه “المشركون” في زماننا هذا : “الاعتقاد” هو الشرك الذي أنزل الله في القرآن وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه، وان شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا “.

تكفير عامة المسلمين
ولما كانت زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين منتشرة في جميع البلاد الاسلامية ، فقد اعتبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب عامة المسلمين  كفارا ومشركين ومرتدين كأهل الجاهلية الأولى ، أو أضل منها ، وقال:” ان أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان و زيَّن لهم الشرك بالله ، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم”.[16] “وإن المشركين في زماننا أضل من الكفار الذين في زمان رسول الله .. فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر : عبادة الأصنام ” [17] ، وذلك لأنهم ” يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يريدون شفاعتهم عند الله، لظنهم أن الله يحب ذلك وأن الصالحين يحبونه  … وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يُقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر إن من فعل ما استحسنوا فقد حَرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
وهذه هي المسألة التي تَفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الله الجهاد كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)” [18].
واستنتج  الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، من خلال الربط بين أفعال مشركي الأمم السابقة وبين ما يفعله المسلمون المعاصرون له من زيارة القبور والدعاء عندها وطلب الشفاعة منها أو الاستغاثة بها ، ارتداد الأمة الاسلامية وعودتها الى شرك الجاهلية الأولى وعبادة الأوثان والأصنام (أي القبور) .[19]
وقال:” اتبع هؤلاء سنن من قبلهم وسلكوا سبيلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حذو القذة بالقذة ، وغلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة الجهل وخفاء العلم ، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة  والبدعة سنة ، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير وطمست الاعلام واشتدت غربة الاسلام ، وقل العلماء وغلب السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس”.[20]
واعتبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أيضا ،  عامة البدو في زمانه ، كفارا ، وقال: إن كفرهم أعظم من كفر اليهود . واستنكر اطلاق صفة المسلمين عليهم لمجرد انهم يقولون (لا اله الا الله) مع انهم حسب قوله لا يعلمون من الاسلام شيئا. وقال: ” ما أحسن ما قال واحد من البوادي ، لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام ، قال : ( أشهد أننا كفار – يعني هو وجميع البوادي – واشهد أن المطوع الذي يسمينا أهل الإسلام أنه كافر ! )”  . و “من المعلوم عند الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم.. فان كان للوضوء ثمانية نواقض ، ففيهم من نواقض الاسلام أكثر من المائة ناقض”.[21]
وبالاضافة الى التكفير بسبب زيارة قبور الاولياء والصالحين ، والاستغاثة بهم وطلب الشفاعة منهم ، وهو ما كان يشترك فيه السنة والشيعة بصورة عامة ، فقد كانت لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب عوامل أخرى اضافية لتكفير الشيعة الذين سماهم “الرافضة” [22]. ولم تكن لتلك العوامل علاقة مباشرة بنظرية التوحيد ، وانما كانت – في نظره – تدخل بصورة غير مباشرة في نواقض الإيمان ، وتلك العوامل أو النقاط هي: القول بالعصمة والنص والوصية في الامامة وانحصارها في أهل البيت ، وإنكار شرعية خلافة الخلفاء ، وسب الصحابة والقول بارتدادهم ، وادعاء نقص القرآن. [23]
و بناء على ذلك قال عنهم:” إني لا اعتقد كفر من كان عند الله مسلماً ، ولا إسلام من كان عنده كافراً ، بل أعتقد من كان عنده كافراً كافراً ، وما صح عن العلماء من أنه لا يكفر أهل القبلة فمحمول على من لم يكن بدعته مكفرة ، لأنهم اتفقت كلمتهم على تكفير من كانت بدعته مكفرة ، ولا شك ان تكذيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما ثبت عنه قطعا كفر ، والجهل في مثل ذلك ليس بعذر”.[24]
وقد اعتبر “الرافضة” مشركين ، بناء على حديث رواه بحقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) يقول فيه:” يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت لهم نبز يسمون الرافضة ، قاتلوهم فانهم مشركون”. [25]

عدم العذر بالجهل
وشرط الولاء السياسي

واشترط الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، شروطا ثمانية للإيمان ، وكان منها الولاء والبراء ، ولذلك لم يكتف من المؤمنين بنظريته ، مجرد الامتناع عن الاستغاثة بالأولياء والصالحين أو زيارة قبورهم وطلب الشفاعة منهم ، وانما طالبهم بترجمة ايمانهم الى موقف عملي بالانضمام الى صفوفه. واعتبر من يتردد في ذلك او يتخذ موقفا مؤيدا “للمشركين” كافرا أيضا. وقد قال في رسالته الى شريف مكة أنه يكفر حتى من يعرف (التوحيد) الذي أظهره للناس ، ويقر بأن الاعتقاد في الحجر والشجر والبشر شرك بالله ، اذا لم يلتفت الى (التوحيد) ولم يتعلمه ولم يدخل فيه ولم يترك (الشرك). وكذلك من لم يهاجر اليه وفضل البقاء مع أهل بلده والقتال معهم. وعرّف الكافر :” بأنه الشخص الذي عرف “دين الرسول” وظل واقفا ضده ، ويمنع الآخرين من اعتناقه ويظهر العداء لمن يتبع دينه”.[26]
و هكذا  وبعد أن توصل الشيخ الى نظريته الخاصة والجديدة في (التوحيد) أعلن وهو في العيينة ، في رسالة مفتوحة بعث بها الى القرى المجاورة : ( الرياض ومنفوحة والدرعية وحريملا )  قائلا:” أنا أخبركم عن نفسي.. وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى (لا إله الا الله) ولا أعرف دين الاسلام ، قبل هذا الخير الذي مَنَّ الله به ، وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك. فمن زعم من علماء “العارض” أنه عرف معنى (لا اله الا الله) أو عرف معنى الاسلام قبل هذا الوقت ، أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك ، فقد كذب وافترى  ولبّس على الناس ومدح نفسه بما ليس فيه “.[27] وقال أيضا:”الله.. ألله.. عباد الله!.. لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله ، وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر ، فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم ، فلله الحمد على ما علمنا من دينه”.[28]
وقال منتقدا علماء زمانه:” ان الله سبحانه لما أظهر شيئا من نور النبوة في هذا الزمان ، وعرف العامة شيئا من الاسلام ، وافق أنه قد ترأس على الناس رجال من أجهل العالمين وأبعدهم من معرفة ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) … ويدعون أنهم يعملون بالشرع ولا يعرفون شيئا من الدين الا شيئا من كلام بعض الفقهاء.. وأما العلم الذي بعث الله بن محمد (ص) فلم يعرفوا منه خبرا ولم يقفوا منه على عين ولا أثر… فهؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء أشتد انكارهم علينا لما تكلمنا بذلك ، وزعموا أنهم لم يسمعوا  من مشايخهم ومن قبلهم. فلما ظهر هذا الأمر اجتهدوا في عداوته واطفائه بما أمكنهم وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم”.[29]
وكتب الى شيخ أهل (رغبة) أحمد بن يحيى ، قائلا:” هذه الفتنة الواقعة ليست في مسائل الفروع ولكن في شهادة أن لا إله إلا الله”.[30] وان :” من عبد الله ليلاً ونهاراً ، ثم دعا نبيا أو وليا عند قبره ، فقد اتخذ إلهين اثنين ، ولم يشهد أن لا إله إلا الله ، لأن الإله هو: (المدعوّ)… وهذا الشرك قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها ، الا الغرباء المذكورين في الحديث (وقليل ما هم)”.[31]
وكتب الى قاضي الرياض الشيخ سليمان بن سحمان ، قائلا  :” .. الى الآن ، أنت وأبوك ، لا تفهمون شهادة لا اله الا الله.. ونكشف لك هذا ، لعلك تتوب الى الله وتدخل في دين الاسلام ، ان هداك الله … ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الاسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم”. [32]
و قام  الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتكفير بعض الناس على التعيين ، حيث  أعلن كفر بعض الأشراف  والزهاد ومشايخ الصوفية ، الأحياء ،  الذين كان ينذر لهم الناس ويطلبون منهم الدعاء من الله لشفاء المرضى والتفريج عن المكروب ، من أمثال (آل شمسان وتاج وحطاب وطالب الحمضي وحسين وإدريس) واعتبرهم شركاء لله في توحيد الربوبية و الإلهية.[33]
و حكم على  من  شك في كفرهم بالكفر أو الفسق ، فقال:” اذا عرفتم ذلك فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل (الخرج) وغيرهم … كلهم كفار مرتدون عن الاسلام ، ومن جادل عنهم ، أو أنكر على من كفّرهم ، أو زعم : ان فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم الى الكفر . فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق ، لا يقبل خطه ولا شهادته ولا يصلى خلفه ، بل لا يصح دين الاسلام الا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم”.[34]
وقال:  ”..أما الكلام في الطواغيت مثل إدريس وآل شمسان ، فالكلام على هذا طويل… ونقل الاجماع على أن من فعل عشر معشار فعل هؤلاء الطواغيت أنه كافر حلال الدم والمال ، وقد صرح بأن من شك في كفرهم فهو كافر ، فكيف اذا مدحهم وأثنى عليهم؟.. وكفر هؤلاء وادعاؤهم الربوبية متواتر عند الخاص والعام والرجال والنساء ، وهم الآن يُعبدون ويدعون الناس الى ذلك”.[35]  ولم يكن يجد حرجا في تكفير قاضي الرياض سليمان بن سحيم وأمثاله لمجرد الاختلاف معه ورفض مفهومه الخاص للشرك والتوحيد.
وعندما توقف بعض أتباع الشيخ ، في مسألة التكفير لعامة المسلمين او لبعضهم على التعيين ، وطرحوا عليه موضوع عدم قيام الحجة عليهم ، وسألوه عن قول الشيخ ابن تيمية: ( من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر) أجابهم قائلا:” ما ذكرتموه من قول الشيخ: ( من جحد كذا وكذا) وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم: هل قامت عليهم الحجة ؟ أم لا؟ فهذا من العجب العجاب ، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارا ؟! فان الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالاسلام ، والذي نشأ ببادية بعيدة ، أو يكون ذلك في مسألة خفية … فان حجة الله هي القرآن ، فمن بلغه فقد بلغته الحجة ، ولكن أصل الاشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة ، فان أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم… اذا علمتم هذا فهذا الذي أنتم فيه ، وهو الشك في أناس يعبدون الطواغيت ويعادون “دين الاسلام” ويزعمون انه ردة لأجل انهم ما فهموا ، كل هذا أظهر وأبين مما تقدم”.[36]
وعندما وجد  لدى بعض الناس صعوبة في تقبل عملية التكفير العامة التي يقوم بها ، قال:” قد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم .. فياليت قيامكم في عظائم في بلدكم تضاد أصل الاسلام: (شهادة أن لا اله الا الله وان محمد ا رسول الله) ، منها وهو أعظمها : عبادة الأصنام عندكم من بشر وحجر ، هذا يذبح له وهذا ينذر له ، وهذا يطلب اجابة الدعوات واغاثة اللهفات ، وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر ، وهذا يزعمون ان من التجأ اليه ينفعه في الدنيا والآخرة.. فان كنتم تزعمون ان هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن فهذا من العجب”.[37]
وكتب في رسالة الى قاضي الدرعية الشيخ عبد الله بن عيسى ، وابنه ، في بداية دعوته عندما كان في العيينة ، قائلا :” ذكر لي أنكم زعلانين في هذه الأيام ، ولا يخفاك أني زعلان زعلاً كبيرا وناقد عليكم نقودا أكبر من الزعل… وقيل لي: انكم  ناقدون علي بعض الغلظة ، والأمر أغلظ مما ذكرنا. ولولا أن الناس الى الآن ما عرفوا دين الرسول وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه ، لكان شيء آخر . بل والله الذي لا إله إلا هو ، لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم (قاضي الرياض) وأمثاله ، ووجوب قتلهم ، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم ، لا أجد نفسي حرجا من ذلك. ولكن ان أراد الله أن يتم هذا الأمر تبين أشياء لم تخطر لكم على بال”.[38]


وأرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب  أيضا رسالة عنيفة الى أحد تلامذته في الاحساء وهو  الشيخ أحمد عبد الكريم ، الذي تراجع عن التكفير واستشكل في الحكم بكفر من يعارض الوهابية ، وقال فيها:” نسأل الله ان يهديك لدين الاسلام… قرناء السوء أضلوك ، كما هي عادتهم ، وأنت – والعياذ بالله – تنزل درجة درجة أول مرة في الشك وبلد الشرك ، وموالاتهم والصلاة خلفهم وبراءتك من “المسلمين” مداهنة لهم. ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره وتبرأت من “ملة إبراهيم” وأشهدتهم على نفسك باتباع “المشركين” من غير إكراه لكن خوف ومداراة.
تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ (ابن تيمية) أزال عنك الإشكال. العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز[39] وصالح بن عبد الله وأمثالهما كفرا ظاهرا ينقل عن الملة ، فضلا عن غيرهما”.[40]

وقال: “من لم يكفر (المشركين) أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر… ولا فرق بين جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف والمكره”.[41] أو ” من لم يكفر (المشركين) أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم  فهو كافر”.[42]

غربة الاسلام والمسلمين

وقد استساغ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عملية تكفير عامة المسلمين واتهامهم بالشرك ، اعتمادا على بعض الأحاديث التي تشير الى غربة الاسلام في آخر الزمان ، وسير الأمة الاسلامية سيرا انحداريا أبديا ، فقال:” مما يدل على غربة الاسلام ما أخبر به النبي من وقوع الشرك في هذه الأمة (حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) و ( تدور رحى الاسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين ، فان يهلكوا فسبيل من هلك ، وان يقم لهم دينهم يقم تسعين عاما)..
فلما طال الأمد بعدهم ، صارت كتبهم في أيدي أناس جهلة فرجعوا الى ما كان عليه من قبلهم ممن مضى من المبتدعة وكثر الشرك في القرى والأمصار ، وصاروا لا يعرفون من التوحيد الا ما تدعيه الأشاعرة .. حتى نسي العلم وعم الشرك والبدع الى منتصف القرن الثاني عشر ، فانه لا يعرف إذ ذاك عالم أنكر شركا أو بدعة مما صار في آخر هذه الامة”.[43]
وقد اعتمد  أيضا على حديث لابن مسعود يقول فيه: ( ليس عامٌ الا والذي بعده أشرّ منه ، لا تقول عامٌ أخصب من عام ولا أميرٌ خير من أمير ، لكن ذهب علماؤكم وخياركم ، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الاسلام وينثلم).

وقال في رسالة له الى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف:” ان رسول الله وأصحابه.. أخبروا انه لا يصبر على الدين الا الواحد بعد الواحد ، وان الاسلام يصير غريبا كما بدأ.. فاذا كان الاسلام يعود كما بدأ ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس وإطباقهم” [44] ” فلتكن قصة اسلام سلمان الفارسي منكم على بال ، ففيها: انه لم يكن على دين الرسل الا الواحد بعد الواحد ، حتى ان آخرهم قال  عند موته: لا أعلم على وجه الأرض أحدا على ما نحن عليه ، ولكن قد أطل زمان نبي. واذكر مع هذا قول الله تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض الا قليلا ممن  أنجينا منهم)”.[45]
وقال في رسالة له الى أهل حريملا :” في الصحيحين: ان بعث النار من كل ألف تسعة و تسعون وتسعمائة ، وفي الجنة واحد من كل ألف.. بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ”.[46]
وأضاف الشيخ الى ذلك حديث افتراق الأمة الى أكثر من سبعين فرقة كلهم في النار الا واحدة ، ليشطب على جماعة الأمة ، ويهون من خطب تكفير عامة المسلمين وحصر الحق في طائفته فقط .[47]
إذ فسر  مفهوم الجماعة بمعنى آخر وهو: (أهل الحق وان قلوا) ، والتأكيد على أقلية الغرباء في كل العصور ، فقال لأحد أصحابه القلقين : ” لعلك تنجو من الهوة الكبيرة التي هلك فيها أكثر الناس وهي الاقتداء بالاكثر وبالسواد ، والنفرة من الأقل… فان كان الناس كلهم على باطل الا واحدا ، فهم الشاذون. وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل الا نفرا يسيرا ، فكانوا هم الجماعة ، وكانت القضاة يومئذ والمفتون والخليفة وأتباعهم كلهم الشاذون ، وكان الامام وحده  هو الجماعة”.[48]
ومن هنا فقد اطلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب في جميع كتبه ورسائله ، كلمة “المشركين” على عامة المسلمين ، وطلب منهم التوبة والرجوع الى (التوحيد). وسمى أتباعه فقط بـ: “الموحدين” و”المسلمين” .[49]
رد الفعل الاسلامي
وقد رفض كثير من علماء نجد نظرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تكفير زوار القبور واعتبار الزيارة شركا ، بالرغم من انتماء بعضهم للمذهب الحنبلي والسلفي ومدرسة ابن تيمية وابن القيم.[50]
و حكم بعض هؤلاء ، كالشيخ عبد الله المويس وابن اسماعيل وابن عبيد ، على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بالردة [51]، والخروج من دين الاسلام.[52] وقاموا بإرسال رسائل تحريض عامة في إنكار الدعوة الوهابية والبراءة من أصحابها.[53]. وأنكروا على الشيخ تكفير المسلمين وإعلان الحرب عليهم.[54]
وكتب الشيخ سليمان بن سحيم ، عالم أهل الرياض ، رسالة الى أهل البصرة و الأحساء ، ضد الشيخ ، جاء فيها:” .. انه يقول: الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. وتصديق ذلك أنه بعث إليّ كتابا يقول فيه: اقروا أنكم قبلي جهال ضلال. ومن أعظمها: ان من لم يوافقه في كل ما قال ويشهد أن ذلك حق ، يقطع بكفره ، ومن وافقه وصدقه في كل ما قال ؛ قال : (أنت موحد). ولو كان فاسقا محضا ومكاساً … ومنها أنه قاطع بكفر سادة عندنا من آل الرسول ، لأجل أنهم يأخذون النذور ، ومن لم يشهد بكفرهم فهو كافر عنده”.[55]
أما محمد بن عبد الرحمن ابن عفالق فقد أخذ على الشيخ محمد بن عبد الوهاب تكفير الأمة كلها [56]، وقال:” هذا الرجل كفّر الأمة ، بل والله وكذّب الرسل وحكم عليهم وعلى أممهم بالشرك ، وحلف يميناً فاجرة أن اليهود والمشركين أحسن حالا من هذه الأمة. لقد كفّر هذه الأمة بأسرها وكفّر من لم يقل بضلالها وكفرها”.[57] وهكذا قال علوي الحداد:” اذا أراد رجل أن يدخل في دينه ، يقول له : اشهد على نفسك أنك كنت كافرا ، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين ، واشهد على العالم الفلاني والفلاني أنهم كفار، وهكذا.. فان شهد بذلك قبله والا قتله”.[58]   ويقال إنه كان يأمر ” المسلمين” الجدد بحلق رؤوسهم  كما كان رسول الله (ص) بأمر المشركين عند دخولهم في الاسلام ، ويقول:” ألق عنك شعر الكفر” .[59]
وهذا ما يفسر قيام علماء الحرمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة)  في ابان امارة الشريف مسعود بن سعيد بن زيد (المتوفي سنة 1165هـ)  بإعلان كفر الوهابيين ، بعد حوار مع وفد منهم.[60]
ويمكن القول ان تكفير العلماء المسلمين للشيخ وأتباعه ، كان رد فعل على تكفيرهم لعامة المسلمين ابتداءاً ، وليس العكس ، حيث  رفض علماء الاسلام التفسير الوهابي لمعنى الشرك والتوحيد  الذي يخلط بين الشرك الأصغر الذي لا يُكفّر ولا يُخرج من الدين ، وبين الشرك الأكبر الصريح الذي يجعل مع الله الها آخر .

و يمكن ملاحظة ذلك من خلال شهادة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ، الذي كان يشغل منصب القضاء في (حريملاء) ،  والذي انتقد أخاه قائلا:” اذا طلبت منه ان يعرض كلامه على اهل العلم لم يفعل بل يوجب على الناس الاخذ بقوله وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر … إن الامة كلها تصيح بلسان واحد ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار او جهال”.[61]
وقد قال للوهابيين بصراحة:” إنكم الآن تكفرون من شهد ان لا اله الا الله وحده وان محمدا عبده ورسوله واقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسوله ملتزما لجميع شعائر الاسلام وتجعلونهم كفار او بلادهم بلاد حرب”.[62]
وقال:” ..لكنكم اخذتم هذا بمفاهيمكم وفارقتم الاجماع وكفرتم امة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم حيث قلتم من فعل هذه الافاعيل فهو كافر ومن لم يكفره فهو كافر”.[63] “  كل هذه البلاد عندكم بلاد حرب، كفار اهلها ، لانهم عبدوا الاصنام على قولكم ، وكلهم عندكم مشركون شركا مخرجاً عن الملة فانا لله وانا اليه راجعون”.[64] وقال أيضا:” أنتم اليوم تكفرون من ليس فيه خصلة واحدة مما في اولئك (المشركين) بل الذين تكفرونهم اليوم وتستحلون دماءهم واموالهم ، عقايدهم : عقايد اهل السنة والجماعة الفرقة الناجية” .[65]
وحذرهم قائلا:” ياعباد الله تنبهوا و ارجعو الى الحق وامشوا حيث مشى السلف الصالح وقفوا حيث وقفوا ، و لا يستغركم الشيطان ويزين لكم تكفير أهل الاسلام وتجعلون ميزان كفر الناس مخالفتكم وميزان الاسلام موافقتكم ” [66].” يا عباد الله.. اتقوا الله خافوا ذا البطش الشديد لقد آذيتم المؤمنين والمؤمنات ( ان الذين يرمون المومنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا) والله ما لعباد الله عند الله ذنب الا انهم لم يتبعوكم على تكفير من شهدت النصوص الصحيحة باسلامه واجمع المسلمون على اسلامه فان اتبعوكم اغضبوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وان عصوا آراءكم حكمتم بكفرهم وردتهم”.[67] “فانتم الان تكفرون باقل القليل من الكفر، بل تكفرون بما تظنون انتم انه كفر ، بل تكفرون بصريح الاسلام ، فان عندكم ان من توقف عن تكفير من كفرتموه خايفاً من الله تعالى في تكفير من رأى عليه علامات الاسلام فهو عندكم كافر”.[68]
و  عندما  أرسل الامير عبد العزيز بن محمد بن سعود ، رسالة الى سليمان باشا الكبير والي بغداد العثماني ، مع  نسخة من كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب (التوحيد) وطلب منه ان يجمع العلماء للنظر في كتاب الشيخ ، والايمان بما جاء فيه . أنكر علماء بغداد بزعامة الشيخ عبد الله أفندي الراوي ، ما جاء في الكتاب من أفكار .[69]
ورد المرجع الديني الشيعي النجفي الشيخ جعفر كاشف الغطاء على نظرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب ،  بكتاب تحت عنوان (منهج الرشاد لمن أراد السداد) فند فيه (النظرية الوهابية) التي تتهم عامة المسلمين بالشرك والكفر . وفرّق بين المشركين الذين كانوا يعبدون الصالحين ويعتقدون انهم شركاء لله ، وبين المسلمين الذين يوحدون الله ويتوسلون بالأولياء الذين يعتقدون ان لهم مكانة خاصة عنده .[70]


محاولة نفي تهمة التكفير

و أمام حملة الاستنكار الواسعة التي جوبه بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتكفيره عامة المسلمين ، حاول ان ينفي تهمة التكفير بالعموم ، و اتهم خصومه بتلفيقها ضده ، فقد كتب الى بعض العلماء قائلا :” أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت اليكم ، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم ، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي ، فمنها قوله:… إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء .. وإني أكفر من توسل بالصالحين وإني أكفر البوصيري لقوله ( يا أكرم الخلق..) وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله (ص) لهدمتها .. وإني أحرم زيارة قبر النبي ، وإني أكفر من حلف بغير الله.
جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم..
إني أقول: لا يتم اسلام الانسان حتى يعرف معنى (لا إله إلا الله) وإني أعرف من يأتيني بمعناها ، وإني أكفر الناذر اذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك ، وان الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام ، فهذه المسائل حق وأنا قائلها”.[71] ” وما ذكره المشركون  .. على أني أكفر جميع الناس الا من تبعني ، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة ، فيا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ وهل يقول هذا مسلم ؟ أني أبرأ الى الله من هذا القول الذي ما يصدر الا عن مختل العقل فاقد الادراك ، فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة “.[72]
وهكذا كتب الى الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي ، في العراق ، رسالة يرد فيها على “تهمة” التكفير بالعموم :”.. ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس الا من اتبعني ، وأزعم أن انكحتهم غير صحيحة. ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم؟ أو كافر؟ أو عارف ؟ أو مجنون؟… وأما التكفير فلم نقاتل أحدا الى اليوم الا دون النفس والحرمة ، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة ( وجزاء سيئة سيئة مثلها) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه”.[73]

وكتب أيضا الى شريف مكة ( مسعود ) ينفي لديه تهمة التكفير بالعموم ، قائلا:” وأما الكذب والبهتان ، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة الينا على من قدر على إظهار دينه ، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم  يقاتل ، ومثل هذا وأضعاف أضعافه ، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
واذا كنا لا نكفر مَن عَبَدَ الصنم الذي على قبر عبد القادر ، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما ، لأجل جهلهم وعدم من ينبههم ، فكيف نكفر من لم يشرك بالله اذا لم يهاجر الينا ولم يكفر ويقاتل؟(سبحانك هذا بهتان عظيم ) “.[74]
وأرسل عام 1185 هـ  الى شريف مكة أحمد بن سعيد  ، مندوبا عنه هو الشيخ عبد العزيز الحصين ، وحمّله رسالة مليئة بالحب والتقدير والاحترام والدعاء للشريف .[75] ونفى المندوب أمام  علماء مكة (يحيى بن صالح الحنفي ، وعبد الوهاب بن حسن التركي ، وعبد الغني بن هلال) تهمة التكفير بالعموم التي كانت موجهة الى الوهابيين . [76]

ونفى كذلك في رسائل أخرى ، عملية التكفير بالعموم ، فقال:” وأما التكفير فأنا أكفّر من عرف دين الرسول (ويقصد المفهوم الوهابي للتوحيد) ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله ، فهذا هو الذي أكفر . وأكثر الناس ولله الحمد ليسوا كذلك” [77]

ورغم أنه ينفي في رسائله تلك ما يسميه تهمة التكفير بالعموم ، الا انه يؤكد في طياتها ما يحاول ان ينفيه ، وقد نفى في الرسالة الثانية ، تكفيره لمن يتوسل بالصالحين ، وهذا ما يتناقض مع أهم تصريحاته الشهيرة التي يقول فيها ” أن من نخا نبياً أو ملكاً أو ندبه او استغاث به ، فقد خرج من الاسلام ، وان كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفرا من الذين قاتلهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)”.[78] كما نفى عزمه على هدم قبة رسول الله (ص) مع أنه يقول : ” لا يجوز ابقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها و إبطالها يوما واحدا ، فانها شعائر الشرك والكفر  ، وهي أعظم المنكرات ، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة ، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل . لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته ، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى “.[79] ولم يكن هناك من سبب يدعوه لاستثناء قبة  الرسول من بين القبب التي قدر عليها وهدمها فعلا.

ورغم انه نفى في عدة رسائل أخرى تكفير جميع الناس الا من اتبعه ، واتهم من يتهمه بذلك باختلال العقل وتبرأ الى الله من قائله ، وادعى انه لم يقاتل الناس الا دفاعا عن النفس وعلى سبيل المقابلة [80] ، الا انه اعترف أيضا بقتال من يعارضه متهما اياه بالمجاهرة بسب (دين الرسول) أي الوهابية ، كما اعترف أيضا في رسالته الى شريف مكة بقتال حتى ” من عرف التوحيد الذي أظهرناه للناس ، وأقر أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر ، الذي هو دين غالب الناس ، هي الشرك بالله ، ولكنه لم يلتفت الى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه ولا ترك (الشرك)” ، وقال: ان هذا كافر نقاتله بكفره. فضلا عن غيره من عامة الناس الذين لا يؤمنون بمبادئه.
وقد أكد ضمناً في تلك الرسالة اتهام غالب الناس بأن دينهم الشرك بالله.. واتهم من يزور القبور والأولياء بعبادتهم.
ويوجد في كلامه تناقض واضح فهو يصم الأضرحة التي على قبور الأولياء والصالحين (كقبر عبد القادر وأحمد البدوي) بأنها أصنام ، ويتهم زوارها بعبادتها ، ومع ذلك يقول إنه لا يكفرهم لجهلهم ، علما بأنه لا يعتبر الجهل عذراً في عدم التكفير، إذ يقول:” إن الانسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل ، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه الى الله ، كما ظن المشركون”.[81]
ولو توقفنا عند قوله ” أنا اكفّر من عرف (دين الرسول) ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفر” لرأينا أنه يعترف بتكفير كل من يعارضه على الأقل ، واذا جمعنا هذا الموقف مع أقواله ومواقفه الأخرى التي لا تحصى والتي يطلق فيها اسم (المشركين) على عامة المسلمين لتوصلنا الى أنه لم يكن دقيقا في نفي تهمة التكفير بالعموم ، او انه كان يمارس (التقية) في بداية أمره من باب التكتيك وخداع العدو الأقوى ، أو انه كان يتلاعب بالألفاظ. والا فان  ظاهرة التكفير بالعموم كانت أبرز ملامح الحركة الوهابية.[82]
























[1] -   راجع:  ابن تيمية : الرسالة التدمرية ص 60
[2]  - حسين  بن غنام: تاريخ نجد ، ص 243 – 244
[3]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 287
[4]  - محمد بن عبد الوهاب: الرسالة المفيدة
[5]  - محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ص 5 ، راجع أيضا: (باب : ان سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين) من كتاب (التوحيد)
[6]  - محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ،   ص 9
[7]  -  محمد بن عبد الوهاب: رسالة في (معنى لا اله الا الله)
[8]  - محمد بن عبد الوهاب:  التوحيد ص 36
[9]  -  محمد بن عبد الوهاب: التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا اله الا الله.
[10] -  وكان  ابن تيمية قد اعتبر زيارة قبور الأولياء والأنبياء والصالحين ، والتوسل والاستغاثة بهم ، نوعا من الشرك المنافي للتوحيد والألوهية وعبادة الله ، وقال: إن ” هذه البدعة هي أصل الشرك وتبديل الاسلام. وان عمار المشاهد هم مشركون أو متشبهون بالمشركين. لم يكن بناء المساجد على القبور التي تسمى المشاهد وتعظيمها من دين المسلمين ، بل من دين المشركين” . راجع: كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه ، ج27 ص 16 و كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ص 457 و334
[11]  -  محمد بن عبد الوهاب: رسالة في (معنى لا اله الا الله)
[12]  -  روى عن مالك في الموطأ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ).   محمد بن عبد الوهاب: كتاب التوحيد (باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله) . واعتبر كذلك طلب الشفاعة من النبي (ص) مصداقا لحديث آخر رواه البرقاني  : ( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئة من أمتي الأوثان …).   كتاب التوحيد (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)
[13]  - محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ، ص 26
[14]  -  محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ، ص 36 – 37
[15]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 470 – 471
[16]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 243
[17]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 244
[18]  - محمد بن عبد الوهاب: 128 مسالة من مسائل الجاهلية
[19]  -  محمد بن عبد الوهاب: كتاب التوحيد ، ص 19
[20]  - ومن هنا قال:” لا يجوز ابقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وابطالها يوما واحدا ، فانها شعائر الشرك والكفر  ، وهي أعظم المنكرات ، فلا يجوز الاقرار عليها مع القدرة البتة ، وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل . لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته ، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ، بل أعظم شركا عندهم  .. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد انها تخلق وترزق وانما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم المشركون اليوم عند طواغيتهم ” . ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 284
[21]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 264
[22]  -   انظر كتاب (رسالة في الرد على الرافضة) لمحمد بن عبد الوهاب ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد ، و تقديم عبد الله بن عبد المحسن التركي ، نشر كلية الشريعة في جامعة الامام محمد بن سعود في الرياض سنة 1413 ، 1992. وقد كان (الرافضة)  في التاريخ فريقا صغيرا من الشيعة ولم يكن الشيعة الذين انقسموا الى أكثر من سبعين فرقة ، كلهم رافضة ، كما لم يكونوا كلهم إمامية. ولكن الشيخ عبد الوهاب لم يميز بينهم وبين فرقهم المختلفة البائدة والمنقرضة والمعاصرة ، كما لم يلاحظ التطورات الكثيرة التي حدثت في صفوف الشيعة باتجاه التخلص من الجماعات المتطرفة والآراء والشاذة ، فأطلق على الشيعة جميعا اسم (الرافضة).
[23]  -    فقال في (مطلب الوصية بالخلافة) من كتابه (الرد على الرافضة) ، بعد ان نقل عن الشيخ المفيد حديثا حول تردد النبي في تبليغ الأمر بولاية علي خوفا من الصحابة :” ان من اعتقد منهم صحة ذلك فقد هلك .. واعتقاد ما يخالف كتاب الله والحديث المتواتر كفر ، وان فيه كذبا على الله وعلى رسوله ومن استحل ذلك فقد كفر” . وقال في (مطلب انكار خلافة الخلفاء):”إنكارها يستل تفسيق من بايع الصديق ، وقد بايعه الصحابة ، واعتقاد تفسيقهم يخالف قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ومن اعتقد ما يخالف كتاب الله فقد كفر”. وقال في (مطلب السب):” من سب من قد رضي الله عنه فقد حارب الله ورسوله. ومن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم ومن اعتقد السوء فيهم فقد كذب الله فيما أخبر من كمالهم ومكذبه كافر” وقال في (مطلب دعواهم نقص القرآن):”من اعتقد عدم صحة حفظه من الاسقاط واعتقد ما ليس منه فقط كفر”. وقال في (مطلب فضل الامام علي):” من اعتقد في غير الأنبياء كونه افضل منهم ومساويا لهم فقد كفر” . وقال في (مطلب سبهم عائشة ):”قذفها الآن كفر وارتداد ولا يكتفى فيه بالجلد لأنه تكذيب لسبع عشرة آية من كتاب الله ، فيقتل ردة ، ومكذب القرآن كافر ليس له الا السيف وضرب العنق”.
[24]  -  محمد بن عبد الوهاب: الرد على الرافضة ، مطلب السب ،
[25]  -  وقد بنى اتهاماته تلك ، التي  كفر على أساسها الشيعة ، على أقوال بعض كتاب ومتكلمي الامامية السابقين ، كالمفيد والصدوق والكشي والحلي ، و بعض الروايات التي وجدت في كتبهم الحديثية والكلامية ، والتي لم يقولوا بصحتها جميعا .
[26]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص  299 و 304 ، وهو يقصد بدين الاسلام بالطبع: المفهوم الوهابي للتوحيد .
[27]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 310   من رسالة الى قاضي الدرعية الشيخ عبد الله بن عيسى
[28]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 314
[29]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 413-420
[30]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 353
[31]  - من رسالة للشيخ الى عبد الرحمن بن ربيعة ، مطوع أهل ثادق . ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 342
[32]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص  299 و 304 ، وهو يقصد بدين الاسلام بالطبع: المفهوم الوهابي للتوحيد .
[33]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 474 – 475
[34]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 310  وقال أيضا: ” كفرنا هؤلاء الطواغيت أهل الخرج وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم ، منها : انهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط ، ومنها انهم يدعون الناس الى الكفر ، ومنها : انهم يبغضون عند الناس دين محمد (ص) ويزعمون أن أهل العارض كفروا لما قالوا : لا يعبد الا الله”.  المصدر ، ص 304
[35]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 413-420
[36]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 410 – 411
[37]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، من رسالة للشيخ الى ابن عبد اللطيف ، ص 223
[38]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 327
[39]  - ابن فيروز هو: محمد بن عبد الله ، وقد قال عنه الشيخ في مناسبة أخرى:” انه أقربهم الى الاسلام ، وهو رجل من الحنابلة وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة ، ومع هذا صنف مصنفا وأرسله الينا قرر فيه أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله هو الدين الصحيح”. ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 337
[40]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 343 و345
[41]  - محمد بن عبد الوهاب ، الرسالة الثالثة في نواقض الاسلام ، مجموعة التوحيد المعروفة بمجموعة التوحيد النجدية ، ص 178
[42]  - الدرر السنية ، ج2 ص 360
[43]  - الدرر السنية ج2 ص 219 – 220
[44]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 213
[45]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 219
[46]  -  ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 362 ويؤكد هذا المعنى حفيد الشيخ ، عبد اللطيف بن عبد الرحمن ، في رسالة له الى محمد بن سليمان البغدادي: حيث يقول:” لم ينج من شرك هذا الشرك الا الخواص والأفراد والغرباء في سائر البلاد ، وذلك مصداق ما أخبر به الصادق بقوله: ( بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) قال بعض الأفاضل: الاسلام في وقتنا أشد منه غربة في أول ظهوره” الدرر السنية ص 492 – 493 ويقول أيضا:”هذا الشرك لم يصل اليه شرك جاهلية العرب” المصدر ص 496
[47]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 218
[48]  - كشك ، محمد جلال : السعوديون والحل الاسلامي ص 99
[49]  -  محمد بن عبد الوهاب: تطهير الاعتقاد ، ص 35
[50]  -  وكان من أشدهم:  عبد الله بن عمر المويس التميمي ( – 1175 هـ) ، قاضي بلد (حرمة) و محمد بن عبد الله بن فيروز (1146هـ – 1216هـ) في الأحساء ، و سليمان بن محمد بن سحيم (-1181هـ) في الرياض ، و عبد الله بن عيسى ، وابنه عبد الوهاب ، في الدرعية ، وابن اسماعيل ، في ثرمدا ، وأحمد بن علي القباني البصري ، وعبد الرحمن ابن ربيعة ، في ثادق ، وأحمد بن يحيى ، في رغبة ، ومحمد بن سليمان ، في وثيثية ، ومحمد بن عبد الرحمن ابن عفالق (-1164هـ) وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي ، أستاذ  الشيخ في الأحساء ، وسيف بن أحمد العتيقي (-1189هـ) في حرمة سدير ، وعبد الله بن أحمد بن محمد بن سحيم ، في المجمعة وسدير ، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عدوان (-1179هـ) في أثيثية بالوشم ، ومربد بن أحمد الوهيبي التميمي (-1171هـ) في حريملاء ، وصالح بن عبد الله الصائغ (-1183هـ) القاضي في عنيزة ، و عبد الله بن داود الزبيري (- 1225) و محمد بن سليمان الكردي (1127-1194) في المدينة المنورة.
[51]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 353
[52]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 451
[53]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 342
[54]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 336 ، في رسالة من الشيخ الى أحمد بن ابراهيم ، مطوع أهل مرات .
[55]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 270 – 271
[56]  -  – عبد العزيز  العبد اللطيف: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ص 81 و82
[57]  - عبد العزيز  العبد اللطيف: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ص 163دار الوطن ، الرياض 1412
[58]  - عبد العزيز  العبد اللطيف: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ص 165  وقال زيني دحلان في: (الدرر السنية في الرد على الوهابية) : انهم لا يعتقدون موحدا الا من تبعهم فيما يقولون ، فصار الموحدون على زعمهم أقل من كل قليل ، وكانوا يصرحون بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة ، واذا دخل انسان في دينهم وكان قد حج حجة الاسلام قبل ذلك ، يقولون له: حج ثانيا فان حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك فلا تسقط عنك الحج. راجع دعوى المناوئين ، ص 50 و166
[59]  -   الحصين ، أحمد: دعوة الامام .. سلفية لا وهابية ، ص 278 (عن الحق المبين في الرد على الوهابية المبتدعين ص 45) ويؤيد ذلك ما يقوله الشيخ حسين بن غنام عندما يتحدث مثلا عن عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم فيقول :”انهما سألا الشيخ مسألة في أول إسلامهما” ، ويعنى أول دخولهما في الحركة الوهابية. ابن غنام ، تاريخ نجد ، ص 410 و سليمان بن سحمان : منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع ، ص 75

[60]  - دحلان ، أحمد بن زيني  ، فتنة الوهابية ، ص 7 ، وقد حاول علماء مكة مرة أخرى أن يثنوا نظراءهم من  نجد  ، في مناظرة جرت بينهم في أيام الشريف غالب ،  عن إعلانهم إن المسلم غير الوهابي مشرك وكافر .  الياسيني ، أيمن ، الدين والدولة في السعودية ، ص 71
[61]  - سليمان بن عبد الوهاب: فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب ، ص 4
[62]  -  المصدر ، ص 5
[63]  -  المصدر ، ص 7
[64]  -  المصدر ، ص 7
[65]  -  المصدر ، ص 15
[66]  -  المصدر ، ص 24
[67]  -  المصدر ، ص 27
[68]  -  المصدر ، ص 29 وقد ذكر الشيخ سليمان  في كتابه كثيرا  من الروايات الواردة  عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) والتي تنفي إمكانية الردة الشاملة للأمة الاسلامية او وقوعها في الشرك وعبادة الاوثان ، وخاصة في الجزيرة العربية ، مثل الحديث الذي رواه البخاري ومسلم  :” اني لست اخشى عليكم ان تشركوا بعدي ولكن اخشى عليكم الدنيا ان تنافسوا فيها فتقتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم”  ، أو الذي رواه مسلم:”ان الشيطان قد أيس ان يعبده المصلون في جزيرة العرب”  أو الذي رواه الحاكم وأبو يعلى والبيهقي عن ابن مسعود: ” ان الشيطان قد يئس ان تعبد الاصنام بأرض العرب ولكن رضى منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات ” أو الحديث الذي رواه الامام احمد والحاكم وابن ماجه عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : “أتخوف على امتي الشرك ” قلت : يا رسول الله أتشرك أمتك بعدك ؟ قال:” نعم .. أما انهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن يراؤن باعمالهم”.
[69]  - عبد الرحيم عبد الرحمن ، الدولة السعودية الاولى ، ص 178
[70]  - وقال :” انما كفر عبدة الأصنام ، لأنهم فعلوا ما يعد عبادة من دون أمر الله ، ولأنهم خالفوا أنبياء الله عن نهيهم عن تلك الأشياء ، فكان قصد تقربهم فيما نهى الله عنه ، أما بناء على ان الأصنام للجبار قاهرون ، فيقربوهم قهرا ، او كان استهزاء بالرسل وتكذيبا لهم ، وكل من الكفرين أعظم  من الآخر ، فان المتقربين محصل كلامهم : انا نخالف أمر الله وأمر رسوله ونعبد ما نهينا عن عبادته ليقربنا الى الله”. وقال:” أما ما ذكرت من الإنكار على كثير من المسلمين الاستغاثة بغير الله ودعوة غير الله ، أقول: ان أريد بدعوة غير الله والاستغاثة إسناد الأمر الى المخلوق على انه الفاعل المختار الذي تنتهي اليه المنافع والمضار ، فذلك من أقوال الكفار ، والمسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة او من قائلها ، وما أظن أحدا  ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي ولا  سمعناه من أحد الى يومنا هذا”. وقال:”ان لفظ الدعاء لا يراد به المعنى اللغوي ، والا لكفر جميع الخلق ، فالمراد دعاء العبودية والمربوبية ، كمن دعا الأصنام او الصالحين مع اعتقاد ربوبيتهم وقصد عبوديتهم  مكتفين بها عن عبادة الله او مشركين أولئك مع الله لقصد وصول النفع اليهم منهم وليقربوا الى الله زلفى…ثم المذمة لم تكن على اعتقاد الشفاعة او التقريب زلفى بل على العبادة بهذا القصد ، والمراد بالعبادة أعمال خاصة كما بيناه. ان المقاصد متفاوتة وانما الأعمال بالنيات ولكل  امريء ما نوى. فرب كلمة ظاهرها الإسلام تصير بالنية كلمة كفر وبالعكس. وان كان المدار على الصور دون الحقائق فسجود الملائكة لآدم وسجود يعقوب ليوسف عبادة لغير الله ، وقد أوردنا من الأخبار وكلام الصحابة ما يفيد عدم المنع.
وعلى كل حال: ان أريدت الحقائق في الاستغاثات والدعوات وغيرها ففي ذلك خروج عن طريقة الإسلام ، و الا فلا بأس ، والا لزم ألا يخرج من الكفر أحد من العالم”.محمد الحسين كاشف الغطاء: العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية ، ملحق: منهج الرشاد لمن أراد السداد . تحقيق الدكتور جودت القزويني
[71]  - الدرر السنية ج1 ص 34
[72]  - الدرر السنية ، ج1 ص80
[73]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 323
[74]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 407
[75]  - جاء فيها:” …أن الكتاب لما وصل الى الخادم وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء الى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن اتبعها وعداوة من خرج عنها ، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور. ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم ، امتثلنا الأمر… وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذين بعثه الله منهم وشرفهم على  أهل الأرض ، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته (ص) وغير ذلك يعلم الشريف أعزه الله : أن غلمانك من جملة الخدام ، ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته”. ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 135
[76]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 136
[77]  - الدرر السنية ، ص 71 و83
[78]  -  محمد بن عبد الوهاب: رسالة في (معنى لا اله الا الله)
[79]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 284
[80]  -   يقول صاحب الدرر السنية: ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، لم يكن في ابتداء دعوته يكفر أحدا ، وكان اذا سمع الناس يدعون زيدا بن الخطاب ، يقول: الله خير من زيد ،  ويتلطف بهم بلين الكلام ، نظرا الى المصلحة وعدم النفرة.  الدرر السنية  ، ج 2 ص 211.
[81]  - الحصين ، أحمد: دعوة الامام .. سلفية لا وهابية ص 104
[82]  - وقد تجلى ذلك الموقف بصراحة في كتاب أحد تلامذة الشيخ ومرافقيه وهو الشيخ حسين بن غنام الذي يقول: ” كان أكثر المسلمين – في مطلع القرن الثاني عشر الهجري – قد ارتكسوا في الشرك وارتدوا الى الجاهلية ، وانطفأ في نفوسهم نور الهدى ، لغلبة الجهل عليهم واستعلاء ذوي الاهواء والضلال.. فنبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم … فعدلوا الى عبادة الأولياء والصالحين: أمواتهم وأحياءهم يستغيثون بهم في النوازل والحوادث ، ويستعينونهم على قضاء الحاجات وتفريج الشدائد… وأحدثوا من الكفر والفجور والشرك بعبادة أهل القبور ، وصرف النذور اليهم والابتهال بالدعاء لهم ، ما زادوا به على أهل الجاهلية.. ولقد حدث الغي والضلال والتغيير في الدين منذ زمن قديم.. ولقد  انتشر هذا الضلال حتى عم ديار المسلمين كافة”. (ابن غنام ، تاريخ نجد ص 13 و14)
وفي الحقيقة ان تاريخ ابن غنام يحفل بالعبارات التي تدل بوضوح على اعتبار الداخلين في الحركة الوهابية “مسلمين” والخارجين منها “كفرة ومتدين وضلالا “  حيث  يصف الانقلاب الذي حدث في نجد عام 1178 ، بعد قيام  رئيس نجران (الحسن بن هبة الله) ، بشن هجوم واسع عليها ، بقوله: “ارتد أكثر أهل نجد وسارعوا الى الضلال”.(المصدر ، ص 126) وهكذا يصف خضوع أهل القصيم للأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود عام 1179هـ  ، فيقول:” “وفد عليه أكثر أهل القصيم فدخلوا في الاسلام وخرجوا مما كانوا فيه من عبادة الأوثان ، فأخذ عبد العزيز عليهم العهد ووضع عندهم معلمين يعلمونهم التوحيد والشرائع والاحكام. وأغار سنة 1184 على المحمرة والحائر ، فلم يجد أهل البلد الا الاذعان ، فدخلوا في الاسلام وبايعوا عبد العزيز والتزموا السمع والطاعة”.(المصدر، ص 134)  ويقول عن سقوط الرياض عام 1187 : ” استولى ابن سعود على جميع ما في الرياض من أموال ونخيل فيئا من الله لأنه لم يوجف عليها  خيل ولا ركاب”.(المصدر ، ص 138) معتبرا أهلها المذعورين الذين فروا من القوات الوهابية من الكفار وبلادهم من الفيء.
ويتحدث ابن غنام  عن  استسلام زيد بن زامل صاحب (الدلم) سنة 1190 وقدومه على عبد العزيز في الدرعية ، مع أعيان قومه ، فيقول:” انهم بايعوا على الاسلام … فأقاموا على ذلك زمانا يتظاهرون بالاسلام الى أن شاء الله ان يرتدوا”. كما يتحدث عن أهل سدير ومنيخ ، فيقول:”بدرت سنة 1191 منهم بوادر الارتداد ، فأخذ منهم رهائن لكي لا يرتدوا”.ويقول أيضا:” إن أهل بلدة (حرمة) ارتدوا بالاتفاق مع رؤساء سدير .. وبعد معارك طويلة طلبوا الدخول في الاسلام ، وابدوا التوبة والندم”. ويضيف:”في سنة 1193 ارتد أهل حرمة وأهل الزلفى ، فسار سعود بالمسلمين الى حرمة وقاتل أهلها وحصرهم وقطع نخلهم ، فلما ضيق المسلمون عليهم وطال حصارهم وفقدوا الأمل في النجاة ، طلبوا المصالحة ودخلوا في الاسلام  “. (المصدر ، ج1 ص 139)
ويقول:” في سنة 1196 ارتد أهل القصيم جميعا ، الا أهل بريدة والرس والتنومة ، ونقضوا العهد وأجمعوا على قتل من في بلادهم من المسلمين.. ثم ضاقت الأرض بمن كان قد ارتد  ، فلم يجدوا مفرا  من الدخول في حوزة الاسلام. وارتد أهل الروضة فحاصرهم سعود وشرع في قطع أشجارهم ونخلهم ، فطلبوا الأمان وعاهدوه على الاسلام.
وهجم سعود سنة 1198 على بريدة وقتل منهم نحو خمسين رجلا واستولى على جميع ما فيها من الأموال ، فاظهر أهل القصيم الاسلام .
وسار سعود سنة 1199 الى الدلم وحاصر أهلها وقاتلهم الى ان استسلموا ، وأخذ ما كان في بيوتهم من الحيوانات والأمتعة والسلاح والطعام ، وأخذ نخيلها فيئا… فلما انتشر خبر ذلك ، أصاب الفزع كثيرا من أهل الضلال فأرسلوا الى سعود يطلبون الدخول في الاسلام والطاعة.
وفي سنة 1202 دخل كثير من أهل وادي الدواسر في الاسلام ، وارتد بعضهم بعد ستة اشهر ، فجهز عبد العزيز جيشا وأرسله لقتالهم فقدم عليهم وصب عليهم العذاب وأكثر فيهم القتل حتى ذلوا وهانوا فطلبوا الدخول في الاسلام.(المصدر ، أحداث تلك السنين)
وفي سنة 1206 و 1207  هجم سعود على القطيف والأحساء وقتل وأباد نحو ألف وخمسمائة رجل ، واقام مجازر رهيبة بحق السكان . ” ثم أرسل اليهم كتابا يدعوهم فيه الى الدخول في الاسلام ، والطاعة والانقياد ، ويحذرهم الصد والإعراض ، فبادروا الى الطاعة ولم يترددوا ، وأرسلوا الى سعود يدعونه الى القدوم اليهم ليبايعوه.. فخرج اليه أهل الأحساء وعاهدوه على الاسلام والطاعة .. وما أن ارتحل عن الأحساء حتى أتته الأخبار بأن أهل الأحساء نقضوا العهد وارتدوا عن الدين وقتلوا المسلمين (من الدعاة والمعلمين)”. [82](المصدر ، ص 182- 183)
وهكذا يتحدث ابن غنام عن سائر المناطق والمعارك فيصف الوهابيين بالمسلمين وخصومهم بالكفار والضالين ، ويعتبر خضوع القرى والمدن لسلطة آل سعود دخولا في الدين ، والثورة عليهم ردة عن الاسلام. فيقول :” حين استقر (التوحيد) وثبتت أصوله في جميع بلدان الاحساء ، غشّى قلوب المـُبطلين الحزن والأسى. فأرسلوا كثيرا من الرسائل الى الحكام يستثيرونهم على (المسلمين أهل التوحيد)   وأرسلوها الى سليمان باشا والي بغداد التركي ، يذكرون له فيها أنه لا يصلح لمقاتلة جموع (المسلمين) الا ثويني بن عبد الله. فخلع على ثويني ، وندبه الى قتال (أهل الدين)”. (المصدر ، ص 193)
و ” ارتد كثير من الأعراب وانضموا اليه ، وأقبل عليه جميع آل ظفير ، ونقضوا عهد الاسلام وارتدوا .. وفضحت هذه المحنة كثيرا من الناس الذين لم يستطيعوا أن يصبروا على البلاء ، فزين لهم الشيطان أن يرتدوا ، فنقضوا العهد”.(المصدر ،  ص 194 و195 و199)


الفصل الثاني:
ولادة الدولة السعودية الوهابية الأولى
الهجرة والقتال و الخروج
بعد اعتبار الشيخ محمد بن عبد الوهاب عامة المسلمين كفاراً و مشركين و مرتدين الى الجاهلية الأولى ، كان لا بد ان يأمر أتباعه بالانفصال نفسياً و جسدياً عن “المجتمع الجاهلي” و الهجرة اليه من أجل البدء في تأسيس “المجتمع الاسلامي الموحد”  من جديد ، و الدعوة الى “دين الاسلام والتوحيد”.
و لذلك فعندما  حل ّ الشيخ  في (الدرعية)  أعلنها (دارَ هجرة وإسلام) ، و طلب من أنصاره  الهجرة اليها .[1] و بدأ هؤلاء  يتهافتون عليه و يهاجرون اليه  من كل مكان .[2] و حسبما يقول الشيخ حسين بن غنام فان الهجرة  حدثت كنتيجة لتوتر العلاقة بينهم و بين الآخرين . و ” ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقى في الدرعية سنتين يدعو الناس بالحجة و الموعظة الحسنة ، و يكاتب أهل البلدان و رؤساءهم و مدعي العلم فيهم  فمنهم من قبل الحق و اتبعه و منهم من اتخذه سخرياً واستهزأ به ، و لم يبادر أحداً بالتكفير و لم يبدأ أحداً بالعدوان ، الى أن نهضوا عليه جميعهم بالعدوان و صاحوا في جميع البلاد بتكفيره هو وجماعته و أباحوا دماءهم ، وما اتبعوه من وسائل لإجلائه و جماعته عن البلاد ،  و مطاردتهم بالتعذيب والاضطهاد. و لم يأمر رحمه الله بسفك دم و لا قتال على أكثر أهل الضلال والأهواء ، حتى بدأوه بالحكم عليه و أصحابه بالقتل و التكفير ، فأمر الشيخ حينئذ جماعته بالجهاد ، فامتثلوا لأمره”.[3]
وسواء كان الشيخ عبد الوهاب هو المبادر الى تكفير عامة المسلمين ، كما لاحظنا في الفصل السابق ،  أم كانوا هم المبادرين لتكفيره مع أتباعه ، فان القول بارتداد المجتمع الاسلامي الى الجاهلية الأولى كان يقسم الناس الى فريقين و دارين ، يضع في احداهما “الموحدين” الجدد ، بينما يضع في الأخرى “المشركين”. ويجعل من الأولى (دار اسلام) ، في الوقت الذي يجعل من الأخرى (دار حرب).[4] وقد ذكر ابن غنام نفسه ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد بايع الأمير محمد بن سعود على الجهاد ، في أول مجيئه الى الدرعية. وإنه وعده بالنصرة و الجهاد.[5]
و بناء على ذلك فقد أعلن الشيخ محمد جميعَ بلاد “المشركين” داراً للحرب ، و أمر أتباعه بالانحياز الى جانبه ، و إعلان  الولاء له ، و البراءة من أعدائه . و اعتبر الولاء و البراء شرطاً من شروط الإيمان ، و تركهما ناقضا من نواقض الإيمان العشرة. وأعلن الحرب على “الكفار” وخاصة “الذين بان لهم ان (التوحيد) هو دين الله و رسوله ، ثم ابغضوه و نفّروا الناس عنه ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله”. [6]
و أهدر دماء جميع المسلمين الذين سماهم بـ: “المشركين” و طالبهم بالتوبة و الرجوع الى التوحيد ، و استحل أموالهم و ذراريهم ، و قال :” من رجع منهم حقن دمه و ذراريه ، و من أصر أباح الله منه ما أباح لرسول الله من المشركين”. [7]  و ذلك “لأن مجرد التلفظ بكلمة التوحيد لا يعصم الدم و المال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل و لا الإقرار بذلك، بل و لا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم ماله و دمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله  ، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله و دمه” . [8]
و رغم ما كان يبدو في عملية التكفير و الالتزام بمبدأ الهجرة و القتال ، من ميل الى الخروج عن الدولة “الكافرة” و محاربة “المجتمع الجاهلي” ، فان الوهابيين كانوا يصرون على نفي تهمة (الخروج) عن أنفسهم ، ويتبرءون منها أشد التبرؤ . و ذلك خوفا من انطباق أحاديث الخوارج عليهم ، و هم ملعونون على لسان رسول الله (ص) في التراث السني ، و محكوم عليهم بالرفض و الهجران. إضافة الى ما كان يعنيه الخروج من تحدٍ للدولة العثمانية ودعوةٍ لها لمعاقبتهم. و لذا كان الوهابيون يفرقون بين انفسهم و بين (الخوارج) بأن هؤلاء كانوا يكفّرون الناس على الكبائر ، بينما  هم يكفّرون على ما يدعو الى التكفير و هو الشرك بالله ، و لا يكفّرون على الكبائر. وسواء أعلن الوهابيون الخروج واعترفوا به.. أم لم يعلنوا ذلك ، فان نظريتهم كانت تنطوي على مبرر كبير للخروج و تشكيل دولة مستقلة ، وخاصة في الوقت المناسب و مع توفر القوة الكافية لهم.

و اذا عدنا الى مرجع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، و هو ابن تيمية فسوف نجد انه يفتح نافذة واسعة على الثورة و الخروج والتمرد على الامام أي امام ، و يعطي لصاحب كل قوة ان يتمرد على الامام ، لأنه أساساًً يعقد الامامة لمن غلب ، بغض النظر عن توفر الشرط الشرعية فيه او اختياره عبر  أهل الحل و العقد ، خاصة اذا التزم  الخارجي المتغلب بالشريعة الاسلامية أو أخذ على الامام القائم عدم التزامه بالشريعة ، و ذلك لأن ابن تيمية اعتبر الخروج الحقيقي هو الخروج على الشريعة لا  على الامام ، وبذل قصارى جهده لتحويل الانظار من شخص (الامام) الى (الشريعة) . ولم يكن (الامام) في نظره يشكل مركز الشرعية ، و انما الشريعة هي المعيار لشرعية أي نظام.  وقد اختلف بذلك مع عامة الفقهاء السنة السابقين الذين كانوا يضفون على الحاكم نوعا من القدسية و الشرعية و يحرّمون الخروج عليه .  و قد كان ابن تيمية  يرفض قتال الخوارج (أو الثوار إذا ثاروا ) ، و ذلك بسبب  احتمال اعتماد الخوارج على التأويل . و ينفي وجود أي حديث صحيح يأمر بقتال الخارجين على الامام ، ويقول: إن الحديث الوحيد الذي يذكره القائلون بذلك ، هو حديث كوثر بن حكيم عن نافع ، و هو حديث موضوع ، و أما الأحاديث الصحيحة التي جاءت في قتال الخارجين فهي تنص على قتال الخارجين عن الشريعة لا على الامام .  ويقول : ” أما القتال لمن لم يخرج الا عن طاعة امام معين فليس في النصوص أمر بذلك ، فارتكب الأولون ثلاثة محاذير :
الأول:قتال من خرج عن طاعة ملك معين و ان كان قريبا منه و مثله في السنة و الشريعة ، لوجود الافتراق ، و الافتراق هو الفتنة.
و الثاني: التسوية بين هؤلاء و بين المرتدين عن بعض شرائع الاسلام.
و الثالث: التسوية بين هؤلاء و بين قتال الخوارج المارقين من الاسلام ، و لهذا تجد تلك الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك و ولاة الأمور و يأمرون بالقتال معهم لأعدائهم بناء على انهم هل العدل و أولئك البغاة “.[9]
وبناء على ذلك فقد كان ابن تيمية يعترف أيضا بواقع التعددية السياسية في عصر الملك ، ولا يؤمن بضرورة وحدة الخلافة ، كما يعتقد غالبية أهل السنة ، و يقول بجواز الخروج على الامام العادل نظرا لشبهة أو تأويل كما خرج معاوية بن أبي سفيان على الامام علي بن أبي طالب ، فضلا عن وجوب الخروج على كل  من يرفض تطبيق الشريعة الاسلامية و قتاله.[10]

و اذا كان ابن تيمية  قد توصل الى جواز الخروج و وجوب الثورة و استعمال القوة ضد من يمتنع عن الالتزام بالشريعة الاسلامية ، رغم عدم قوله بكفر الأمة ، فقد كان من الأولى بمحمد بن عبد الوهاب الذي قال بارتداد الأمة جمعاء ، أن يرفض أي التزام بوحدتها القائمة او الخضوع لإمام (الأمة الكافرة) ، و ان يقوم بالخروج على الدولة  الاسلامية ، وأن لا يجد  بالطبع في أحاديث وجوب الطاعة للامام ، أي معنى . ولذلك لم يعد لديه أي التزام بالطاعة للدولة العثمانية ،  أو المحافظة على الجماعة ، إذ أن الجماعة في مفهومه هي (جماعة التوحيد) الوهابية فقط ، وهم وحدهم: ( أهل الحق و المسلمون) ، الذين يجب ان يدخل الآخرون في طاعتهم و جماعتهم.

و في الوقت الذي كان يفترض ان يتصدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بنفسه لقيادة الحركة أو الدولة الوهابية أو (الأمة الاسلامية الجديدة) التي كان يبنيها بيديه ، كما يفعل أي ثائر يجمع أنصاره ويقود الثورة ليؤسس النظام الجديد الذي يريد ، و يجعل نفسه قائدا لذلك النظام الثوري.. لكن الشيخ لسبب أو لآخر ، فضل الاتفاق مع بعض الأمراء المحليين في نجد ، و مبايعتهم بشرط النصرة .
وقد كان هذا الاتفاق واضحا في علاقة الشيخ الأولى بأمير العيينة (عثمان بن معمر) كما كان واضحا في اتفاق الشيخ مع أمير الدرعية محمد بن سعود ، الذي بايعه بمفرده فبنى بذلك أساس الدولة السعودية الوهابية.
إذ تقول الرواية التاريخية: إن الشيخ  بعد ما طُرد من العيينة لجأ الى دار أحد أنصاره في الدرعية ، و هو الشيخ عبد الله بن سويلم ، على غير علم و لا رضا من أميرها (محمد بن سعود) ، ولكن اخوة الأمير : ثنيان و مشاري ، و زوجته (موضى) و ابنه عبد العزيز ، أقنعوا الأمير بالذهاب الى الشيخ في بيته ، ليرحب به ويعلن تأييده له ويقول له:”إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه ، فأبشر بالنصرة لك و لما أمرت به  والجهاد لمن خالف التوحيد” . [11]
فقال له الشيخ:” وأنا أبشرك بالعز و التمكين و النصر ، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم . فمن تمسك بها و عمل بها و نصرها ، ملك البلاد و العباد ، وأنت ترى نجداً كلها و أقطارها أطبقت على الشرك و الجهل و الفرقة و الاختلاف و القتال لبعضهم بعضاً ، فأرجو أن تكون إماماً  يجتمع عليه المسلمون و ذريتك من بعدك”.
فطلب ابن سعود من الشيخ المبايعة ، فبايع الشيخ على ذلك ، و على أن الدم بالدم و الهدم بالهدم ، و على أن الشيخ لا يرغب عنه إن أظهره الله.[12]
ويكاد هذا النص يكون واضحاً في بيعة الشيخ للأمير و بقاء الأمير على إمارته “إماماً يجتمع عليه المسلمون” ، حيث قدم الشيخ  له فروض البيعة بشرط النصرة ، و وعده بملك نجد او الجزيرة العربية ، وقدم له الدعم و أضفى صفة (الشرعية الدينية) على  نظام حكمه  القائم بالفعل .
وقد وافق الشيخ بالتعاون مع أي أمير مستعد لنصرته بغض النظر عن طريقته في الوصول الى السلطة .إذ كان يؤمن أساساً بشرعية إمامة المتغلب ، حيث يقول :”إن الأئمة مجمعون في كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان ، له حكم الامام في جميع الأشياء . و لولا هذا لما استقامت الدنيا ، لأن الناس من زمن طويل قبل الامام أحمد (بن حنبل) الى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد”.[13]

ومع أن رواية ابن غنام كانت واضحة في بيعة الشيخ للأمير ، الا أن المؤرخ المتأخر عثمان بن بشر يضفي نوعاً من الغموض على حقيقة الاتفاق بينهما عندما يقول :” إن الحل و العقد و الأخذ و العطاء و التقديم و التأخير كان بيد الشيخ ، و لا يركب جيش و لا يصدر رأي من  محمد (ابن سعود) و عبد العزيز ، الا عن قوله و رأيه . فلما فتح الله الرياض عليهم و اتسعت لهم الناحية و أمنت السبل و انقاد كل صعب من باد وحاضر ، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز و فوّض أمور المسلمين و بيت المال إليه ، و انسلخ منها بالكلية و لزم العبادة و تعليم العلم ، و لكن ما يقطع عبد العزيز أمراً دونه و لا ينفذ إلا بإذنه”.[14] و هو ما يلقي بعض الغموض حول : من الذي بايع من؟ ومن أصبح الامام الأعلى؟ هل هو الأمير الفعلي ابن سعود؟ أم الامام الجديد ابن عبد الوهاب؟

ولكن على أية حال يمكن أن يقال : إن الشيخ قد احتل موقعاً توجيهياً أكبر ، مشابها لموقع (الولي الفقيه)  الذي احتله الامام الخميني في الجمهورية الاسلامية الإيرانية كمرشد أعلى من رئيس الجمهورية. أما الإمام الفعلي فقد ظل هو الأمير محمد بن سعود . بدليل ان ابن بشر يقول : إن الشيخ اعترف بالأمير ابن سعود “إماما يجتمع عليه المسلمون”.  و يؤكد هذا المعنى قدوم أمير (العيينة) عثمان بن معمر ، بُعيد الاتفاق بين الشيخ والأمير ، الى (الدرعية) و محاولته استعادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الى قريته ، وتعهده بالنصر و التأييد له. ولو كان (الشيخ) قد أعلن نفسه إماماً رسمياً لخضع ابن معمر  له و هو في قريته ، ولما كانت ثمة حاجة لنقل الشيخ الى (العيينة).
و هناك رواية أخرى يذكرها صاحب (لمع الشهاب) ، وهو كاتب مجهول الاسم غير وهابي، تتحدث عن عقد الشيخ صفقة صريحة مع الأمير محمد بن سعود ، حول تقاسم السلطتين الدينية و السياسية و الاتفاق على توارثهما معا في عائلتي الشيخ و الأمير. و ان الشيخ قال لابن سعود:” أريد منك عهداً على انك تجاهد في هذا الدين ، و الرياسة و الامامة فيك و في ذريتك ، و ان المشيخة و الخلافة في الدين فيّ و في آلي من بعدي أبداً ، بحيث لا ينعقد أمر و لا يقع صلح أو حرب الا ما نراه كذلك ، فان قبلت هذا  فأخبرك : ان الله يطلعك على أمور لم يدركها أحد من عظماء الملوك و السلاطين ”  فقال الأمير ابن سعود : قبلت وبايعتك على ذلك.[15]
ويضيف صاحب (لمع الشهاب) بان الشيخ قد هيمن على آل سعود ، ويقول:”صارت الامامة الكبرى و هي إمامة الدين لمحمد بن عبد الوهاب ، و كذا ما يتبعها من مصالح الدنيا كتدبير الحروب و المصالحة و العداوة و ما يرجع الى آلة الحرب.. و الحاصل انه صار الأمر كله بيد محمد بن عبد الوهاب بحيث كل شيء أراده محمد بن سعود أو أولاده رجعوا به الى محمد بن عبد الوهاب ، فان ارتضاه ارتضوه و ان أباه أبَوه بلا كلام.
وكانت العادة جارية بأن يزوره محمد بن سعود كل يوم مرتين صباحا و مساءا ، هو وابنه عبد العزيز و بقية أولاده ، وكانوا يجلسون عنده متئدين صامتين لا ينطقون بشيء ما لم يحادثهم به أولاً ، و يدرسون على يده علم التوحيد”.[16]
وهذه الرواية تدل على تمتع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمكانة عالية جدا في ظل إمارة آل سعود. ومع امكانية حدوث ذلك ، الا أن  تلك الصفقة المزعومة بتقاسم السلطتين السياسية و الدينية ، ليست ثابتة تاريخيا ، و لا يبدو ان الشيخ الذي كان مطاردا لاجئا في (الدرعية) ، كان في موقف يسمح له بإملاء شروط على الأمير  محمد بن سعود ، و انما كان يريد اقتناص الفرصة لإقناع الأمير بالموافقة على وجوده في ظل إمارته ، أولاً ، ثم تقديم النصرة والعون له ، ثانياً. وقد تخلى الشيخ من أجل ذلك عن شرط (القرشية) في الامام ، الوارد في بعض الأحاديث النبوية ، و الذي دأب أهل السنة والحديث  ، و خصوصا الحنابلة ، على الالتزام به.
بيد انه يمكن القول ان الشيخ أقام فعلاً نظاماً  ثنائياً  مزدوجا يجمع بين الامارة و المشيخة الدينية ، و اكتفى من النظام السعودي بدعم المباديء الوهابية ، مع المحافظة على احترام دور رجال الدين ، الذين سيسيطر عليهم ، لقرون قادمة ، أبناء الشيخ و أحفاده تقريباً ، بما يشبه التحالف القبلي.

الولادة السلمية

وكما لاحظنا فان الولادة الأولى للدولة الوهابية لم تكن عسكرية عنيفة و انما كانت ثقافية سلمية ، وفي الحقيقة كان للظروف الجغرافية والسياسية و الاجتماعية و الديموغرافية المحيطة بنجد ، أبان انطلاقة الحركة الوهابية في منتصف القرن الثاني عشر الهجري ، دور كبير في طبيعة حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب و ولادتها السلمية ، حيث كانت نجد تقع في عمق الصحراء العربية وفقيرة تعيش على هامش الدولة العثمانية التي زهدت فيها ولم تهيمن عليها عسكريا و انما اكتفت بالسيطرة على الأقاليم المحيطة بها كالحجاز و اليمن و الأحساء و العراق و الشام ، و هذا ما أعطى نجداً فرصة قيام إمارات متعددة في كل قرية و مدينة و مضرب قبيلة في الصحراء. و عندما بدأ عبد الوهاب يبشر بأفكاره الاصلاحية في (حُريملا) ، استطاع أن يكسب عددا من الأنصار ، ولكنه تعرض أيضا الى مضايقات و محاولة للاغتيال ، مما اضطره لمغادرة القرية و اللجوء الى  قريته الأولى (العيينة) و أميرها عثمان بن معمر ، الذي سارع الى نصرته و تأييده ، فمكث في ظل حمايته بضع سنين ( من 1143 الى 1157) ، و استطاع خلالها ان يكتسب المزيد من الأنصار و المؤيدين ، بحيث قام بتنفيذ بعض ما كانو يدعو اليه كهدم عدد من القبور (كقبر زيد بن الخطاب) و قطع بعض الأشجار التي كان يلجأ اليها بعض الجهال لقضاء حوائجهم ، و اقامة الحد على امرأة زانية ، و ذلك بدعم قوي و مباشر من الأمير.
و لكن اتساع المعارضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب في داخل نجد وخارجها ، و خاصة في الأحساء ، أجبر الأمير عثمان بن معمر على وقف دعمه للشيخ و الطلب منه مغادرة (العيينة) بسلام ، فاتجه الشيخ الى قرية أخرى هي (الدرعية) التي كان عدد من  أخوة أميرها محمد بن سعود قد تاثروا بأفكاره و مالوا اليه. و نجح بسرعة في كسب الأمير الى جانبه و الانطلاق لتأسيس الدولة الوهابية الأولى.
و لو كانت هنالك وحدة سياسية في نجد ، شاملة و واسعة ، لما استطاع الشيخ عبد الوهاب ان يتنقل من إمارة الى أخرى ، و ربما اضطر الى اللجوء الى العمل السري او الهرب في الصحاري و الجبال ، الا أن تعدد الإمارات في نجد و اختلافها ، و ربما تنافسها فيما بينها ، دفع الشيخ الى اعتماد سياسة التعاون و التحالف مع الأمراء بدل الثورة عليهم و الخروج ضدهم. ولم تمض سنوات قليلة حتى نجح الشيخ في ضم عدد من القرى المجاورة للدرعية اليها ، كمنفوحة و حريملا و ضرما و ثرمدا و العيينة التي عاد أميرها ابن معمر فندم على طرده للشيخ منها و أعلن انضمامه الى الكيان الوهابي الوليد.
وقد تمت ولادة ذلك الكيان الأول بصورة سلمية ، لأنها كانت عبارة عن تحول ثقافي لدى أمراء بعض القرى و البلدات النجدية في اقليم (العارض) و انضمام بعضها الى بعض تحت قيادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولم تشكل الولادة الأولى عملية خروج سافرة على الدولة العثمانية ، لأن هذه الأخيرة – كما قلنا – لم تكن تهيمن عسكريا على نجد ، التي كانت  تخضع لسلطة الأمراء المحليين المنتخبين من قبائلها او المسيطرين عليها بالقوة. ولم يكن يوجد فيها والٍ عثماني أو حامية عسكرية ، و انما كانت تخضع لنفوذ أمراء الحجاز أو الاحساء الذين كانوا بدورهم تابعين للخلافة العثمانية ، و لذلك كان أئمة المساجد يكتفون بالدعاء للسلطان العثماني في خطب الجمعة. وعندما  قام الشيخ عبد الوهاب بحركته منع أئمة المساجد من الدعاء للسلاطين بحجة أن ذلك من الأمور البدعية.[17]  أو ” ان السلطان فاسق لا يجوز تمجيده”.[18] ومع ذلك فان المنع لم يشكل علامة كبيرة على الخروج ، حيث ظل الشيخ يحرص على إقامة علاقات طيبة مع  شريف مكة و من ورائه الدولة العثمانية.[19]



[1]  - و لما كان الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه و آله وسلم) قد ألغى الهجرة بعد فتح مكة ، فان الشيخ وجد نفسه مضطراً للتنظير اليها بصورة جديدة ، فقال:” ان الهجرة هي الانتقال من بلد الشرك الى بلد الاسلام ، و هي باقية الى أن تقوم الساعة. و الدليل على الهجرة من السنة قوله (ص): لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها”. الدرر السنية ، ج1 ص 134
[2]  - ابن بشر: عنوان المجد ، ص43
[3]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 88 و89
[4]  - و من هنا فقد قال الشيخ :” إن مسألة التعبد بإشراك الصالحين ، هي المسألة التي تَفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، و عندها وقعت العداوة، و لأجلها شرع الله الجهاد كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله)”. محمد بن عبد الوهاب: رسالة 128 مسألة من مسائل الجاهلية
[5]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 87
[6]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 264
[7]  -  محمد بن عبد الوهاب: تطهير الاعتقاد ، ص 35
[8]  -  محمد بن عبد الوهاب: كتاب التوحيد ، باب تفسير التوحيد وشهادة ان لا اله الا الله


[9]  - ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، ج4 ص 450 – 452

[10]  - ” قال شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن تيمية: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الاسلام الظاهرة المتواترة فانه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وان كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه”. أبو بطين ، عبد الله بن عبد الرحمن: (مجموع الرسائل والمسائل النجدية) ج2 ص 169
[11]  - ووضع ابن سعود شرطين لنصرته هما: عدم مغادرة الشيخ للدرعية بعد الانتصار ، وقبوله  بقانون ابن سعود على ثمار الدرعية كل عام. راجع. ابن غنام:تاريخ نجد ، ص 87 ، وعنوان المجد لابن بشر
[12]  - -  عثمان بن عبد الله بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ، ج1 ، ص 42
[13]  - وقد قال ذلك عندما  أحتج البعض عليه بعد ان قام برجم زانية عندما كان قاضيا في (العيينة) في ظل إمارة ابن معمر ، بأنه لا يمتلك تفويضا من الامام الأعظم لتنفيذ العقوبة. ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 454
[14]  -  عثمان بن عبد الله بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ، ج1 ، ص 46
[15]  -  لمع الشهاب ص 30 –31
[16]  -  لمع الشهاب ص 35

[17]  - ابن عثيمين: تاريخ المملكة العربية السعودية ص 37
[18]  - ابن غنام: تاريخ نجد ،ج1  ص 272
[19]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 136

الفصل الثالث:
ملامح التجربة السياسية  الوهابية


1 –  الإستبداد وسياسة القهر و الغلبة
لقد كان النظام السياسي في تلك الأيام بصورة عامة ، والبدوي بصورة خاصة ، يقوم على القوة و الوراثة  و ليس الشورى و الانتخاب ، وكان يعاني من خلل كبير هو: التباس حق الخلافة في الإمارة  عندما يموت الأمير  و ليس له ابن رشيد ، أو ذو مقدرة معترف بها ليتولى مقاليد الحكم ، إذ يقع النزاع المسلح على الخلافة بين المتنافسين من اخوة و أعمام و أولاد الأعمام ، فتقع نتيجة لذلك سلسلة من الحروب الداخلية لا تنتهي الا بدمار المجتمع  وزرع مزيد من العداوة والبغضاء فيه . وكان ينتظر من أي مصلح خاصة اذا كان يهدف الى التجديد في الدين ، أن يحل هذه المشكلة المزمنة ليعيد الأمور الى طبيعتها و يقيم نظاماً اسلامياً يقوم على الشورى و الاختيار  و التبادل السلمي للسلطة ، و لكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان يركز على موضوع إصلاح العقيدة الاسلامية و محاربة الشرك في الأمة ، لم يلتفت كثيرا الى مشكلة النظام السياسي ،  و انخرط في النظام البدوي الوراثي القائم ، بل كرس ذلك النظام و أعطاه شرعية دينية  و بايع الأمير  محمد بن سعود  بدلا من أن يأخذ البيعة من الامير له.
وعلى أية حال  فان اتفاق الشيخ مع الأمير ، لم يطرح  أي تصور واضح عن العلاقة بين الحركة الوهابية وبين آل سعود ، ولم يتضمن أي حديث عن نظام الشورى او مشاركة الأمة في انتخاب الامام ، ولم يشر الى أي دور له أو لذريته في تعيين الامام في المستقبل ، أو كيفية إدارة الدولة و اتخاذ القرارات المهمة فيها. كما لم يتحدث عن طريقة تبادل السلطة داخل الامارة بين الأبناء و الاخوان  من آل سعود ، و انما ترك كل ذلك لما اعتاد عليه النظام القبلي و لإرادة الأمير الحاكم.
و هكذا اتخذت التجربة الوهابية السعودية الأولى التي قامت على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عام  1158هـ صفة الحكم الاستبدادي المطلق ، وخلت من أي صورة من صور المشاركة الشعبية ، سواء في داخل الحركة الوهابية او بالنسبة للجماهير التي خضعت لحكم الدولة التي أقامتها باسم الوهابية [1].
وعلى رغم ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب عاش فترة طويلة في ظل إمارة آل سعود (حوالي أربعين عاما) ، و شهد نجاحها في السيطرة على تمام نجد ، الا انه مع ذلك لم يقدم تصوراً مستقراً و متكاملاً  عن النظام السياسي او المشاركة الشعبية او العلمائية فيه ، ما عدا مشاركته هو و مشاركة أبنائه في  إرشاد الأمراء بشكل شخصي ،  او تقديم المشورة  غير الملزمة لهم (إذا استثنينا بالطبع الحالة الخاصة التي كان يهيمن فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب على السلطة في ظل إمارة محمد بن سعود و ابنه عبد العزيز).
واذا كان أمراء  آل سعود قد قاموا  في بعض الاحيان ، بتشكيل مجالس استشارية ضمت عددا من رؤساء القبائل و حكام الأقاليم و أهل العلم ، و لكن عملية الاستشارة ، أو مجالس الشورى تلك ، لم تكن لتلزم الأمراء ، الذين كانوا  يتخذون  القرارت  بصورة فردية.
و للإنصاف لم يكن أحد يتوقع من الشيخ عبد الوهاب ، أن يقوم في تلك الأجواء الفكرية السائدة في العالم آنذاك ، و الظروف الموضوعية التي كانت تمر بها صحاري نجد ، بتغيير أسس النظام الاجتماعي والسياسي البدوي الحاكم واستبداله بنظام الشورى المهمل منذ القرن الهجري الاول.


ونظرا لغياب نظام الشورى  و عدم وجود آلية لمحاسبة الأمراء المتمردين أو المخالفين لأوامر القيادة العليا ، لم يكن أمام النظام الوهابي الجديد سوى اللجوء الى القوة لحل الخلافات الداخلية. كما حدث مع الأمير عثمان بن معمر الذي كان قد أصبح قائداً  أعلى للقوات الوهابية عام 1161هـ ، والذي حاول أن يسلك طريق الصلح والسلام مع خصوم الدعوة الوهابية وخصوصا مع أمير الرياض دهام بن دواس ، الذي دعاه الى العيينة للحوار معه و أرسل الى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وألحّ عليه بالحضور ، ولكن الشيخ رفض الصلح واللقاء بدهام. [2] و قرر بدلاً من ذلك تصفية عثمان بن معمر اغتيالاً ، فأرسل اليه من يقتله في المسجد بعد أداء صلاة الجمعة ، في منتصف رجب عام 1163هـ .[3]
وكان موضوع تكفير المسلمين الذين لا يؤمنون بمباديء الوهابية ، و إعلان الحرب عليهم ، موضع خلاف داخلي و تململ في صفوف الكيان الوهابي الجديد في أيامه الأولى ، حيث ألّف الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ( أخو الشيخ محمد) ، الذي كان يشغل منصب القضاء في حريملا ، كتابا يرفض فيه بشدة عملية التكفير لعموم المسلمين .
وقد أدى انتشار ذلك الكتاب ورفض الشيخ محمد مبادرة الصلح الى حدوث تململ عام في كافة المدن والقرى الوهابية ، فانشق أمير ثرمدا إبراهيم بن سلمان ، و قام أمير ضرما ، إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن سنة 1164 بالتمرد  ، و  تبعه أهل حريملا بإعلان الاستقلال عن حكم آل سعود سنة 1165 ، وإخراج الوهابيين من بلدتهم ، وقتل أميرهم محمد بن عبد الله المبارك.[4]و هكذا فعل أهل (منفوحة) الذين طردوا في السنة التالية أميرهم محمد بن صالح وتمردوا على القيادة الوهابية.[5] وأرسل الشيخ سليمان رجلا من أنصاره الى العيينة ، اسمه (سليمان بن خويطر) وأعطاه كتابه و أمره ان يقرأه في المحافل و البيوت ، فأثر في قلوب بعض أهل العيينة . كما تأثر بعض أهل الدرعية نفسها بفكر الشيخ سليمان ، المعتدل و الرافض للتكفير.
وبدلا من فتح باب الحوار حول الموضوع ، أمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بإلقاء القبض على (سليمان بن خويطر) بتهمة ترويج كتاب أخيه ، و أصدر أمرا بإعدامه ، فقتل.[6] و قامت مجموعة وهابية بالهجوم على أمير ضرما المتمرد ابراهيم بن محمد و قتله في مجلسه .[7] ولكن المعارضة لم تخمد ، وكادت أن تتحول الى انتفاضة عامة ، فأوعز الشيخ محمد بن عبد الوهاب الى أمير ضرما الجديد محمد بن عبد الله بالتصرف كيفما يشاء معها ، فبادر هذا الى اعتقال المشكوك فيهم واعدامهم صبراً.[8] و قامت القوات الوهابية بالهجوم على ثرمدا ، و قتل حوالي سبعين شخصا من أهلها “المرتدين”.[9] ثم قام عبد العزيز بن محمد بن سعود سنة 1168 بمهاجمة حريملا والقضاء على حركة التمرد التي استمرت أربع سنوات ، و إخضاع البلدة بالقوة ، بعد أن قتل من أهلها مائة رجل . وصادر أموال الناس الذين هربوا في الشعاب والجبال .[10] و قام بعد ذلك بمهاجمة (منفوحة) ومقاتلة أهلها و صادر كثيرا من الإبل و البقر و الحمير. [11]

الجذور التاريخية لنظرية القهر و الغلبة

من المعروف ان الفكر السياسي الاسلامي عموما انقسم ، منذ العصر الأول ، الى مدرستين رئيسيتين هما المدرسة السنية التي تقول بالشورى والمدرسة الشيعية (الامامية) التي تقول بالنص والتعيين ، حيث قالت المدرسة السنية ، بصورة عامة ، بنظرية الشورى في الحكم ، و عدم تعيين الرسول الأعظم محمد (ص) لأي خليفة من بعده  بالنص ، خلافا للمدرسة الامامية التي قالت بأن النبي قد عين خليفته من بعده ، و أنه قد حصر الخلافة في أهل البيت. و تبعا لذلك فقد آمنت المدرسة السنية  بشرعية خلافة ابي بكر  و عمر  و عثمان و علي ، عن طريق البيعة و الانتخاب بالصور المختلفة التي تمت بها .
وبغض النظر عن تحول الخلافة في العهدين الأموي و العباسي الى نظام وراثي قائم على القوة ، الا ان المتكلمين السنة ظلوا يتحدثون عن البيعة و الشورى كأساس لشرعية النظام ، كما فعل الأشعري في (الإبانة) والباقلاني  في (تمهيد الاوائل): حيث قال ” انما يصير الامام إماما بعقد من يعقد له الامامة من أفاضل المسلمين الذين هم أهل الحل والعقد المؤتمنين على هذا الشأن ” .
ومع ان بيعة أهل الحل و العقد و أفاضل المسلمين لم تكن دائما تمثل عموم المسلمين ، الا انها كانت تلبي ، بدرجة ما ، طموح أصحاب نظرية الشورى و الراغبين بقيام الحكم الاسلامي على أساس من الشرعية الدستورية المبنية على الانتخاب و الشورى و رضا الأمة ، و ليس القوة و القهر و الغلبة. ولكن هذه الرغبة تراجعت قليلا ، في القرن الثالث الهجري مع الامام أحمد بن حنبل الذي اشتهر عنه القول:” بأن من غلبهم  صار خليفة و سُمّيَ اميرَ المؤمنين ، ولا يحل لأحد يؤمن الله واليوم الآخر أن يبيت و لا يراه اماماً عليه ، براً كان أو فاجراً ، فهو أمير المؤمنين “. ثم جاء أبو يوسف الماوردي ، في القرن الخامس الهجري ، ليقبل في (الأحكام السلطانية) إمارة الاضطرار والاستيلاء ، الى جانب عملية العهد من الامام السابق  الى اللاحق ، و اختيار أهل الحل والعقد.
ولكن الفكر السياسي الاسلامي عاد فارتقى من جديد الى روح الشورى ، مع الفقيه الحنبلي أبي يعلى (458هـ) الذي رفض عقد الخلافة الا ببيعة جمهور أهل الحل والعقد ، و رفض إمامة المعهود اليه الا بانعقادها بعد موت العاهد باختيار أهل الوقت. و فسر قول الامام أحمد (من غلبهم بالسيف صار خليفة) أنه أراد غلبة نظرائه ممن يطلب الأمر ، فاذا غلبهم فبايعه الناس بعد ذلك صار خليفة ، و لم يرد به أنه يصير بنفس الغلبة خليفة.
ثم أصبح الفكر السياسي الاسلامي (السني) أكثر واقعية و انعكاسا لطبيعة الانظمة القائمة ، عندما أخذ الفقهاء يعترفون بصراحة بشرعية الطريق الثالث القائم على القوة والقهر و الغلبة ، الى جانب أختيار أهل الحل والعقد و ولاية العهد ، حيث اعترف الجويني  في كتابه (الغياثى) بإمكانية غياب الامام الحق ، و قرر امامة المستولي غير المستجمع للشروط ما دام متغلبا و مستبدا بالسلطة، وسماه (والياً) و اشترط عليه مراجعة العلماء. وقال ابن قدامة (630هـ)  في (الكافي – كتاب أهل البغي ) :” كل من ثبتت امامته حرم الخروج عليه وقتاله سواء  ثبتت بإجماع المسلمين عليه كإمامة أبي بكر الصديق أو بعهد الامام الذي قبله كعهد أبي بكر الى عمر ، أو بقهره للناس حتى أذعنوا له و دعوه اماماً كعبد الملك بن مروان”.  وأقر يحيى بن شرف النووي (677هـ) في (منهاج الطالبين) و (روضة الطالبين) : القهر و الغلبة كوسيلة مشروعة للاستيلاء على السلطة ، حيث  قال بصراحة:” تنعقد الامامة بثلاثة طرق … البيعة.. واستخلاف الامام من قبل و عهده اليه .. و أما الطريق الثالث : فهو القهر والاستيلاء ، فاذا مات الامام فتصدى للامامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة ، وقهر الناس بشوكته وجنوده انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين ، فان لم يكن جامعا للشرائط بأن يكون فاسقا أو جاهلا فوجهان: أصحهما انعقاده لما ذكرناه و ان كان عاصيا بفعله”.
و هكذا قال البناني ،  (1194هـ) ، المعاصر للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، في (حاشية البناني على شرح الزرقاني) : ” اعلم أن الامامة تثبت بأحد أمور ثلاثة: اما بيعة أهل الحل و العقد ، واما بعهد الامام الذي قبله ، و اما بتغلبه على الناس ، و حينئذ فلا يشترط فيه شرط ، لأن من اشتدت على الناس وطأته وجبت طاعته”.
بل ان فقيها مثل (ابن عابدين ) اعتبر الامامة مقرونة بالقوة و دائرة مدارها ، و سلب الشرعية من الامام الذي يبايعه الناس و لا يملك القوة ، وقال : ” يصير (الامام)  اماماً بالتغلب و نفاذ الحكم و القهر بدون مبايعة ، او استخلاف ، فان بايعه الناس ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه لا يصير اماماً “.
نظرية ابن تيمية السياسية

في هذا السياق من تدهور الفكر السياسي الاسلامي و اعترافه بالأمر الواقع ، أو إضفاء نوع من الشرعية عليه ، و الاستسلام لنظرية القوة والقهر و الغلبة ، و الإبتعاد عن نظرية الشورى ، جاء الشيخ أحمد بن تيمية ، الذي قام بمراجعة شاملة للفكر الاسلامي ، و دخل في مجادلات صاخبة مع جميع التيارات و المدارس و الفرق الاسلامية المختلفة ، و انتقد كثيرا من الظواهر السلبية في المجتمع الاسلامي ، فنظر الى المشكلة السياسية من زاوية انسجام الحكام مع الشريعة الاسلامية أو عدم انسجامهم ، وطرح نظرية التوحيد في الألوهية ، أي عبادة الله وحده لا شريك له ، تلك العبادة التي لا تتحقق الا باتباع الشريعة الالهية . وعلى رغم اقتضاء تلك النظرية للحديث بتفصيل عن العدالة في الحكم و شروط الحاكم و صفاته و كيفية وصوله الى السلطة بطرق شرعية ، الا إن الشيخ ابن تيمية لم يبحث  مشكلة السلطة من ناحية طرق الحصول عليها ، ولم يجد أية ضرورة  لبحث موضوع الشورى و اشتراط مجيء الحكام عبر أهل الحل والعقد ، أو حصولهم على رضا الأمة .
وقدم ابن تيمية نظرة واقعية الى موضوع السلطة شبيهة بنظرة المؤرخ الاجتماعي ابن خلدون ، إذ فصل مختلف الانظمة السياسية التي مرت على العالم الاسلامي ، عن خلافة النبوة ، التي قال انها استمرت ثلاثين سنة فقط ، و انها اختلطت بعد ذلك بالملك او تحولت الى ملك خالص . و اعتمد ابن تيمية في تحليله التاريخي لمسألة السلطة على حديث منسوب الى الرسول الأعظم يقول فيه:
“تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها اذا شاء أن يرفعها.
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها اذا شاء الله أن يرفعها.
ثم تكون ملكاً عضوضا فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها اذا شاء الله أن يرفعها.
ثم تكون ملكاً جبريا ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها اذا شاء أن يرفعها.
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ” ثم سكت.
وقال ابن تيمية : ” ان شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا ، ومعاوية قد شابها  الملك ، وليس هذا قادحا في خلافته”  وإن ” انتقال الأمر عن خلافة النبوة الى الملك إما ان يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة ، أو اجتهاد سائغ ، أو مع القدرة على ذلك علماً وعملاً ، فان كان مع العجز كان ذو الملك معذوراً في ذلك… وان كان مع القدرة علما وعملا ، وقدّر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة و ان اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا ، فهذا التقدير اذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا”. [12]
و بينما كانت الخلافة عند عامة العلماء  من أهل السنة اما صحيحة و اما باطلة ولا توسط بينهما ، وان معيار الامامة الشرعية  هو من جهة انعقادها أو توليتها  ، لم يذكر ابن تيمية في (السياسة الشرعية) مسألة تنصيب الامام ، لأن الخلافة الراشدة انتهت في نظره خلال السنوات الثلاثين الاولى بعد وفاة الرسول الأعظم ، ولن تعود ثانية ، و أنها كانت تستند الى نصوص ولم تقم على أساس الشورى.
إضافة الى أنه كان يعتقد ان امامة الراشدين ذاتها كانت قائمة على الغلبة و السيطرة ، إذ يقول : إن ” الامام هو من يقتدى به ، وصاحب يد وسيف يطاع طوعا وكرها… و هذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين”.[13] ويقول: ” إن الامام الذي يطاع هو من كان له سلطان ، سواء كان عادلاً أو ظالما”.  [14]
وقد توصل ابن تيمية من خلال ذلك التحليل الى جواز قيام الأنظمة السياسية على أساس القوة والقهر و الغلبة ، و قال: ان الامامة ” تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ، و لا يصير الرجل اماما حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الامامة ، فان المقصود من الامامة انما يحصل بالقدرة و السلطان…  و أما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة ، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين ، و قد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين”.[15]
لقد كان ابن تيمية يعتقد ان  الامامة تقوم على أساسين هما: (القوة والأمانة) بناء على نصوص قرآنية و رد فيها ذكر القوة قبل الأمانة مثل قوله تعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين) وقول صاحب مصر ليوسف (ع): (انك اليوم  لدينا مكين أمين)  و قول أحمد ابن حنبل : ( أما الفاجر القوي ، فقوته للمسلمين ، و فجوره على نفسه ، و أما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه و ضعفه على المسلمين). ومن هنا فقد جمع ابن تيمية صفات الولاية في صفتين رئيسيتين هما القوة و الأمانة ، وقد اختلف في هذا عن فقهاء أهل السنة و غيرهم من الذين اشترطوا صفات عديدة في الامام أو عينوا طرقا محددة لتولي السلطة ، حيث كانت القوة عنده أهم وأكثر ضرورة ولا بد منها ، و الأمانة تابع للقدرة ، فهي حينئذ مكملة لها أو هي التي تضفي عليها المثالية ، و بتعبير آخر فان القدرة هي أساس الولاية الواقعي ، بينما الامانة هي مطلوب الولاية الشرعي.
و بعد القبول بفلسفة القوة في السلطة كان لا بد من التراجع عن كثير من الأمور المثالية والشروط التي ذكرها العلماء السنة السابقون و أكدتها أحاديث نبوية عديدة ، تتعلق بصفات الحاكم الاسلامي ، مثل شرط “القرشية” الوارد في بعض الأحاديث النبوية مثل: (الامامة في قريش) أو ( ان هذا الأمر لقريش ما أقاموا الدين) ، و الذي دأب أهل السنة والحديث  ، و خصوصا الحنابلة ، على الالتزام به ، وكذلك التقوى و العدالة والعلم و الكفاءة ورضا الامة أو بيعة أهل الحل والعقد.

وربما كان تخلي ابن  تيمية عن مبدأ الشورى في الحكم ، يعود الى النظرة السلبية التي كان ينظر من خلالها الى (الأمة الاسلامية) بعد أن قال بانحرافها و تدهورها و ضلال معظم فرقها و طوائفها ، وبغربة الاسلام فيها ، استنادا الى بعض الاحاديث التي تتحدث  عن (غربة الاسلام) وعن أفضلية القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. فقد كان ابن تيمية يعتقد أن الأمة الاسلامية ليست كلها على الحق ولا هي مضمونة النجاة ، و انما بعض منها وهم  (أهل الحديث) الذين كانوا يشكلون (الفرقة الناجية).[16] و يقول:” ان الله لم يكن ليجمع هذه الأمة على ضلالة ، و إنه لا يزال فيها طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم و لا من خذلهم ، و لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعة الله”.[17]
و من المعروف ان ابن تيمية قد أخرج معظم طوائف الأمة و فرقها  حتى  الأشاعرة (السنة) من أهل الحق. ولم يكن مفهوم (الأمة) عنده بالمعنى المعروف المتبادر ،  أي الجماعة الشاملة التي تتخذ الاسلام دينا لها ، بكل فرقها ، وكما تكونت وتطورت في الواقع التاريخي ، بل كان معنى (الأمة) عنده هي: (الجماعة الجزئية ) وهي : (أهل الحديث) أو (أهل الحديث والقرآن) أو (أهل السنة والجماعة) كما يسميهم.[18]
وبما أن (أهل الحديث) ، أو (أهل الحق) لا يشكلون – بالضرورة – الأغلبية دائما ، وخاصة في زمان “اغتراب الاسلام” فقد كان من المستحيل ان يحتكم ابن تيمية الى الشورى و الأغلبية أو يشترط حصول الامام على رضا الامة ، وكان من الطبيعي ان يميل الى نظرية القهر والغلبة ، و يضفي نوعا من الشرعية على حكومات الأمر الواقع ، بغض الطرف عن الطريقة التي استولت فيها على السلطة.

ومن هنا كان من المتوقع جدا أن يلغي الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الشورى) من قاموسه السياسي ، وأن لا يفكر بالسماح للجماهير الواسعة بالمشاركة في الحكم  ، أو يشترط رضاها أو رضا أهل الحل و العقد في تنصيب الامام وان يعتمد على القوة و العنف في توسيع رقعة الدولة السعودية الوهابية الأولى . ولم يكن يحتاج لاستيراد الفكر السلفي الذي يبيح استخدام القوة في الاستيلاء على السلطة أو يعتبر (الشوكة) أساساً للحكم. و ذلك لأنه كان يرى  نفسه منخرطا في عملية ثقافية جذرية ، أكبر من مجرد بناء نظام سياسي ، و ينظر الى موقعه تماما كموقع النبي أمام أهل الجاهلية ، حيث لم يكن يوجد أي معنى لمنحهم حق ممارسة الشورى أو السماح لهم بالمشاركة في بناء الدولة الاسلامية أو اختيار الامام أو اتخاذ القرارات العسكرية و السياسية .
ولم يكن  يملك ما يضيفه على الفكر السياسي الموروث من  ابن تيمية ، أو يشكك فيه ، أو يقدم بديلا جديدا  عنه ، وهو الذي قام بحركة ذات صبغة فكرية عقدية ، أكثر منها  سياسية.
الدعوة الى طاعة الامام  وتحريم الخروج عليه

وإضافة الى إيمان الشيخ محمد بن عبد الوهاب بشرعية الحاكم المتغلب والقاهر ، و رفضه للشورى، كان يدعو الناس الى طاعة الامام في ظل الدولة الوهابية و التسليم له ،  و يحرم الثورة عليه ، بغض النظر عن طبيعة سياسته وسلوكه ، إذ يقول:” أرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين ، برهم و فاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله”.[19] و” إن من تمام الاجتماع : السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدا حبشيا”.[20] ويقول:” من ولي الخلافة و اجتمع عليه الناس و رضوا به ، و غلبهم بسيفه حتى صار خليفة ، وجبت طاعته وحرم الخروج عليه”.[21] وذلك ضمن السياق العام للموقف السني المدعوم بروايات كثيرة حول الموضوع. [22]
وعلى رغم وجود رأي لابن تيمية يجيز الخروج على أي حاكم ، بشرط الالتزام بالشريعة الاسلامية ، وعدم إدانته للخروج بصورة عامة الا إذا كان خروجا على الشريعة [23]،  فإن الفكر السياسي الوهابي ، بعد إقامة الدولة السعودية ، غض الظرف عن ذلك الرأي و عاد ليتمسك بالرأي السني القديم الذي يحرم الخروج على الحاكم بصورة مطلقة.
و كانت فكرة الطاعة المطلقة للإمام  قد ارتبطت من قبل ، في الفكر السياسي السلفي (السني) ، بنظرية شرعية إمامة المتغلب  بغض النظر عن تحقيق العدالة الاجتماعية و المساواة أو الالتزام بالقانون ، وتهميش دور الأمة في عملية الاصلاح الاجتماعي أو المعارضة السياسية ، و ترك المجال السياسي للأمراء و الحكام يتصارعون فيه فيما بينهم حتى يغلب أحدهم على الآخر. و قد أضاف الفكر الوهابي الى ذلك وجوب التسليم والخضوع لأئمة الدعوة الوهابية من قبل أبناء الحركة ، فضلا عن عامة الناس . [24]
وبناء على ذلك فان الشيخ لم يعط الأمة أو الحركة الوهابية  الحق في المعارضة أو التمرد والخروج على النظام الوهابي. بالرغم من عدم وجود  أي قانون للمحاسبة أو النقد أو التغيير . وكان يرفض توجيه النقد للأمراء بصورة علنية. [25]



[1]  - يذكر عثمان بن بشر في (عنوان المجد في تاريخ نجد) ج1 ص 61 : ان أهل بلد العيينة ارتأوا عام 1163 بعد مقتل أميرهم عثمان بن معمر ، أن لا يتأمر عليهم أحد من رؤسائها (من آل معمر) خوفا من أن ينالهم منهم أذى ، فلم يوافقهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي استعمل عليهم مشاري بن معمر.
[2]  -  ابن غنام ، تاريخ نجد ، ص 100
[3]  - يقول الشيخ حسين بن غنام:” لما تزايد شرّ عثمان بن معمر على أهل التوحيد ، وظهر بغضه لهم وموالاته لأهل الباطل ،  وتبين الشيخ  محمد بن عبد الوهاب صدق ما كان يروى عنه ، وجاءه أهل البلاد كافة وشكوا اليه خشيتهم من غدره بالمسلمين قال الشيخ حينئذ لمن وفد عليه من أهل العيينة :”أريد منكم البيعة على دين الله ورسوله ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه ، ولو أنه أميركم عثمان”.. فلما انقضت صلاة الجمعة قتلوه في مصلاه بالمسجد في رجب سنة 1163هـ، فلما بلغ الخبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ركب الى بلد العيينة.. واستعمل فيها أميراً مشاري بن معمر .  ابن غنام: تاريخ نجد ص103 و- ابن بشر: عنوان المجد  ، ج1 ص 60 – 61

[4]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 106
[5]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 106
[6]  - ابن غنام : تاريخ نجد ، ص 108
[7]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 104
[8]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 108
[9]  -  ابن غنام ، تاريخ نجد ، ص 102

[10]  - ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 109
[11]  - ابن غنام ، تاريخ نجد ، ص 111

[12]  - ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، ج35 ص 25

[13]  - ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، ج1 ص 135
[14]  - ابن تيمية: مجموع الفتاوى ج1 ص 149
[15]  - ابن تيمية:منهاج السنة النبوية ج 1 ص 141- 142
[16]  -  ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ج4 ص 235
[17]  - ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ج4 ص 235
[18]  - حسن كو نا كاتا ، النظرية السياسية عند ابن تيمية ، ص 132
[19]  -  عبد الرحمن بن محمد بن قاسم : الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ج1 ، ص 30 و 33
[20]  - عبد الرحمن بن محمد بن قاسم : الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ج1 ، ص 173
[21]  -  عبد الرحمن بن محمد بن قاسم : الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ج1 ، ص 30 و 33
[22]  - مثل: “من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصيته ولا ينزعن يداً  عن طاعة”. و  “من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه الاّ مات ميتة جاهلية ”  و ما روي عن ابي سلام قال حذيفة بن اليمان قلت يا رسول الله: إنّا كنا بشر ، فجاء الله بخير، فنحن منه ، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال نعم، قلت: كيف؟ قال يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشيطان في جثمان انس؟ قال قلت كيف أصنع يا رسول الله إن ادركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأطع” وانه”سيليكم بعدي ولاة فيليكم البرٌ  ببره  ، ويليكم الفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق الحق ، فأن احسنوا فلكم ولهم وأن أساءوا فلكم وعليهم ” وما روي عن سليمة بن يزيد الجعفري أنه سأل رسول الله(ص) فقال: يا نبي الله أرأيت ان قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ، ثم سأله ثانية فاعرض عنه ، ثم سأله في الثانية او في الثالثة فجذبه وقال: “اسمعوا واطيعوا فانما عليهم ما حملّوا وعليكم ما حملّتم” .
وبناء على ذلك قال الشيخ حسن بن الشيخ حسين ، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب :”..  والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمركم ، لا تنزع يدا من طاعة ولا تخرج عليه بسيف حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا ، ولا تخرج على السلطان ، وتسمع وتطع ولا تنكث بيعته ، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة ، وإن أمرك السلطان بأمر فيه لله معصية ، فليس لك أن تطيعه ألبتة ، وليس لك أن تخرج عليه ولا تمنعه حقه”-  عبد الرحمن بن محمد بن قاسم : الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ج1 ، ص 348

[23]  - كان ابن تيمية يرفض بصورة أولية الثورة على الحكام المستبدين ويقول :” المشهور في مذهب اهل السنة انهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف ، وإن كان فيهم ظلم ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي (ص).. لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم ، فيدافع أعظم الفسادين بالتزام الأذى ولا نكاد نعرف طائفة خرجت على ذي السلطان الا كان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي ازالته “. (ابن تيمية: الاستقامة ج1 ص 330)  ولكن ابن تيمية لم يجعل الامام مصدر الشرعية ، وانما العمل بالشريعة ، ولذلك فتح نافذة واسعة على الثورة ، وكان يرفض الانجرار لقتال الخوارج ، بسبب  احتمال اعتماد الخوارج على التأويل . وقد نفى وجود أي حديث صحيح يأمر بقتال الخارجين على الامام ، وقال إن الحديث الوحيد الذي يذكره القائلون بذلك ، هو حديث كوثر بن حكيم عن نافع ، وهو حديث موضوع ، و أما الأحاديث الصحيحة التي جاءت في قتال الخارجين فهي تنص على قتال الخارجين عن الشريعة لا على الامام .  وقال : ” أما القتال لمن لم يخرج الا عن طاعة امام معين فليس في النصوص أمر بذلك “. وكان ابن تيمية يقول بجواز الخروج على الامام العادل نظرا لشبهة أو تأويل كما خرج معاوية بن أبي سفيان على الامام علي بن أبي طالب . (ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، ج4 ص 450 – 452)

[24]  - وقد نظم الشيخ سليمان بن سحمان ، فكرة الطاعة المطلقة للأمراء في أبيات من الشعر قال فيها :
فيلزمكم  أن توفوا  بعهد   إمامكم                     على الكره منكم  والرضا  والتحمد
وتعطونه في   ذاك   سمعا    وطاعة                     كما جاء في  النص  الأكيد   المؤيد
ولو جار في أخذ من المال واعتدى                      بضرب  وتنكيل   عنيف      منكد
فلا تخرجوا   يوما   عليه      تعنتا                      تريدون    كشفا   للظلامة    باليد
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم : الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ج1 ، ص 587
[25]  - يقول ابن غنام  في تاريخ نجد ( ص 352) : إنه في ذات مرة انتقد بعض أبناء الحركة الوهابية أميراً في منطقة سدير ، فرفض الشيخ محمد بن عبد الوهاب توجيه الانتقاد له علنا وكتب الى أهل سدير وحرمة والمجمعة والغاط والزلفى بياناً ينهاهم فيه عن توجيه النقد العلني الى الأمراء حتى لو كانوا أمراء مناطق ، وقال لهم:” اذا صدر المنكر من أمير أو غيره ينصح برفق ، خفية ما يشترف أحد ، فان وافق والا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية ، فان لم يفعل ، فيمكن الانكار ظاهرا ، الا ان كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر يمنا (إلينا) خفية”.

2 – العنف والإرهاب

لقد كان عامة المسلمين يرفضون التفسير الوهابي للتوحيد ، و يجادلون بقوة فيما اذا كان دعاء الصالحين و الاستغاثة بهم شركا بالله تعالى ، خاصة مع الايمان بأن الأولياء وسائل فقط الى الله و ليس بأيديهم النفع أو الضر. وكان ذلك يشكل مبررا كافيا للتوقف في تكفير المسلمين لأنهم – على الأقل – آمنوا بذلك عن جهل و شبهة [1]. ولكن الوهابيين لم يكونوا يعترفون بتلك المبررات ، و كانوا يصرون على فرض قراءتهم الخاصة للتوحيد بالقوة على الناس ، و مقاتلة من لم يوافقهم على نظريتهم. و ذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعيداً في عملية التكفير لتشمل المعارضين له و المحايدين و المترددين .
و قد صرّح بذلك في رسالة له الى شريف مكة ، الذي سأله عما يقاتل عليه الناس؟ و عما يكفِّر به الرجل ، فقال :” أنه يكفّر ويقاتل أنواعا من الناس:
الأول: من عرف (التوحيد)[2] دين الله و رسوله ، الذي أظهرناه للناس ، و أقرّ أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر و البشر ، الذي هو دين غالب الناس هي الشرك بالله ، ومع ذلك لم يلتفت الى (التوحيد) و لا تعلمه و لا دخل فيه و لا ترك (الشرك) فهذا كافر نقاتله بكفره ، لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه ، و عرف دين الشرك فلم يتركه ، مع انه لا يبغض دين الرسول و لا من دخل فيه ، و لا يمدح الشرك ولا يزينه للناس.
الثاني: من عرف ذلك كله و لكنه تبيّن في سب (دين الرسول) مع ادعائه أنه عامل به ،  و تبيّن في مدح من عبد يوسف و الأشقر ، و من عبد أبا علي و الخضر من أهل الكويت ، وفضّلهم على من وحد الله و ترك الشرك ، فهذا أعظم من الأول.
الثالث: من عرف (التوحيد) و أحبه و اتبعه ، و عرف (الشرك) و تركه ، و لكن يكره من دخل (التوحيد) و يحب من بقي على  (الشرك) فهذا أيضا كافر.
الرابع: من  سلم من هذا كله و لكن أهل بلده مصرون بعداوة (التوحيد) و اتباع أهل الشرك ، و ساعون في قتالهم ، و يتعذر أن تركه وطنه يشق عليه ، فيقاتل أهل (التوحيد) مع أهل بلده و يجاهد بماله و نفسه ، فهذا أيضا كافر”.
دوامة العنف

و نظراً لهذه العقيدة المتطرفة التي تكفر جميع المسلمين و تتهمهم بالشرك ، و تحاول إدخالهم في “الدين الاسلامي” من جديد [3] ، لم تكن الدولة الوهابية تستطيع ان تقوم الا بالعنف ، و لم تستطع ان تستمر الا في ظل السيف ،  فكان لا بد ان تجابه بالقوة و العنف ، و تضطر هي الى ممارسة المزيد من العنف و الارهاب  لفرض سيطرتها على المسلمين ، و لذلك فقد نشأ نوع من الصراع المحموم الذي لا يهدأ بينها وبين الجماهير المسلمة ، و هو إن خبا فترة من الزمن فلكي يعد أصحابه العدة لجولة جديدة من الحرب. و لم يكن هنالك أي مجال في ظل العقيدة الوهابية ، لأي نوع من الصلح والسلام بين الحكومة الوهابية و القبائل و الشعوب و الطوائف الاسلامية المختلفة ، الا بالدخول في مذهبها ، و مع ذلك فان تلك القبائل و الطوائف لم تكن تسلم من العنف و الاستبداد و الاتهام بالردة.
ان الحركة الوهابية ولدت في مجتمع اسلامي قائم يرفض الدعوة الوهابية المكفرة له ، و هو لا يمكن ان يخضع لها بسهولة و يقرها على ما جاءت به من تأويلات تعسفية فيعترف على نفسه بالشرك و الكفر ثم يدخل على يديها الى الاسلام من جديد.
وهذا ما يفسر دموية المعارك التي خاضها الوهابيون لفرض مذهبهم ، أو الانتقام من أعدائهم ، سواء في نجد [4]، أو في الأحساء [5]، أو في الحجاز [6]، أو في العراق و خاصة في كربلاء.

مجزرة كربلاء

وكان على رأس تلك المجازر التي أقامها الوهابيون في عهدهم الأول مجزرة كربلاء الرهيبة ، التي شن فيها الوهابيون بقيادة سعود بن عبد العزيز ، هجوما مباغتاً دون سابق انذار او دعوة لمذهبهم ،  و انما على حين غفلة من أهلها ، فأقاموا مجزرة رهيبة فيها ، و ذلك في شهر ذي القعدة من سنة 1216 هـ (المصادف 20 نيسان  1802م )
يقول المؤرخ الوهابي عثمان ابن بشر  في كتابه ( عنوان المجد في تاريخ نجد ):” ان سعود سار بالجيوش المنصورة و الخيل العتاق المشهورة ، من جميع حاضر نجد و باديها  ، و الجنوب و الحجاز و تهامة و غير ذلك ، و قصدوا أرض كربلاء و نازل أهل بلد الحسين ، فحشد عليها المسلمون  و تسوروا جدرانها ودخلوها عنوة ، و قتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت ، و هدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين ، و أخذوا ما في القبة و ما حولها ، و اخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر  و كانت مرصوفة بالزمرد والياقوت  و الجواهر ، و أخذوا جميع ما وجدوا  في البلد من الاموال والسلاح واللباس و الفرش و الذهب و الفضة و المصاحف الثمينة و غير ذلك مما يعجز عنه الحصر ولم يلبثوا فيها الا ضحوة و خرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الاموال ، و قتل من أهلها قريب الفي رجل ، ثم ان سعودا ارتحل منها فجمع الغنائم و عزل أخماسها ، و قسم باقيها على المسلمين غنيمة للرجل سهم وللفارس سهمان  ” .[7]

و ربما كان اعتماد الدعوة الوهابية على العنف بدلا من الحوار و الاقناع ، و تحول الصراع في نجد الى محاولة لفرض سلطان آل سعود ، أكثر منه محاولة لنشر مباديء الدعوة الوهابية  ، هو ما يفسر المعارضة الشديدة التي لقيتها الدعوة في نجد ، و التي استغرقت حوالي أربعين عاما ، و لذا فان الناس الذين كانوا يخضعون بالسيف لسلطة آل سعود فترة من الزمن ، كانوا سرعان ما ينفضون عنهم و يتمردون لمجرد ما يتغير ميزان القوى لصالحهم.
و قد استمرت تلك الحقبة المضطربة المشحونة بالانتفاضات ، و اشتدت مع تسلم  سعود بن عبد العزيز للقيادة العسكرية في بداية  عقد التسعينات من القرن الثاني عشر الهجري ، حيث حصل اضطراب شديد ، و تذبذب كبير  في دخول القرى النجدية في طاعة آل سعود و الخروج منها ،  و ذلك لما كان يتسم به سعود من عنف و دموية و إرهاب ، فما أن يسيطر على بلد حتى ينتفض بلد آخر ، وما أن يقمع قرية حتى تتحداه قرية أخرى.

دعوة أهالي مكة الى الاسلام
بعد ان فرض سعود بن عبد العزيز سيطرته على نجد و الاحساء توجه لاحتلال الحجاز ، و هنا تغيرت لهجة الحركة الوهابية تجاه الحجازيين و الدولة العثمانية ، فبعد ان كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يتودد الى شريف مكة ويتظاهر بالولاء له و ينفي “تهمة التكفير بالعموم” أرسل سعود وفداً الى شريف مكة الأمير غالب بن مساعد ، بزعامة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر ، و وجّه لأهلها اتهامات مباشرة و صريحة بوجود مظاهر الشرك في مكة ودعوة الأموات ، ولم ينفع إنكار أهل مكة لذلك .
وعندما اقتربت قوات سعود من مكة في نهاية عام 1217هـ ، و طلب أهل مكة منه الأمان ، أصدر اليهم بياناً يتضمن التشكيك بإسلامهم ، و يدعوهم الى “دين الله” حيث جاء فيه:
” بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود بن عبد العزيز
الى كافة اهل مكة والعلماء والآغوات وقاضي السلطان
السلام على من اتبع الهدى
اما بعد: فأنتم جيران الله وسكان حرمه آمنون بأمنه. انما ندعوكم لدين الله ورسوله ( قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فان تولوا فقولوا: اشهدوا باننا مسلمون ” فأنتم في أمان الله ثم في أمان أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز وأميركم عبد المعين بن مساعد ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام ” .[8]
ويتضح من خلال هذا النص ، أن سعوداً كان ينظر الى (الوهابيين) نظرة خاصة باعتبارهم (المسلمين) والى أهل مكة باعتبارهم (مشركين) ولذلك لم يسلم عليهم وانما وجه سلامه الى من اتبع الهدى ، ودعاهم الى كلمة سواء هي كلمة التوحيد.
وعندما دخل سعود مكة المكرمة في اليوم الثامن من  محرم  1218هـ  وطلب من الناس الاجتماع بالمسجد الحرام ، خطب فيهم قائلا:” احمدوا الله الذي هداكم للاسلام وأنقذكم من الشرك. أطلب منكم أن تبايعوني على دين الله ورسوله وتوالوا من والاه وتعادوا من عاده في السراء والضراء والسمع والطاعة”.[9]  وأصدر بياناً جاء فيه:”  قد عمت البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها : الإشراك بالله والتوجه الى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها الا رب الأرض والسماوات… فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك به. وذلك ان الشفاعة كلها لله .كما في الحديث  عنه (ص) أنه قال: لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان…
فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر الى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دمائنا وأموالنا…حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم ، وهو الذي ندعو الناس اليه ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم الحجة عليهم من كتاب الله وسنة رسوله (ص) وإجماع السلف الصالح من الأمة ، ممتثلين لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان”.[10]
ثم  بادر الوهابيون لهدم القباب  التي كانت على محل مولد النبي (ص) ومولد ابي بكر ومولد الامام علي و السيدة خديجة ، والتي كانوا يعتبرونها “أصناما تعبد من دون الله” . وأرسل سعود رسالة الى السلطان العثماني سليم ، يخبره فيها بأنه “قد هدم ما هنالك من أشباه الوثنية” .[11]  و أمر  مناديه أن ينادي في مكة المكرمة: ( يا ايها الذين آمنوا انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ).

و وقف الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في مكة قائلا:” ان من قال يا رسول الله، أو يا ابن عباس ، أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين ، طالبا بذلك دفع شر أو جلب خير من كل ما لا يقدر عليه الا الله تعالى من شفاء المريض والنصر على العدو ، والحفظ من المكروه ونحو ذلك: انه مشرك شركا أكير ، يهدر  دمه ويبيح ماله ، وان كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله تعالى وحده ، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء متشفعا بهم ومتقربا بهم لتقضى حاجته من الله بسرهم وشفاعتهم له فيها أيام البرزخ”.[12]

واستصدر الوهابيون عدة بيانات من علماء الحرمين ومن الشريف غالب بالاعتراف بالدين الجديد (الاسلام) والتبرؤ من دينهم السابق (الشرك) والإفتاء بكفر عامة المسلمين – تحت تهديد السلاح بالطبع -  فأصدر علماء مكة المكرمة البيان التالي :” نحن علماء مكة الواضعون خطوطنا في هذا الرقيم: ان هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، ودعا اليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز ، من توحيد الله ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب ، أنه هو الحق الذي لا شك فيه. ولا ريب وان ما وقع في مكة والمدينة سابقا ومصر والشام وغيرهما من البلدان ، الى الآن ، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب ، أنه: الكفر المبيح للدم والمال ، والموجب للخلود في النار. ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر. و واجب على إمام المسلمين ، والمسلمين ، جهاده وقتاله حتى يتوب الى الله مما هو عليه ، ويعمل بهذا الدين.
اشهد بذلك:
1-              عبد الملك بن عبد المنعم القلعي والحنفي ، مفتي مكة المكرمة.
2-              محمد بن صالح بن ابراهيم ، مفتي الشافعية بمكة.
3-              محمد بن محمد عربي البناتي ، مفتي المالكية بمكة
4-               محمد بن أحمد ، المالكي
5-              محمد بن يحيى ، مفتي الحنابلة بمكة
6-              عبد الحفيظ بن درويش العجيمي
7-              زين العابدين جمل الليل
8-              علي بن محمد البيتي
9-              عبد الرحمن جمال
10-         بشر بن هاشم الشافعي”.[13]
وأصدر علماء المدينة المنورة كذلك بيانا مشابها ، جاء فيه:” نشهد بأن هذا الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ودعانا اليه إمام المسلمين سعود من توحيد الله ونفي الشرك ، هو الدين الحق الذي لا شك فيه ولا ريب. وان ما وقع في مكة والمدينة سابقا والشام ومصر وغيرها من البلدان الى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنها : الكفر المبيح للدم والمال… وكل من خالف ما في هذا الكتاب من أهل مصر والشام والعراق وكل من كان دينهم الذي هم عليه الآن فهو كافر مشرك.
أشهد بذلك وأنا الفقير بن حسين ، بالروضة الشريفة ، وكتبه محمد صالح رضوان ، وشهد بذلك وكتبه محمد بن اسماعيل ، وكتبه الفقير الى الله حسن”.[14]
وهكذا وقع الشريف غالب بن مساعد على بيان مشابه يعترف فيه على نفسه بالكفر سابقا ، بالاضافة الى تكفير الأمة الاسلامية جمعاء .[15]

إعلان تكفير الدولة العثمانية

وعندما حاولت الدولة العثمانية ان تتنازل قليلا لسعود بن عبد العزيز فبعثت له بعدة وفود و رسائل تطلب فيها الهدنة والصلح ، كتب في جواب ذلك رسالة مطولة الى يوسف باشا ، جاء فيها:” وأما المهادنة والمسابلة على غير الاسلام ، فهذا أمر محال ، بحول الله وقوته ، وأنت تفهم أن هذا أمر طلبتموه منا مرة بعد مرة … وبذلتم الجزية على أنفسكم كل سنة ثلاثين ألف مثقال ذهبا ، فلم نقبل منكم ولم نجبكم بالمهادنة ، فان قبلتم الاسلام فخيرتها لكم وهو مطلبنا ، وان توليتم فنقول كما قال الله تعالى: (فان  تولوا فانما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم).[16]

وقد احتج  والي بغداد سليمان باشا  ، على هذه الرسالة العنيفة ، فأرسل  اليه سعود  رسالة  يعلن فيها  موقفه الصريح من الدولة العثمانية ، التي أخذ يتهمها بالكفر والشرك والردة ، ويدعوها الى الدخول في الاسلام . وقد جاء فيها: ” ذكرتم أن كتابنا المرسل الى يوسف باشا ، على غير ما أمر الله به ورسوله من الخطاب للمسلمين ، بمخاطبة الكفار والمشركين ، وان هذا حال الضالين وأسوة الجاهلين ، فنقول : بأنا متبعون ما أمر الله به ورسول عباده المؤمنين. ومن تلبيس إبليس أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين لا يتناول من شابههم من هذه الأمة … ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم ، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم وسلكوا سبيلهم.. وغلب الشرك على أكثر النفوس ، لظهور الجهل وخفاء العلم وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا.. نشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير ، وطمست الأعلام واشتدت غربة الاسلام وقلّت العلماء وغلبت السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين ، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها… فانظر الى تصريح هؤلاء الأئمة  بأن هذه الأعمال الشركية قد عمت بها البلوى وشاعت في كثير من بلاد الشام وغيرها ، وان الاسلام قد اشتدت غربته.. وان هذه المشاهد والأبنية التي على القبور قد كثرت وكثر الشرك عندها وبها حتى صار كثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، بل أعظم شركا عندها وبها. وهذا ما يبطل قولكم إنكم على الفطرة الاسلامية والاعتقادات الصحيحة ، ويبين أن أكثركم قد فارق ذلك ونبذه وراء ظهره وصار دينه الشرك بالله ودعاء الأموات والاستغاثة بهم.
وأما قولكم: ( فنحن مسلمون حقا ، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة ومجتهدوا الدين والملة المحمدية).
فنقول: قد بينا من كلام الله وكلام رسوله وكلام أتباع الأئمة الأربعة ما يدحض حجتكم الواهية ويبطل دعواكم الباطلة. وحالكم وحال أئمتكم وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك. وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، عام 22 رسالة لسلطانكم سليم ، أرسلها الى ابن عمه الى رسول الله يستغيث به ويدعوه ويسأله النصر على الأعداء من النصارى وغيرهم ، وفيها من الذل والخضوع والعبادة والخشوع ما يشهد بكذبكم ، وأولها: (من عُبيدك السلطان سليم ، وبعد يا رسول الله قد نالنا الضر ونزل بنا المكروه ن نسألك النصر عليهم والعون عليهم) . وقال غير واحد من العلماء: إن من أسباب الكفر والشرك : الغلو في الصالحين… فكل هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فان تاب ، وإلا قتل.
وأما قولكم: (وأما  ما اعترينا من الذنوب فلا يخرجنا من  دائرة الاسلام ، كما زعمت الخوارج).
فنقول: نحن بحمد الله لا نكفر أحداَ من أهل القبلة بذنب ، وانما نكفرهم بما نص الله ورسوله وأجمع عليه علماء الأمة المحمدية: أنه كفر ، كالشرك في عبادة الله غيره ، من دعاء ونذر وذبح ، وكبغض الدين وأهله والاستهزاء به.
وأما قولكم: (فكيف التجري بالغفلة على إيقاظ الفتنة بتكفير المسلمين وأهل القبلة ، ومقاتلة قوم بؤمنون بالله واليوم الآخر ، واستباحة أموالهم وأعراضهم وعقر مواشيهم وحرق أقواتهم ، من نواحي الشام…إلخ؟).
فنقول: قد قدمنا أننا لا نكفّر بالذنوب ، وانما نقاتل ونكفر من أشرك بالله وجعل لله ندا… فان كنتم صادقين في دعواكم: (أنكم على ملة الاسلام ومتابعة الرسول (ص)) فاهدموا تلك الأوثان كلها وسووها بالأرض ، وتوبوا الى الله من جميع الشرك والبدع ، وحققوا قول : (لا إله إلا الله). ومن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله من الأحياء والأموات ، فانهوه عن ذلك ، وعرّفوه أن هذا مناقض لدين الاسلام ومشابهة لدين عباد الأصنام ، فإن لم ينته عن ذلك الا بالمقاتلة ، وجب قتاله ، حتى يجعل الدين كله لله…
فإذا فعلتم ذلك فأنتم إخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، يحرم علينا دماؤكم وأموالكم . وأما ان دمتم على حالكم هذه ، ولم تتوبوا من الشرك الذي أنتم عليه وتلتزموا دين الله الذي بعث الله به رسوله ، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات ، لم نزل نقاتلكم حتى تراجعوا دين الله القويم وتسلكوا طريقه المستقيم.
(وقاتلوهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله).
حرر في اليوم الرابع عشر من شهر ذي القعدة ، سنة خمس وعشرين”.[17]

ان إعلان تكفير الدولة العثمانية و رعاياها من المسلمين ، من قبل الحركة الوهابية بقيادة الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود ، الذي اقترن مع حملات عسكرية عنيفة على اطرافها المختلفة ، واستعمال لدرجة عالية من الإرهاب ، حقق لابن سعود سيطرة شبه كاملة على الجزيرة العربية ، ولكنه استفز الدولة العثمانية و العالم الاسلامي للقيام بحملة مضادة تمثلت في الإيعاز الى والي مصر محمد علي باشا بالهجوم على الحجاز و نجد و القضاء على الدولة الوهابية. ولم ينفع بعد ذلك تراجع زعيم الوهابية الجديد الأمير عبد الله بن سعود  عن التكفير ، و لا إعلان الولاء التام للسلطان العثماني محمود الغازي  والاعتراف بأنه ” عبد من عبيد الباب العالي و من جملة الخدام” [18]
وبما أنه كان من الصعب جداً على عامة المسلمين القبول بالدعوة الوهابية التي كانت تحتم عليهم الاعتراف على انفسهم بالشرك و الكفر و الدخول في الاسلام من جديد ،  فقد كانت تلقى منهم مجابهة واسعة و عريضة ، ولم يكن أمام الحركة الوهابية الا استخدام العنف و الإرهاب لإجبار الناس على الخضوع لهم و القبول بعقيدتهم ، و هذا ما كان يمهد الطريق للعمل من أجل مقاومتهم و تحين الفرص للتخلص منهم بالقوة.إذ أن السيف وحده لم يكن ليشكل يوما أساساً لدولة ، وان الشعب الذي يخضع  لحركة قوية قد يقبل بها مؤقتا ، ولكن رفض الشعب لها سيكون  سلبياً و عنيفاً في المستقبل . وهو ما حصل بالفعل فقد كانت المواجهة قائمة على قدم وساق بين أغلب سكان المناطق في الجزيرة العربية و الجيوش السعودية الوهابية الغازية، وكان لهذه المواجهات العسكرية المستمرة دوراً  كبيراً  في إفشال الدولة الوهابية الاولى  .

و هذا  ما ذهب اليه حافظ وهبة ، مستشار الملك عبد العزيز بن سعود ، حيث قال  ان السبب الأول لسقوط الدولة السعودية الأولى : أنها كانت مستندة الى القوة العسكرية أكثر من استنادها على القلوب ، و ان الدعوة لم تتمكن من قلوب الناس ، و لذلك فان  الثورات كانت تنشب من وقت لآخر لطرح الحكم السعودي ، لا سيما في البلاد البعيدة عن نجد كعسير و عمان.[19] و هو ما ذهب اليه أيضا الدكتور عبد الله بن عثيمين الذي قال :” كانت الحروب من أهم أسباب توسع الدولة السعودية الأولى ، كما كانت السبب الجوهري في نهايتها”. [20]








[1]  - يقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب :” لا نكفر الا من بلغته دعوتنا للحق ، ووضحت له المحجة وقامت  عليه الحجة ، وأصر مستكبرا معاندا ، كغالب من نقاتلهم اليوم ، يصرون على ذلك الإشراك … ونعتذر عمن مضى : بأنهم مخطئون معذورون ، لعدم عصمتهم من الخطأ.
فان قلت: فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة ، واستمر مصرا على ذلك حتى مات؟
قلت: لا مانع من ان نعتذر لمن ذكر ، ولا نقول : انه كافر ، ولا لما تقدم انه مخطيء ، وان استمر على خطئه ، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه ، فلم تقم عليه الحجة ولا وضحت له المحجة”. الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 234 – 235 وصيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان ، لمحمد بشير السهسواني الهندي ، ص 419
[2]  - ويقصد به مفهومه الخاص عن التوحيد ،  كما هو واضح
[3]  -    و قد عبر الأمير سعود بن عبد العزيز ، عن التزام الحركة الوهابية بالجهاد الابتدائي ، عندما دخل مكة المكرمة ، سنة 1218 هـ حيث أصدر بيانا قال فيه بعد أن شرح معنى الشرك بالمفهوم الوهابي:” .. هذا هو الذي ندعو الناس اليه و نقاتلهم عليه بعد ما نقيم الحجة عليهم من كتاب الله وسنة رسوله (ص) و إجماع السلف الصالح من الأمة ، ممتثلين لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) فمن لم يجب الدعوة بالحجة و البيان قاتلناه بالسيف و السنان”.[3]
وقال في مكان آخر:” قد قدمنا أننا لا نكفّر بالذنوب ، و انما نقاتل و نكفر من أشرك بالله وجعل لله ندا…  فإن لم ينته عن ذلك الا بالمقاتلة ، وجب قتاله ، حتى يجعل الدين كله لله…
وأما ان دمتم على حالكم هذه ، ولم تتوبوا من الشرك الذي أنتم عليه و تلتزموا دين الله الذي بعث الله به رسوله ، و تتركوا الشرك و البدع و المحدثات ، لم نزل نقاتلكم حتى تراجعوا دين الله القويم و تسلكوا طريقه المستقيم.  (وقاتلوهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله)”.[3]
و أجبر سعود علماء مكة و المدينة على إصدار فتوى تقول:” إن من لم يدخل في هذا الدين ويعمل به و يوالي أهله و يعادي أعداءه فهو كافر بالله واليوم الآخر. و واجب على إمام المسلمين ، والمسلمين ، جهاده و قتاله حتى يتوب الى الله مما هو عليه ، و يعمل بهذا الدين”.[3]




[4]  -  يقول المؤرخ الوهابي عثمان ابن بشر ، وهو يصف هزيمة أهل الرياض سنة 1187: ” فَرَّ اهل الرياض ، الرجال والنساء والاطفال لا يلوي أحد على أحد هربوا على وجوههم الى البرية في السهال قاصدين الخرج ، وذلك في فصل الصيف ، فهلك منهم خلق كثير جوعاً وعطشا … وتركوها خاوية على عروشها ، الطعام واللحم في قدوره والسواني واقفة في المناحي ، وأبواب المنازل لم تغلق ، وفي البلد من الاموال ما لا يحصر ، فلما دخل عبد العزيز الرياض وجدها خالية من أهلها الاّ قليلاً فساروا في اثرهم يقتلون ويغنمون ..” ( عنوان المجد  ، ص 120)
ويكمل ابن غنام المشهد ، فيقول : ” استولى ابن سعود على جميع ما في الرياض من أموال ونخيل فيئا من الله لأنه لم يوجف عليها  خيل ولا ركاب”. ( تاريخ نجد ، ص 138)

[5]  - يقول ابن غنام إنه في سنة 1206 و 1207  هجم سعود على القطيف والأحساء وقتل وأباد نحو ألف وخمسمائة رجل ، واقام مجازر رهيبة بحق السكان.  ( ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 182- 183)
وفي  سنة 1208- حاصر سعود بعض القرى في الأحساء وقتل منهم رجالا ونهب أموالا ، وأمر أهل القرين بالجلاء. وكان الأعراب وأهل البوادي ممن مع سعود في تلك الأثناء يدمرون في الاحساء ويقطعون النخيل . ( ابن غنام: تاريخ نجد ، ص 187)
وقد صور المؤرخ الوهابي عثمان ابن بشر أحداث إحدى  تلك الغزوات الملطخة بالعنف والدماء ، وهي (وقعة الرقيّقة) التي حدثت عام 1210 ، بقوله : ” ثور المسلمون بنادقهم دفعة واحدة فأرجفت الأرض واظلمت السماء وثار عج الدخان في الجو وأسقطت كثير من الحوامل في الأحساء. ثم نزل سعود في (الرقيقة) المذكورة . وأقام  مدة أشهر يقتل من أراد قتله . ويجلي من أراد جلاءه ، ويحبس من أراد حبسه ويأخذ من الاموال، ويهدم من المحال ، ويبني ثغورا ويهدم دورا ، وضرب عليهم ألوفاً من الدراهم وقبضها منهم ، وأكثر فيهم سعود القتل … فهذا مقتول في البلد ، وهذا يخرجونه الى الخيام  ويضرب عنقه عند خيمة سعود ، حتى افناهم الاّ قليلاً ، وحاز سعود من الاموال في تلك الغزوة ما لايعد ولا يحصى ” . ويقول ابن بشر: ان ابن سعود  قتل من أهل قرية واحدة هي (الفضول)  ثلاثمائة رجل ، حتى صارت تلك القرية مضرب الأمثال. ( عنوان المجد ، ص 216)
[6]  -  يقول الجبرتي: أخذ البلدة الوهابيون واستولوا عليها عنوة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال ، وهذا دأبهم مع من يحاربهم./ غالب ، محمد أديب : من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي ، ص 90

[7]  - ابن بشر: عنوان المجد ، ص 257 – 258
[8]  - ابن بشر: عنوان المجد ، ص 261
[9]  - عبد العزيز التويجري ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 49
[10]  - غالب ، محمد أديب : من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي ، ص 94
[11]  - عبد العزيز التويجري ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 46
[12]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 224 ورغم هذه الصراحة في تكفير عامة المسلمين الذين كانوا ولا يزالون يطلبون الشفاعة من الأنبياء والأولياء ، فان الشيخ عبد الله يشكو في أماكن أخرى من كذب الخصوم بإلصاق تهمة تكفير المسلمين بالعموم بالوهابيين ، فيقول في رسالة له:” وأما ما يكذب علينا سترا للحق وتلبيسا على الخلق… أنا نكفر الناس على الإطلاق ومن بعد الستمائة ، الا من هو على ما نحن عليه ، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركا ، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله… كان جوابنا عليه في كل مسألة من ذلك (سبحانك هذا بهتان عظيم). ولكنه يكمل فيقول: ” فان قال قائل: يلزم من تقريركم وقطعكم في أن من قال: (يا رسول الله اسألك الشفاعة) أنه مشرك مهدر الدم ، أن يقال: يكفر غالب الأمة ولا سيما المتأخرين ، لتصريح علمائهم المعتبرين: أن ذلك مندوب ، وشنوا الغارة على من خالف في ذلك.
قلت: لا يلزم ، لأن لازم المذهب ليس بمذهب ، ونحن نقول فيمن مات : تلك أمة قد خلت ، ولا نكفر الا من بلغته دعوتنا للحق ، ووضحت له المحجة وقامت  عليه الحجة ، وأصر مستكبرا معاندا ، كغالب من نقاتلهم اليوم ، يصرون على ذلك الإشراك .. وغير الغالب: انما نقاتله لمناصرته من هذه حاله ، ورضاه به ، ولتكثير سواد من ذكر ، والتأليب معه ، فله حينئذ حكمه في قتاله. ونعتذر عمن مضى : بأنهم مخطئون معذورون ، لعدم عصمتهم من الخطأ.
فان قلت: فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة ، واستمر مصرا على ذلك حتى مات؟
قلت: لا مانع من ان نعتذر لمن ذكر ، ولا نقول : انه كافر ، ولا لما تقدم انه مخطيء ، وان استمر على خطئه ، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه ، فلم تقم عليه الحجة ولا وضحت له المحجة”. الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 234 – 235 وصيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان ، لمحمد بشير السهسواني الهندي ، ص 419

[13]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 314
[14]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 317
[15]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 316
[16]  - هامش  عنوان المجد ، لابن بشر ، ج1 ص 323 ، نقلا عن الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج7 ص 261
[17]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 287 و  304 – 313 راجع أيضا : رسائل أئمة دعوة  التوحيد ، لفيصل بن مشعل آل سعود ، ص 55 – 79
[18]  -  عبدالرحيم عبدالرحيم ، الدولة السعودية الأولى ص392-393
[19]  - كشك ،  محمد جلال :السعوديون والحل الاسلامي ، ص 190-191

[20]  - ابن عثيمين:تاريخ المملكة العربية السعودية ، ص 177

3 – التذبذب بين المقاومة و الولاء للدولة العثمانية

قضى ابراهيم بن محمد علي باشا على الدولة السعودية الوهابية الأولى ، و دمر عاصمتها الدرعية
واعتقل و أباد و شتت كثيراً من قادتها السياسيين و الدينيين ، من آل سعود و آل الشيخ ، و افتتح بذلك عهداً جديداً من الهيمنة السياسية و العسكرية المباشرة  على نجد ، و لكنه لم يستطع القضاء على الحركة الوهابية التي أخذت تشكل أرضية المقاومة للهيمنة المصرية العثمانية ، و التي عادت لتحقق انتصارات متعددة و تشكل حكومات مستقلة بين الفينة والأخرى ، الا انها لم تستطع استعادة مجدها الأول  في دولتها الثانية ، حيث ظل أمراؤها على درجة أو أخرى من التبعية و الولاء الظاهر للدولة العثمانية. و بما أن عقيدة الحركة الوهابية كانت تعتبر الدولة العثمانية كافرة و مشركة ، وهو ما عبر عنه بوضوح الأمير سعود الكبير بعد احتلال الحجاز ، فان الولاء و الخضوع و التبعية لها أصبح يعتبر عملاً مناقضا للإيمان و التوحيد و لمباديء الحركة الوهابية التي كانت تكفر من يقف على الحياد تجاهها فكيف بمن يحاربها و يجتاح عاصمتها ويأسر و يقتل قادتها و يبطش برجالها؟ ومن هنا فقد انقسمت حول الموقف من الدولة العثمانية بين معارض و موالٍ ، واصيبت بأزمة خطيرة انعكست على علاقاتها الداخلية إذ أخذ المعارضون يكفرون الموالين و المتعاونين مع القوات المصرية و الدولة العثمانية “الكافرة”.   فقد أفتى الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ والشيخ حمد بن عتيق  بكفر و ردة من أعان جيوش “المشركين” التي هجمت على أراضي نجد.[1] و قال الشيخ سليمان:” إن الانسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفا منهم و مداراة لهم و مداهنة لدفع شرهم فإنه كافر مثلهم ، و ان كان يكره دينهم و يبغضهم و يحب “الاسلام والمسلمين” ، هذا إذا لم يقع منه الا ذلك ، فكيف إذا كان في دار منعة و استدعى بهم و دخل في طاعتهم و أظهر الموافقة على دينهم الباطل و أعانهم عليه بالنصرة و المال ، و والاهم و قطع الموالاة بينه و بين “المسلمين” ، و صار من جنود القباب و الشرك و أهلها بعد ما كان من جنود الإخلاص و التوحيد و أهله؟ فان هذا لا يشك “مسلم” أنه كافر من أشد الناس عداوة لله و رسوله (ص) و لا يستثنى منه ذلك الا المكره ، و هو الذي يستولي عليه “المشركون” فيقولون له : اكفر أو افعل كذا و إلا فعلنا بك وقتلناك ، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب و الإيمان. و قد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً أنه يكفر ، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً و طمعاً في الدنيا “.[2] و طالب الشيخ سليمان بمقاطعة “المشركين” اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
وقال: ” قد نهى الله سبحانه عن موالاة الكفار وشدد في ذلك ، وأخبر النبي (ص) أن من أحب قوما حشر معهم. ويفهم مما ذكرنا أمور من فعلها تعرض للوعيد بمسيس النار ، أحدها: التولي العام ، الثاني: المودة والمحبة الخاصة ، الثالث: الركون القليل ، الرابع : مداهنتهم ومداراتهم، الخامس: طاعتهم فيما يتولون وفيما يشيرون ، السادس: تقريبهم في الجلوس والدخول على أمراء الاسلام ، السابع: مشاورتهم في الأمور ، الثامن استعمالهم في أمر من أمور المسلمين أي أمر كان إمارة أو عمالة أو كتابة أو غير ذلك ، التاسع: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، العاشر: مجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم ، الحادي عشر: البشاشة لهم والطلاقة ، الثاني عشر: الإكرام العام ، الثالث عشر: استئمانهم وقد خونهم الله ، الرابع عشر:معاونتهم في أمورهم ولو بشيء قليل كبري القلم وتقريب الدواة ليكتبوا ظلمهم ، الخامس عشر: مناصحتهم ، السادس عشر:اتباع أهوائهم ، السابع عشر: مصاحبتهم ومعاشرتهم ، الثامن عشر: الرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ، التاسع عشر: ذكر ما فيه تعظيم لهم كتسميتهم سادات وحكماء كما يقال للطواغيت “السيد فلان” ، العشرون: السكنة معهم في ديارهم كما قال (ص):” من جامع المشركين وسكن معهم فانه مثلهم” رواه أبو داود.[3]
و قد اعتبر الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ من يشير بكفّ “المسلمين” – أي الوهابيين –  عن “الكفار” – أي المصريين و الأتراك – ” من أعظم الموالين المحبين للكفار من المرتدين و المنافقين” و قال : ينبغي أن تكون الغلظة على المرتدين أشد من الكافر الأصلي ، لان هذا عادى الله على بصيرة و عادى رسوله (ص) بعد ما عرف الحق ثم أنكره و عاداه و العياذ بالله… و ما ظنك بمن يُسِرُّ الى الكفار بالمودة و يُعلمهم أنه يحبهم ليواصلوه و يكرموه؟”.[4]
و كرد فعل على تهاون بعض الوهابيين في علاقته مع الدولة العثمانية و قبوله بالتعاون معها و التبعية لها ، صعد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ من موقفه تجاه الدولة العمانية التي اتهما بالشرك و حصر صفة الاسلام و المسلمين على أتباع الدعوة الوهابية ، و اصدر بيانا الى عامة بلدان نجد ، جاء فيه:” و بعد فالذي أوجب هذا الكتاب ، ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الاسلام الذي عرّفكم به و هداكم اليه ، و تسمون به فلا يعني باسم المسلمين الا أنتم (!!!) وما أعطاكم الله تعالى في هذا الدين من النعم أكثر من أن تحصى.. أولها : كون الدعوة الى دين الاسلام ما قام  في بيانها و الدعوة اليها الا رجل واحد (هو محمد بن عبد الوهاب).. و لا يُعرف أن أحدا دعا فيها الى توحيد الله و أنكر الشرك المنافي له ، بل قد ظنوا جواز ذلك و استحبابه ، و ذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت و القبور و الجن و الأشجار و الأحجار في جميع القرى و الأمصار و البوادي وغيرها…فرحم الله هذا الشيخ الذي أقامه الله مقام رسله و أنبيائه في الدعوة الى دينه.
هذا ما نوصيكم به و ندلكم عليه عامة ، و العلماء و الأمراء خاصة ، فيجب عليكم أن تكونوا صدراً في هذا الدين (و يقصد: الوهابية) بالرغبة فيه و الترغيب ، و أن تكونوا سندا و عونا لمن أمر بالمعروف و نهى عن المنكر (من آل سعود) “.[5]
و عندما قام محمد علي باشا باعتقال الأمير فيصل بن تركي سنة 1253هـ ، و تعيين الأمير خالد بن سعود والياً على نجد مكانه ، و قف الشيخ عبد الرحمن معلناً : أن موالاة “المشرك” و الركون اليه ونصرته و إعانته باليد أو اللسان أو المال من الأمور التي تنقض التوحيد.[6]و أخذ يحث على مقاومة القوات المصرية “المشركة” و الجهاد ضدها حتى مع عدم وجود إمام.[7]
و عندما عاد فيصل بن تركي الى السلطة بعد سقوط خالد ، طلب منه الشيخ عبد الرحمن : ” أن يجاهد من أبى أن يلتزم التوحيد و يعرفه ، من البادية والحاضرة ، و خصوصا آل ظفير المشركين الذين يجب جهادهم و دعوتهم الى الله”.[8]
وتنفيذاً لتعليمات الشيخ عبد الرحمن و في محاولة لتعزيز الوحدة الداخلية الوهابية و تحصينها عقائدياً ضد الاختراق العثماني ، قام الامير  فيصل بإرسال كتاب الى أهل النواحي ، “يحضهم على التمسك بالتوحيد و الاستقامة عليه” و يقول لهم:” ان أكثر الناس في هذه الأزمنة و قبلها قد وقع منهم ما وقع من أولئك المشركين ، و هم يقرأون القرآن فعموا و صموا عن هذا (التوحيد) و أدلته”.[9] و يضيف:” اعلموا أنه قد غلط في هذا طوائف لهم علوم و زهد و ورع و عبادة ، فما حصل لهم من العلم الا القشور ، و قد حرموا لبه و ذوقه ، و قلدوا أسلافا قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل ، فيا لها من مصيبة ما أعظمها و خسارة ما أكبرها ؟ فلا حول و لا قوة الا بالله. فلا غنى لكم عن تعلم (التوحيد) و حقوقه من فرائض الله و واجباته و أن يكون ذلك أكبر همكم و محصل علمكم “.[10]
أما الشيخ عبد الرحمن فقد اهتم كثيرا في السيطرة الثقافية و السياسية على المساجد و تعيين الأئمة الوهابيين فيها خوفاً من تسرب التيارات المعتدلة الى القواعد الشعبية ، و قد استنكر تنصيب شيخ حنبلي من أهل الأحساء ، إماماً في بعض المساجد ، من غير إذن الإمام (ابن سعود).[11]  فكتب الى الشيخ عبد اللطيف بن مبارك ، ممثله في الأحساء ، يقول:”ان شيخنا رحمه الله ، لما تبين بهذه الدعوة الاسلامية ، وجد العلماء في الأحساء و غيرها لا يعرفون التوحيد من الشرك ، بل قد اتخذوا الشرك في العبادة دينا ، فأنكروا دعوته لجهلهم بالتوحيد و معنى (لا إله إلا الله).. ان العلماء ما عرفوا التوحيد و لا عرفوا هذا الشرك ، و لا عالم من علماء الأحساء أنكر هذا ، بل قد صار إنكارهم لإخلاص العبادة لله وحده . و من دعا الى الإخلاص كفّروه و بدّعوه ، و لا نعلم أحدا من علماء الأحساء صدع بهذا الدين و عرفه و عرّفه”.[12]
و يبدو ان حركة ثقافية معتدلة نشطت في الأحساء بقيادة  الشيخ الحنبلي محمد بن فيروز ، حفيد ابن فيروز الخصم الألد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وامتدت الى القصيم و عنيزة بقيادة الشيخ داود بن جرجيس ،  و كانت تدعو الى التريث في تكفير المسلمين ، ونجحت في استقطاب بعض القواعد الوهابية ، حتى أحدثت شرخا عميقاً دفع البعض الى اعتزال الجمعة و الجماعة في الأحساء وتكفير ” مَن في تلك البلاد من “المسلمين” ، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز و يخالطونه هو و أمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوة الشيخ محمد و لم يقبلها و عاداها. قال: ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت ، و من جالسه فهو مثله . و رتبوا على هاتين المقدمتين .. ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام حتى تركوا رد السلام”. [13] مما اضطر الشيخ عبد الرحمن الى شن هجوم على أهل الاحساء و علمائها والتشكيك بعقيدتهم ، كما جاء في رسالة له الى بعض علماء الأحساء:” و أما أهل بلدكم في السابق ، و غيرهم ، فهم أشاعرة ، و الأشاعرة  أخطأوا في ثلاثة من أصول الدين ، منها : تأويل الصفات.. و أخطئوا أيضا في التوحيد ، و لم يعرفوا من تفسير (لا إله إلا الله) الا معناها: (القادر على الاختراع). فاذا كان العلماء في وقتنا هذا و قبله ، في كثير من الأمصار ، ما يعرفون من معنى (لا إله إلا الله) الا توحيد الربوبية ، اغتروا بقول بعض العلماء.. و علماء الاحساء ما عادوا شيخنا رحمه الله ، في مبدأ دعوته الا من أجل أنهم ظنوا: أن عبادة يوسف و العيدروس و أمثالهما لا يستفاد بطلانها من كلمة التوحيد”.[14]
وقام  الأمير فيصل  بن تركي بإرسال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الى الأحساء لتكريس  العقيدة  الوهابية ، و مناظرة علمائها في أصول الدين والعقائد.[15] و التصدي لتأليف كتب حول الموضوع.[16]
و فيما كان الشيخ عبد اللطيف يواجه المعتدلين الذين يرفضون التكفير بالعموم ، كانت هناك مجموعة أخرى تنمو في الأحساء  بقيادة عبد العزيز الخطيب ، وتقف على يمين النظام الوهابي القائم ، وتتهمه بالولاء للحكومة العثمانية “الكافرة” ، و من ثم تقوم بتكفيره . و قد حاول الشيخ عبد اللطيف أن يردعهم عن  الخوض في هذا الأمر و قام باتهامهم  بالجهل و اتباع الخوارج. وأرسل الى أحدهم الرسالة التالية :” بلغنا عنهم : تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين ، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين.. وبلغنا عنكم نحو من هذا ، وخضتم في مسائل من هذا الباب ، كالكلام في الموالاة والمعادة والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك.
والكلام في هذا الباب يتوقف على معرفة ما قدمناه ومعرفة أصول عامة كلية ، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها ، فان الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله ، يحصل به  من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الاديان ويشتت الأذهان ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن.
وأما التكفير بهذه الامور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام ، فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن  أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة.
وقد  أسأت في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم ، انه لم يصدر منكم. وتذكر ان إخوانك من أهل النقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا ، وانهم ينسبونا الى السكوت عن بعض الأمور. وأنت تعرف انهم يذكرون هذا غالبا ، على سبيل القدح في العقيدة والطعن في الطريقة ، وان لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى” .[17]
كما حاول الشيخ عبد اللطيف أن يفسر معنى الولاء والبراء ، بما لا يخرج آل سعود من (الدين) بسبب تعاونهم مع العثمانيين ، فقال موجها حديثه للوهابيين المتطرفين المكفرين لهم: ” قد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد : (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر) على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين والملوك المشركين ، ولم تنظروا  لأول الآية وهو قوله: ( ان الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة ، و لا المراد من الأمر ، المعروف المذكور في هذه الآية الكريمة ، و في قصة صلح الحديبية و ما طلب المشركون و اشترطوه”.[18]
و برر الشيخ عبد اللطيف في رسالة أخرى حالة العجز عن إظهار العداوة “للمشركين” ، و ممارسة التقية مع “الكفار” . و حاول ان يجد لها العذر ، فقال لمن سأله عن حكم من كان في سلطان “المشركين” ، و عرف التوحيد و عمل به و لكن ما عاداهم و لا فارق أوطانهم: “إن هذا السؤال صدر عن عدم تعقل لصورة الأمر والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به ، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد و يعمل به و لا يعادي المشركين. و من لم يعادهم لا يقال له: (عرف التوحيد و عمل به). و السؤال متناقض .. و أظن مقصودك : من لم يظهر العداوة ولم يفارق. و مسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة ، فالأول يعذر به مع العجز والخوف”.[19]
و فرق الشيخ عبد اللطيف بين الكفر العملي و الكفر الاعتقادي ، فقال : بأن الحكم بغير ما أنزل الله و ترك الصلاة كفر عمل لا كفر اعتقاد ، و قد سمى الله من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعض مؤمنا بما عمل وكافرا بما ترك العمل به (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) فالايمان العملي يضاده الكفر العملي ، و الإيمان الاعتقادي  يضاده  الكفر الاعتقادي ، و كذلك الشرك: شركان ، شرك ينقل عن الملة و هو الشرك الأكبر ،  و شرك لا ينقل عن الملة و  هو الشرك الأصغر.. وانه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا ، وان كان ما قام به كفر. و أما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر ، و لكنه لا يستحق اسم الكفر على الاطلاق”.[20]
وهكذا تذبذبت الحركة الوهابية في الدولة السعودية الثانية بين المعارضة والمقاومة للدولة العثمانية و تكفير من يتعاون معها او يخضع لها باعتبارها دولة كافرة ، و بين الولاء لها و الحكم باسمها و تبرير ذلك باسم التقية والعجز عن إظهار العداوة للمشركين ، مما أفقد الحركة الوهابية صدقيتها و مزق وحدتها و أبعد الجماهير عنها و أدى الى انهيارها و تلاشيها بعد حين.





[1]  - قال الشيخ حمد بن عتيق :انقسم الناس إلى أقسام أحدها : ناصر لدين الإسلام وساعٍ في ذلك بكل جهده وهم القليلون عدداً الأعظمون عند الله أجراً . القسم الثاني : خاذل لأهل الإسلام تارك لمعونتهم. القسم الثالث : خارج عن شريعة الإسلام بمظاهرة حزب المشركين ومناصحتهم  .( مجموعة التوحيد 256ـ257 ).
وقال أيضا: …الوجه الثاني : أن يوافقهم مع مخالفته لهم في الباطن وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال أو مشحة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المآل، فإنه في هذه الحالة يكون مرتداً ولاتنفعه كراهته لهم في الباطن وهو ممن قال الله فيهم “ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين” . (سبيل النجاة ـ مجموعة التوحيد ، ص 296)

[2]  -  سليمان بن عبد الله بن الشيخ ، الرسالة السابعة في حكم موالاة أهل الإشراك ، مجموعة التوحيد النجدية ، ص 247
[3]  -  راجع: سليمان بن عبد الله بن الشيخ ، الرسالة السادسة  ، مجموعة التوحيد النجدية ، ص 240 –241 راجع أيضا : الرسالة الثامنة ، للشيخ سليمان ، في حكم السفر الى بلاد الشرك والإقامة فيها للتجارة وإظهار علامات النفاق وموالاة الكفار. ص 266
[4]  - سليمان بن عبد الله بن الشيخ ، الرسالة السادسة ، مجموعة التوحيد النجدية ، ص 242
[5]  - ابن بشر:عنوان المجد ، ج2 ص 49
[6]  - مجموعة الرسائل والمسائل ، ج4 ص 291
[7]  -  وقد ناقش المستسلمين الذين كانوا يحتجون بعدم وجود إمام ينظم مقاومتهم ، فقال مستنكرا:” بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟ هذا من الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين  ، والأدلة على بطلان هذا القول أشهر من أن تذكر. من ذلك عموم الأمر بالجهاد والترغيب فيه …وكل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله ولا يكون الإمام إلا بالجهاد لا أنه لا يكون جهادا إلا بإمام”.  وقال بعد الاستدلال بقصة أبي بصير عندما كان في نفر يهجم على قريش وقوافلهم واستقلاله بحربهم : هل قال له رسول الله أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام !. الدرر السنية ، ج 7 ص 97
[8]  - ابن سحمان: منهاج أهل الحق ، ص 19
[9]  - ابن بشر: عنوان المجد ، ج2 ص 216 و آل سعود ، فيصل: رسائل أئمة دعوة التوحيد ، ص 101
[10]  - ابن بشر: عنوان المجد ، ج2 ص 218
[11]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 319
[12]  - الدرر السنية والاجوبة النجدية ، ج1 ص 324
[13]  -  ابن بشر: عنوان المجد ، ج2 ص 269

[14]  - الدرر السنية والاجوبة النجدية ، ج1 ص 320
[15]  -  هامش كتاب عنوان المجد ، للمحقق عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ،ج 2 ص 278
[16]  - قام الشيخ عبد اللطيف بالرد على الشيخ داود بكتابين هما : (منهاج التقديس في الرد على داود بن جرجيس) و( تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس). حيث حاول أن ينفي تهمة التكفير بالعموم التي وجهها ابن جرجيس للوهابية ، فقال:” أما القول بأنا نكفر الناس عموما ، ونوجب الهجرة الينا على من قدر على إظهار دينه ، وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل ، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون الناس به عن دين الله ورسوله ، سبحانك هذا بهتان عظيم”. عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ  ، ص 174
كما حاول ان يلطف من أقوال جده ، فقال:” ان الشيخ محمد رحمه الله كان من أعظم الناس توقفا وإحجاما عن إطلاق الكفر ، حتى انه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعوا غير الله من أهل القبور ، أو غيرهم ، اذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها.. فانه لا يكفر الا من كفره الله ورسوله وأجمعت الأمة على كفره ، كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين”. عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ ، ص 173


[17]  -  الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 465
[18]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 478
[19]  - ابن سحمان: منهاج أهل الحق ، ص 29
[20]  - الدرر السنية والأجوبة النجدية ، ج1 ص 482 و484

4 – الصراع على السلطة بعيداً عن إرادة الشعب

نتيجة لغياب الشورى و غياب نظام واضح لتبادل السلطة اعتماداً على ارادة الأمة ، تَمَّ الخضوع للنظام البدوي الوراثي القائم ، ولكن هذا ترك مصير الدولة الوهابية السعودية في مهب الريح و وضعها عرضة للانقسام و الصراعات الداخلية بين الأمراء.
من المعروف ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ البيعة لولاية العهد للأمير عبد العزيز في حياة والده محمد بن سعود ، ثم أخذ البيعة لولاية العهد لابنه سعود في حياة أبيه عبد العزيز. و عندما توفي سعود احتل ابنه عبد الله مكانه بالوراثة ، و لكنه لم يسلم من منافسة أخيه و عمه عبد الله.
و بعد أن سقطت الدولة السعودية الأولى.. و اخذ ابراهيم باشا معظم رجال آل سعود أسارى الى مصر.. انبرى رجل من آل معمر (حكام العيينة سابقا) و هو ( محمد بن مشاري بن معمر) سنة 1234 لتنظيم المقاومة ضد القوات المصرية و نَصَّب نفسه إماماً للحركة الوهابية . [1] ولكن الأمير مشاري بن سعود بن عبد العزيز ، استطاع الهروب من مصر و جاء الى نجد و أخذ يطالب ابن معمر بالزعامة ، فتنازل له هذا في البداية ثم قتله . [2]

ولم يمض طويل وقت حتى انبرى  تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود في عام 1236 ليعيد حكم آل سعود و ينشيء دولتهم الثانية ، فقتل من أجل ذلك أمير بلدة (ضرما) ناصر السياري ، في المسجد ، و استولي على البلدة ، ثم أخذ البيعة من أهلها بالقوة ، و احتل الرياض و قتل محمد ابن معمر.[3]  و استطاع أن يفرض هيمنته على نجد كلها بحلول عام 1241. وقد استند تركي بن عبد الله ، في تثبيت شرعيته ، الى الفكر القدري ، فقال في بيان الى عامة المسلمين: (إن الله ولاه أمرهم).[4]

و بالرغم من تمتع  الامام تركي بن عبد الله ، بجميع المواصفات الشرعية ، حسب الفكر السياسي الوهابي ، و تأييد رجال الدين من آل الشيخ له ، الا أن ذلك لم يمنع من اغتياله  سنة 1249  ،  على يد ابن أخته (مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود)  الذي كمن له عند باب المسجد وقتله غدرا بعد خروجه من صلاة الجمعة ، و استولى على السلطة عنوة .
و مع أن مقتل الامام تركي أثار غضباً وامتعاضاً كبيرين لدى آل الشيخ الذين احتجوا بالاعتصام في المسجد [5]، الا انهم سلّموا للأمر الواقع فيما بعد ، و بايعوا الأمير الجديد مشاري[6] ، فالسلطة أولاً وأخيراً هي لمن غلب ، و لا دور للأمة في انتخاب الامام ولا رأي حتى لعلماء الدين.
و لولا تمرد فيصل ابن تركي ، وعدم استسلامه للانقلاب ، لظل الأمير مشاري مستمراً في الحكم الى أن يشاء الله ، و لربما ورّث السلطة الى أولاده و أحفاده. ولكن فيصل بن تركي استطاع بعد بضعة شهور أن ينتقم لوالده ويقتل مشاري ، و يستعيد السلطة منه. وما كان من آل الشيخ هنا الا أن عادوا لنقل ولائهم الى المنتصر الجديد (فيصل).
و بعد ثلاث سنوات ، قرر والي مصر محمد علي باشا إعادة الحكم المصري الى نجد ، بواسطة أمير منافس من آل سعود ، هو: (خالد بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود) الذي استاء من استيلاء أبناء عمه على السلطة ، وكان لا يزال يتمتع ببعض الأنصار الذين لم يرضوا عن انتقال الامامة من أولاد سعود الكبير الى أولاد عبد الله بن محمد [7]. فاستعان محمد علي بخالد سنة 1253هـ و أرسله الى الرياض مع قوة عسكرية مصرية ، وعندما اقترب الجيش المصري من  الرياض اضطربت الأمور على فيصل فهرب منها ، وهرب معه آل الشيخ ، ولكن القوات المصرية اعتقلت فيصلاً وأعادته مرة ثانية الى مصر. وفي حين لم يجد معظم أهل نجد غضاضة بحكم خالد ، لأنه من آل سعود وهو الأقوى ، امتنع بعض أهلها  من الخضوع له بسبب تعاونه مع  المصريين “المشركين” وخوفاً من عودة الحكم التركي المباشر.[8] وهو ما يشير الى قبولهم لأي حاكم قاهر ، و رفضهم للحكم التركي الذي كانوا يعتبرونه “كافراً ومشركاً”.[9]
و بمجرد انسحاب القوات المصرية عام 1257 قام عبد الله بن ثنيان باقتحام الرياض و تنصيب  نفسه حاكماً جديداً عليها . وعندما حاول خالد أن يقاوم  ، قال له مستشاروه من رؤساء أهل الرياض :”ان هذا ملك انفسخ منك و تولاه غيرك ، والأمر بيد الله ، ثم بيد من استولى عليه”.[10] وهكذا استسلم خالد  دون مقاومة ، و أصبح عبد الله بن ثنيان أميراً ، فقدم عليه آل الشيخ وبايعوه ، و تتابعت الوفود على بيعته. [11]

ولم تمض سنتان ، حتى هرب فيصل بن تركي ، من سجنه في مصر عام 1259 ، ليستعيد السلطة بالقوة من عبد الله ، ويلقي به في السجن حتى الموت .[12] ورغم أن عبد الله كان يحظى بدعم آل الشيخ ويتمتع بكامل الشرعية ، الا ان منطق الغلبة للأقوى .. كتب تلك النهاية المأساوية لعبد الله بن ثنيان.
و ما أن توفي فيصل عام 1282هـ  حتى عادت الصراعات الداخلية لتشتعل مرة أخرى بين أبنائه الأربعة عبد الله وسعود ومحمد وعبد الرحمن والد الملك عبد العزيز ، حيث خرج سعود على أخيه عبد الله بعد سنة  من توليه للحكم ، و دخل معه في معركة ، ثم هرب الى البحرين التي كانت خاضعة لسيطرة الانجليز ، ثم عاد بدعم منهم ومن أمير البحرين وسلطان مسقط ، ليهاجم الأحساء و يعتقل أخاه محمد الذي كان يقود جيشا لمحاربته ، مما ألقى الذعر في قلب أخيه عبد الله الذي هرب من الرياض الى الصحراء ، فدخلها سعود عام 1288هـ  و أخذ يطارد أخاه هنا و هناك.
و لم يجد عبد الله  وهو في تلك الحالة مفراً  من الاستعانة بالقوات العثمانية ، متهماً أخاه بالثورة ضدها  و بالتعاون مع الانجليز ، و أرسل الى والي بغداد مدحت باشا ، يطلب مساعدته ، فهب لنجدته بإرسال حملة عسكرية من خمسة آلاف جندي .[13] و هكذا عاد عبد الله بن فيصل الى الرياض بعد أن هرب منها سعود ، و لكن هذا لم يلبث الا سنتين حتى عاد مرة أخرى الى الرياض عام 1290هـ  ليطرد أخاه عبد الله من السلطة.
و عندما توفي سعود عام 1291هـ (1875م ) ورثه أخوه عبد الرحمن فحكم لسنتين ثم خرج عليه أخوه محمد الذي كان يكبره سنا ويدعي أحقيته بالحكم ، فوقعت بينهما معارك حتى وافق الأثنان على ان يتولى الحكم أخوهما الأكبر عبد الله ، فعاد هذا الاخير من البادية و تولى السلطة  عام 1293هـ للمرة الثالثة.
و لكن أبناء سعود لم يقبلوا بهذه  الصفقة فخرجوا على عمهم عبد الله عام 1305هـ واحتلوا الرياض واعتقلوا عمهم و تولى أحدهم و هو محمد بن سعود السلطة لبعض الوقت.
وهنا استنجد عبد الله ، من سجنه ، بأمير حائل (الوهابي): محمد بن الرشيد ، فقدم الرياض واحتلها و أطلق سراحه و قتل محمد بن سعود ، ولكنه لم يعد السلطة الى عبد الله و انما أخذه “ضيفا” الى حائل ، و عـيّن والياً من قبله على الرياض. وسارعت القبائل النجدية بتقديم الطاعة لمحمد بن رشيد. و عندما توفي عبد الله ، بعيدا عن السلطة ، حاول أخوه عبد الرحمن عام 1308هـ ان يقوم بانقلاب على ابن الرشيد و يستعيد إمارته المفقودة و لكنه فشل فلجأ الى الكويت التي كانت لا تزال تخضع للحكم العثماني .
و هكذا انتهى حكم آل سعود في دولتهم الثانية نتيجة لصراعاتهم الداخلية المريرة القائمة على أساس القوة و الغلبة ، وفي غياب الشورى أو أي دور للأمة أو لأهل الحل و العقد ، أو أي دستور ينظم طريقة توارث السلطة .[14]



[1]  - ابن بشر: عنوان المجد ، ج 1 ص 442
[2]  - ابن بشر: عنوان المجد ، ج 1 ص 442
[3]  - ابن بشر:عنوان المجد ، ج2 ص 28
[4]  - ابن بشر : عنوان المجد ، ج2 ص 113
[5]  -  لما علم آل الشيخ بعملية الاغتيال ، جلسوا في المسجد فلم يخرجوا منه حتى أرسل اليهم مشاري يدعوهم ، فأبوا أن يأتوا اليه الا بالأمان ، فكتب لهم بالأمان ، فأتوا اليه وطلب منهم المبايعة ، فبايعوه. كما يقول ابن بشر في عنوان المجد ، ج2 ص 100
[6]  - ابن بشر:عنوان المجد ، ج2 ص 100
[7] – الحصين ، أحمد: دعوة الامام .. سلفية لا وهابية ص 231

[8]  - كتب أهل (الحوطة) الى خالد بن سعود :” ان كان الأمر لك ، ولا يأتينا في ناحيتنا عسكر من الترك فنحن رعايا لكم ، وان كان الأمر للترك فنحن لهم محاربون”.( ابن بشر: عنوان المجد ، ج2 ص 147)
[9]  -”توحدت القرى النجدية وقامت ضده ثورات بزعامة عبد الله بن ثنيان بن سعود ، تريد التحرر من حكم الأتراك والمصريين ، وتبغي المحافظة على الدين الاسلامي الصحيح على طريقة الامام محمد بن عبد الوهاب “. الحصين ، أحمد: دعوة الامام .. سلفية لا وهابية ، ص 233
[10]  -  ابن بشر: عنوان المجد ، ج2 ص 199
[11] – الحصين ، أحمد: دعوة الامام .. سلفية لا وهابية ، ص 233
[12] – ابن بشر: عنوان المجد ، ج2 ص 208
[13] – الحصين ، أحمد: دعوة الامام .. سلفية لا وهابية ص 235

[14]  - يقول أحمد الحصين: ” ومن الجدير بالملاحظة أن آل رشيد استولوا على نجد وقضوا على حكم آل سعود من دون معركة ، وكان من أهم أسباب نجاحهم النزاعات الداخلية والحروب الدامية بين أفراد العائلة الواحدة الطامعين بالامامة ، مما أضعف ولاء السكان للدعوة ورجالها”. ( دعوة الامام .. سلفية لا وهابية ص 237)
الفصل الرابع

الدولة السعودية الوهابية الثالثة و الشورى


اذا كانت الدولة السعودية الوهابية الأولى قد بلغت أوجها و طبقت مبادئها و أهدافها على يدي الأمير سعود الكبير ، و سقطت امام قوة خارجية هي القوة المصرية العثمانية التي احتلت عاصمتها الدرعية و أسرت أميرها عبد الله بن سعود و أعدمته ، فان الدولة السعودية الثالثة التي رفعت لواء الوهابية و استعانت بها لترسيخ أقدامها و مد سلطانها على نجد و الأحساء و حائل و الحجاز ،  هي التي  انقلبت على الحركة الوهابية المتمثلة في (الإخوان) و قضت عليهم ، و ذلك بسبب طبيعة العلاقة الاستبدادية بين النظام السعودي و الحركة الوهابية ، و بالطبع بينهما وبين عامة أبناء الشعب . واذا كان النظام السعودي الأول قد ولد من رحم الحركة الوهابية ، فان النظام الأخير قد ولد خارج رحمها واعتماداً على قوة أجنبية هي بريطانيا التي دفعت بعبد العزيز بن سعود الى احتلال الرياض والانقلاب على الدولة العثمانية.

علاقة النظام السعودي مع بريطانيا

وقد ابتدأت علاقة الملك عبد العزيز بن سعود مع بريطانيا في الكويت ، عندما كان يعيش فيها لاجئاً مع ابيه (عبد الرحمن بن فيصل بن سعود) آخر امام في الدولة السعودية الثانية ، و ذلك عندما تمرد حاكم الكويت (الشيخ مبارك الصباح)  على الدولة العثمانية و تحالف مع بريطانيا في بداية القرن العشرين ، فأوعزت تركيا لأحد ولاتها وهو أمير حائل عبد العزيز بن رشيد ، بالاستيلاء على الكويت و تأديب أميرها المتمرد . وهنا قام مبارك  ضمن  خطته لمواجهة أمير حائل ، بالاستعانة بابن سعود الذي كان له من العمر يوم ذاك حوالي عشرين عاما ، فقاد كتيبة كويتية لاحتلال الرياض في ذي القعدة 1318هـ – مارس 1901 ، ولكنه مني بهزيمة منكرة اضطر إثرها للانسحاب ، فيما أخذت قوات ابن الرشيد تلاحقه حتى أسوار الكويت ، ولم ينجُ من تلك القوات إلا عندما أوقفتها المدافع البريطانية .
و تعلم عبد العزيز من دفاع بوارج بريطانيا عن ابن الصباح وتثبيته على عرشه في الكويت و ابطالها لمفعول الفرمان العثماني ، درساً مهماً أقنعه بأهمية الاعتماد على بريطانيا في أية مواجهة مع الدولة العثمانية و حلفائها من آل الرشيد ، وعاد من العام القادم مع عصابة صغيرة من أتباعه و نجح في اقتحام قصر الإمارة في الرياض في  الأول من شوال عام 1319هـ – الخامس عشر من يناير عام 1902م و قتل الأمير بن عجلان ، عامل ابن الرشيد .
وكانت عملية استيلاء عبد العزيز بن سعود على الرياض حلقة من سلسلة طويلة من الصراع على السلطة داخل الحركة الوهابية ، بعيداً عن إرادة الشعب ، و اعتمادا على منطق القوة والقهر والغلبة. ومع ان الاستيلاء على الرياض بتلك الصورة كان يعتبر نوعا من التمرد والخروج على السلطة الشرعية (العثمانية) التي كان يعترف بها السعوديون في ذلك الوقت ، الا ان ابن سعود أعلن منذ اليوم الأول لاحتلاله للرياض بأنه سيحكم باسم السلطان العثماني ، و أعلم حاكمَ البصرة أنه يعتبر نفسه والياً من ولاته.[1]
ولكن العملية في الواقع لم تكن بعيدة عن  أعين بريطانيا و دعم حليفها أمير الكويت . إذ يقول مؤرخ الكويت المعاصر لتلك الفترة عبد العزيز الرشيد : إن الشيخ مبارك الصباح قدم لابن سعود دعما اقتصادياً وعسكرياً حيوياً ، خاصة عندما حاول ابن الرشيد مهاجمة الرياض و استعادة سلطته فيها في أوائل سنة 1320هـ حيث هبَّ مبارك لنجدة ابن سعود و أمر بشحن جملة من السفن الكويتية أطعمة و ذخيرة ، و أصدر أمره الى الجيش بالمسير الى الرياض لينقل منها ما يحتاجه[2].” وكان مبارك ، فوق ذلك ، يرسم الخطط الحربية له و هو في مدينته ، فانتصار ابن سعود إذاً على ابن الرشيد ، هو انتصار لمبارك على خصمه ، و تنفيذ لخططه التي رسمها”.[3]
وفي ذلك الوقت كانت بريطانيا تعمل جاهدة على فصل إقليم الأحساء عن الدولة العثمانية ، و إلحاقه بمشيخات الخليج الخاضعة للحماية البريطانية ، و قد بذلت عدة محاولات مع أهالي الأحساء لدفعهم للتمرد و الاستقلال وطلب الحماية البريطانية.[4] ولكنها باءت بالفشل مما دفعها لإعطاء الضوء الأخضر لابن سعود لاحتلال الأحساء. [5] وقد قام ابن سعود بهذه المهمة في اكتوبر سنة 1913 في الوقت الذي كانت تركيا تواجه زحف البلغار الى الأستانة و الصرب الى سالونيك ، و استيلاء الطليان على ليبيا.
ورغم أن ابن سعود تظاهر بعد احتلال الأحساء بالبقاء على ولائه للدولة العثمانية ، الا انه سرعان ما كشف عن انحيازه ضدها الى جانب بريطانيا عند اشتعال الحرب العالمية الأولى [6]، حيث أخذ يشارك في اجتماعات البصرة و الكويت و المحمرة التي كان يعقدها مبارك و خزعل و طالب النقيب ، تحت إشراف عملاء المخابرات البريطانية ، و حاول ان يجر عجمي السعدون زعيم عشائر المنتفك في جنوب العراق الى جانب بريطانيا و التعاون معها ضد الدولة العثمانية.[7] و قد ذكر مستشار عبد العزيز ، حافظ وهبة في كتابه (خمسون عاما في جزيرة العرب) : ان عبد العزيز عندما زار الكويت عام 1916 اجتمع بكبار أهلها وكان حديثه معهم كله تشديد النكير على الأتراك والحطّ من شأنهم والتنويه بأنه لو كان في بدنه قطرة دم تميل الى الأتراك لبذل كل وسيلة لإخراجها من جسمه. [8]

قبول الحماية البريطانية

و إضافة الى ذلك قام  عبد العزيز بن سعود بتوقيع معاهدة حماية مع بريطانيا ، هي (معاهدة دارين ) التي وقعها في 26 ديسمبر 1915 و التي اعترف بموجبها باتباع نصائح بريطانيا و بحقها في الإشراف على علاقاته الخارجية و عدم إقامة علاقات مع أية دولة الا بعد الحصول على موافقة الحكومة البريطانية ، و الاعتراف بالهيمنة الاستعمارية البريطانية على الامارات المحتلة في الخليج ، في مقابل الاعتراف به من قبل بريطانيا وبضمان الحكم له ولذريته من بعده.
وقد جاء في البند الأول من المعاهدة: “ان الحكومة البريطانية تعترف وتقبل بأن نجدا والأحساء والقطيف وجبيل وملحقاتها التي تعين هنا والمرافيء التابعة لها على سواحل خليج العجم ، كل هذه المقاطعات هي تابعة للأمير ابن سعود وآبائه من قبل ، وهي تعترف بابن سعود حاكما مستقل على هذه الأراضي ، و رئيسا مطلقا على جميع القبائل الموجودة فيها ، وتعترف لأولاده وأعقابه الوارثين من بعده على ان يكون خليفته منتخباً من الأمير الحاكم ، وان لا يكون مخاصما لانجلترا بوجه من الوجوه”.
وجاء في البند الثالث منها:” يتعهد ابن سعود ان يمتنع عن كل مخابرة او اتفاق او معاهدة مع اية حكومة أو دولة أجنبية ، وعلاوة على ذلك فانه يتعهد بإعلام الحكومة البريطانية عن كل تعرض أو تجاوز يقع من قبل حكومة أخرى على أراضيه”.
وجاء في البند الرابع:” يتعهد ابن سعود بصورة قطعية ان لا يتخلى ولا يبيع ولا يرهن ، ولا بصورة من الصور يقبل بترك قطعة أو التخلي عن الأراضي التي ذكرت آنفا ، ولا يمنح امتيازا في تلك الأراضي لدولة أجنبية أو لتبعة دولة أجنبية ، دون رضا الحكومة البريطانية ، وانه يتبع نصائحها التي لا تضر بمصالحه”.
وجاء في البند السادس:” يتعهد ابن سعود –كما تعهد والده من قبل – بأن يمتنع عن كل تجاوز أو تدخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعمان وسواحلها وكل المشايخ الموجودة تحت حماية انجلترا والذين لهم معاهدات معها”.[9]
وتنفيذا لهذه المعاهدة  زودت بريطانيا ابن سعود بالمشورة العسكرية خلال حملة قام بها ضد أمير حائل ابن الرشيد ، وعينت النقيب شكسبير كمستشار عسكري له ، وقد قتل هذا في المعركة وهو يساعد على حشو مدفع أثناء المعركة .[10]
ورغم ان انحياز ابن سعود الى جانب بريطانيا في الحرب ضد المسلمين و الدولة العثمانية ، وتوقيعه لمعاهدة الحماية المشينة مع بريطانيا [11]، كان يشكل في منطق الوهابية وحسب شروط التوحيد التي قررها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، من أكبر نواقض الإيمان ، وهو الولاء للكفار. [12] خاصة في ذلك الوقت العصيب الذي كان فيه الانجليز يخططون لضرب وحدة المسلمين و تمزيق اوصال دولتهم العظمى (الدولة العثمانية) و ترسيخ جذور الاستعمار في المنطقة وإقامة الأنظمة التابعة لهم . الا ان ذلك لم يؤثر على علاقة ابن سعود بالحركة الوهابية التي نشطت في ظل حكمه وانخرطت في جيشه وكانت تصف عامة المسلمين بالشرك ، و لا تفرق بين المستعمِر و المستعمَر.

علاقة ابن سعود مع (الإخوان)

مع عودة الحكم الى آل سعود في الرياض ، انطلقت الوهابية في حركة إحياء جديدة ، حيث قام أحد المشايخ الوهابيين و هو (عبد الكريم المغربي) ببناء خلية في واحة (الأرطاوية) و أقنع حوالي خمسين شخصا من البدو بالاستيطان في الواحة ، أو القرى المحيطة بها ، في محاولة منه لاستعادة تجربة الحركة الوهابية الأولى  التي قامت على يدي الشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل قرن ونصف قرن من ذلك الزمان. ثم انتشرت الفكرة في طول نجد وعرضها ، و أخذ الدعاة الوهابيون (المطاوعة) يطوفون في قبائل نجد ، يدعونهم الى الهجرة والاستقرار في القرى و الواحات ، التي  أطلقوا عليها اسم : “الهجر”  أو “اليثربيات” نسبة الى (يثرب) مهجر  الرسول الأعظم محمد (ص): (المدينة المنورة)[13] ، واعتبروا (الهجر) داراً للإيمان والهجرة من دار الشرك  و الجاهلية ، كما كانت المدينة المنورة في مطلع الإسلام ، حيث رأوا أن من آية الإخلاص لله ودينه و آية الإيمان الصحيح : التخلص من  كل ما يشتم منه رائحة الجاهلية ، فأخذوا يبيعون إبلهم و أغنامهم و ينقطعون في (الهجر) للعبادة و تعلم القراءة وحفظ القرآن وسماع السيرة النبوية و غزوات الرسول وتاريخ انتشار الإسلام في جزيرة العرب . وأطلقوا على أنفسهم اسم : “الإخوان” تيمنا بآية: (فأصبحتم بنعمته إخوانا).[14]

و قد تفاعل البدو  الذين  اعتادوا على  الغزو و النهب و القتل في الصحراء ، مع العقيدة الوهابية التي كانت تبرر لهم ذلك بما تصوره لهم من أنهم وحدهم “المسلمون” و أن غيرهم “كفار ومشركون” لا حرمة لدمائهم و أموالهم و أعراضهم ، و أنهم يمارسون في غزوهم ، الجهاد في سبيل الله .
ثم توسعت الحركة و أصبحت لها اليد الطولى في شؤون نجد ، و استرعت  انتباه الأمير ابن سعود في معركة احتلال الأحساء عام 1913م بما أبدت فيها من بسالة عسكرية كبيرة وتفانيا شديدا في القتال. و بادر  ابن سعود  في عام 1916 الى التصدي لقيادتهم كزعيم روحي لهم ، واستغلالهم في مشاريعه السياسية و العسكرية القادمة ، وكان أحوج ما يكون إلى جنود مطيعين كالإخوان ، فقرر أن يتولى قيادتهم .[15] و أصدر أوامره بانخراط جميع القبائل العربية في صفوف (الإخوان) ، شاءوا أم أبوا ، فتألفت حوالي 220 مستوطنة ( هجرة ) . و أوكل ابن سعود إلى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف  إدارة الهجر و تغذية البدو الملتحقين بها بالأفكار الوهابية و التركيز على طاعة الله وطاعة الحاكم و محاربة “الكفار” ، والإيحاء اليهم بأنهم فرسان التوحيد في مواجهة “المشركين”.[16]
وقبل نهاية السنة وجد ابن سعود نفسه قائدا لجيش كبير من المتطوعين العقائديين يستطيع الاعتماد عليهم حتى الموت ، و أن يضمن بهم التفوق على أعدائه.[17] ولم تأت سنة 1920 حتى كانت الحماسة للحركة الوهابية بين البدو قد بلغت حدا كبيرا ، بحيث أنه لم يبق أحد إلا و انضم إليها.[18]
وقد جعل عبد العزيز من (الإخوان) نواة جيشه الدائم الذي يخصه بالأسلحة و الذخائر ، لأنهم كانوا  يجمعون بين سطوة البدو و ثبات الحضر. وقال لفيلبي مفتخرا بهم : ” إنه يكفي أن أصدر النداء ليهب للقتال تحت رايتي ألوف من بيشة الى نجران و من رانية الى تثليث و غيرها ، ليس فيهم من لا يحب الموت في سبيل العقيدة ، وكلهم يؤمنون بأن الفرار من الزحف يدخلهم النار”.[19]
وأحدث تلاحم ابن سعود مع حركة الإخوان ، تحولا كبيرا في طبيعة الحروب التي كان يشنها من أجل توسيع رقعة إمارته ، حيث اتخذت صفة الجهاد الديني ، بعد أن كانت مجرد نزاع على السلطة.[20] و هكذا  استطاع عبد العزيز أن يحتل بهم (حائل) بعد الأحساء ، ثم يحتل الحجاز .[21]
ولكن عبد العزيز بن سعود ، كان يدرك أنه يسير في وادٍ ، ويسير الإخوان في وادٍ آخر ، فهو يعمل على خارطة محددة و أهداف معينة و يرتبط باتفاقيات دقيقة مع بريطانيا ، بينما يعيش الإخوان على الآمال والأحلام والشعارات والنظريات المتطرفة التي  تسببت في انهيار الدولة السعودية الأولى . ولم يكن  هو يريد بالتأكيد إعادة العالم الاسلامي “المشرك” الى عالم التوحيد ، ولكنه كان يريد فقط أن يستغل الإخوان والحركة الوهابية لتحقيق انتصارات عسكرية وسياسية ثم يعيدها الى القمقم . ومن هنا كان ابن سعود يدرك جيداً خطر الوهابية على نظامه ، إذا خرجت من بين يديه. ولذلك كان يحاول الإمساك بقرنيها بكل قوة ، و ضربها في الوقت المناسب.  وقد قال للمقيم البريطاني في الكويت (هارولد ديكسون) الذي أبدى قلقه من خطر (الإخوان) في المستقبل : “يا ديكسون لا تخف ، الإخوان هم أنا و لا أحد غيري”.[22]

علاقة الحركة الوهابية بعامة المسلمين

وقبل ان نواصل الحديث عن علاقة ابن سعود بالحركة الوهابية و (الإخوان) و تطورها ، يجدر بنا ان نتوقف عند علاقة الحركة الوهابية ببقية المسلمين من مختلف الطوائف ومن عامة البدو بمن فيهم شرائح من الوهابيين. فنقول:
عندما استولى عبد العزيز بن سعود على الرياض في مطلع القرن العشرين ، لم يكن هناك أي حديث عن تكفير الدولة العثمانية التي أصبح ابن سعود والياً لها ، ولا عن تكفير الحجاز و شرفائها الذين أعلن لهم عن وده وتقديره [23]. و لا عن تكفير الكويت التي مضى فيها لاجئا عدة سنوات . وقد مضى أكثر من عشر سنوات قبل ان تنقلب الصورة ، و ذلك بعدما قرر ابن سعود تبني الحركة الوهابية عام 1916 وإعداد جيش (الإخوان) البدوي على أساسها ، حيث بدأت تتعالى نغمة التكفير من جديد ، والنظر الى سائر المسلمين على أنهم “كفار و مشركون”. [24]
إذ قال أحد المشايخ الوهابيين المسؤولين عن تعبئة “الإخوان” ، وهو الشيخ سليمان بن سحمان عضو هيئة كبار العلماء :” إن مَن في جزيرة العرب لا نعلم ما هم عليه جميعهم ، بل الظاهر : أن غالبهم و أكثرهم ليسوا على الإسلام ، فلا نحكم على جميعهم بالكفر لاحتمال أن يكون فيهم مسلم . و أما مَن كان في ولاية إمام المسلمين فالغالب على أكثرهم الإسلام لقيامهم بشرائع الإسلام الظاهرة… وأما من لم يكن في ولاية إمام المسلمين فلا ندري بجميع أحوالهم و ما هم عليه ، لكن الغالب على أكثرهم ما ذكرناه أولا ،  من عدم الإسلام.
فمن كان ظاهره الإسلام منهم فـيُعامل بما يُعامل به المسلم في جميع الأحكام ، وأما مَن ظاهره لا إسلام ولا كفر ، بل هو جاهل ، فنقول : هذا الرجل الجاهل إن كان معه الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام فهو مسلم .. و ان لم يوجد معه الأصل الذي يدخل الإنسان في الإسلام فهو كافر ، فمن كان ظاهره الكفر فهو كافر”.[25]
أما الشيعة فقد كان الوهابيون ينعتونهم بالرافضة ، ويعتبرونهم من  أهل دين آخر غير الاسلام ، وقد اصدر الشيخ محمد بن عبد اللطيف (و أربعة عشر عالماً آخر)  في نهاية اجتماع عقد  في شعبان سنة 1345 (17/1/ 1927)  بيانا جاء فيه : “…أما الرافضة فقد افتينا للامام ابن سعود ان يلزمهم البيعة على الاسلام ، ويمنعهم من اظهار شعائر دينهم الباطل ، و على الامام ان يلزم نائبه في الاحساء ان يحضرهم عند الشيخ (ابن بشر) و يبايعوه على دين الله و رسوله… و يلزمهم بتعليم (ثلاثة الاصول) – وهو كتاب للشيخ عبد الوهاب – و مَن أبى قبول ذلك ينفى من  بلاد المسلمين…و أما رافضة العراق الذين انتشروا وخالطوا بادية المسلمين فأفتينا الامام بكفهم عن الدخول في مراعي المسلمين و أرضهم “.[26]
و تحت شعارات التكفير  هذه  أمر ابن سعود قائده فيصل الدويش ( زعيم الإخوان) بمهاجمة الجهراء في الكويت بنحو أربعة آلاف رجل سنة 1339 ، من أجل (دعوة أهل الكويت الى الاسلام).[27] مما أحدث صدمة في نفوس الكويتيين و حتى الحنابلة و السلفيين منهم.[28]
و من الواضح ان علاقة أية حركة تكفر المسلمين ستكون قائمة على العنف و القهر و الغلبة و الفتح والاحتلال ، ولن يكون فيها مجال لأي نوع من الشورى أو الاحترام او السماح للمواطنين بالمشاركة السياسية و تقرير المصير.
علاقة الوهابيين الداخلية (التكفير البيني)

ولما كانت عجلة التكفير عنيفة و واسعة فانها لم توفر حتى بعض القواعد الوهابية ، حيث لم يكتف (الإخوان) بتكفير الشيعة و عامة المسلمين ، و انما أخذوا يكفرون بعض الوهابيين من البدو و الحضر ، و خاصة الذين لم يلتحقوا بهم ، أو لم يهاجروا معهم ، أو لم يلتزموا بدقة بمثل ما كانوا يلتزمون ، كلبس العمامة التي اشتهروا بها. [29]
يقول الشيخ سليمان بن سحمان :” يجري على ألسنة كثير منهم من الأمور التي أحدثها و ابتدعها مَن تجاوز الحد ، و غلا في الدين و اتبع غير سبيل المؤمنين.
فمن ذلك قولهم: إنه لا إسلام لمن لم يهاجر من الأعراب ، وان كان قد دخل في (الدين)[30] وأحبه و والى أهله ، و ترك ما كان عليه أولاً ، من أمور الجاهلية ، إلا أن يهاجر ، و من لم يهاجر فليس بمسلم عندهم.
و من ذلك أيضا: أنه إذا مرت قافلتهم على بعض الأعراب الذين ظاهرهم الإسلام و فيهم من تميّز بمعرفة الدين و الدخول فيه و ترك ما كانوا عليه من أمور الجاهلية لم يسلموا عليهم ابتداء و لا يردون السلام عليهم و لا يأكلون ذبائحهم  لأنهم لم يهاجروا معهم”.[31]

وكان (الإخوان) قد استعادوا أدبيات الحركة الوهابية الأولى ، و التي يكفر فيها مؤسس الحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أهل البادية بالعموم ، و اقتدوا به  في الحكم على أهل البادية المعاصرين لهم عموما بالكفر. ولذلك توقف الشيخ ابن سحمان عند هذه النقطة فقال:” هنا مسألة أخذ بها هؤلاء المتدينون من البدو (الإخوان) و هي أن من يقرأ عليهم بعض عبارات الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البدو ، مثل الموضع السادس من السيرة (انه ليس معهم من الإسلام شيء) ، و ما ذكره عن الأعرابي الذي يشهد أنه هو و سائر الناس البدو كفار ، و أن  المطوع الذي ما يكفر البدو كافر ، و أمثال ذلك ، فإذا قرأه عليهم قالوا: هذا قول الشيخ في البدو.[32]” انهم كفروا البادية بالعموم ، وانهم لم يسلموا ولم يدخلوا في هذا الدين”.[33]



[1]  -  وكذلك فعل أبوه الامام عبد الرحمن ، الذي كتب في 5 صفر 1320هـ عند خروجه من الكويت ، كتابا الى السيد رجب نقيب أشراف البصرة ، يبرر فيه عملية الخروج على ابن رشيد ، ويؤكد فيه “اننا خدام محسوبون على الدولة العليا. وانه لما صار علينا ما صار من غدر ابن الرشيد وخيانته لم نلجأ الى أحد إلا الله تعالى ثم الى عدالة أمير المؤمنين أدام الله مجده.. ونحن في كل مكان وحال من الاحوال لا نزال بحول الله نؤدي الخدمات لحضرة أمير المؤمنين باذلين الجد والاجتهاد فيما يحصل به رضاه منقادين الى أوامر الدولة العلية”.
الرشيد ، عبد العزيز ، تاريخ الكويت ، ص 179
[2]  - الرشيد ، عبد العزيز ، تاريخ الكويت ، ص 182
[3]  - الرشيد ، عبد العزيز ، تاريخ الكويت ، ص 175
[4]  - ” وكانت المحاولة الأولى عام 1899 عندما زار الممثل البريطاني في البحرين ، منصور باشا بن جمعة ، وعرض عليه نيابة عن بريطانيا المساعدة على الاستقلال وتقديم الحماية البريطانية ضد أي إجراء عسكري تتخذه الدولة التركية. ولكن منصور باشا بوازع من الحمية الدينية ووفاءً للدولة الاسلامية رفض العرض البريطاني جملة وتفصيلا. وقد نمى الى علم السلطان عبد الحميد أمر هذه المحاولة ورفض ابن جمعة قبولها فأنعم عليه برتبة الباشوية.
أما المحاولة الثانية فقد كانت عام 1905 مع حسين النصر عمدة (سيهات) وقد رفض النصر العرض البريطاني من جانبه ، ولكنه أحاله على منصور باشا بن جمعة الذي أكد رفضه للمرة الثانية.
وفي سنة 1907 تولى المحاولة المقيم البريطاني في الخليج المستر برسي كوكس الذي نزل ضيفا على منصور باشا في قصره المسمى (بقصر الدرويشية) بالقطيف وطلب منه الموافقة على تقديم مساعدة بريطانية للاستقلال بالأحساء دون التقيد بمعاهدة حماية بريطانية ، ولكن منصور باشا أصر على أن شعوره الديني وحده يمنعه من التنكر للدولة الاسلامية ، وليس الحاجة للمعونة العسكرية أو الحماية ،  ولما أعيت بريطانيا الحيلة في الحصول على واجهات وطنية لتبرير تدخلها المباشر في ساحل الأحساء ، أرسلت سفينة حربية عام 1908 الى رأس تنورة بالقطيف فركزت علمها البريطاني هناك . ولكن ما كاد نبأ ذلك يصل الى مسامع أهل (صفوى) حتى بادروا الى انزال العلم البريطاني وتمزيقه وتحطيم ساريته “.ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 15
[5]  -  ذكر بنوا ميشان: ان عبد العزيز أجرى اتصالات مع مبارك الصباح عام 1911 طلب منه جس نبض أصدقائه الانجليز في امكانية احتلال الأحساء فرحبت بريطانيا بذلك .ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 27 وقد أكدت الوثائق المحفوظة في دار الوثائق البريطانية: ان بريطانيا هي التي طلبت من عبد العزيز ابن السعود احتلال الأحساء ، حيث ورد في المجلد 2139 ما نصه:” وردت الى لندن برقية من نائب الملك في الهند جاء فيها ، يطلب من ابن السعود تعاونه في طرد الأتراك من الأحساء والقطيف ، وفي مقابل ذلك تعقدون معه معاهدة يعترف فيها باستقلاله حاكما على نجد والأحساء مع ضمان عدم الاعتداء عليه من ناحية البحر”. ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 35

[6]  - وجاء في الوثائق البريطانية المجلد رقم 2140 ما نصه:” في 5 اكتوبر 1914 وجهت وزارة الهند رسالة الى النقيب شكسبير بأن عليه ان يسافر بأسرع فرصة ممكنة ويتصل بابن السعود في الحال ، ويستخدم نفوذه للوصول الى هدفين ، أولهما: منع وقوع اضطرابات بين الأوساط العربية نتيجة للاجراءات التي ستقوم بريطانيا باتخاذها في الخليج والأراضي العربية التي تقع تحت النفوذ التركي ، وثانيهما: التأكد بأن لا يقدم العرب مساعدة للأتراك اذا ما قامت الحرب بينهم وبين بريطانيا.
وفي 2يناير 1915 بعث نائب الملك في الهند برقية الى وزارة الهند تعرب عن موقف ابن السعود ، فقد وصل الى المقيم البريطاني في الخليج يوم 31 ديسمبر 1914 رد من ابن السعود يعلن فيه انه في جانب بريطانيا وان من أهم أهدافه تحرير البصرة من حكم الترك”
وجاء في الوثيقة المحفوظة في المجلد 2479 بدار الوثائق البريطانية ما نصه:” ان الأخبار الواردة من ابن السعود تقول انه في طريقه لمهاجمة ابن الرشيد ويأمل ان يتغلب عليه في آخر يناير 1915 ، وسيبقى شكسبير معه ، والضمانات التي اعطيت لابن السعود كانت مشروطة بتعاونه مع شيخ الكويت والمحمرة لاحتلال البصرة. وفي حال فشلهم في ذلك يعملون على منع الامدادات التركية من الوصول الى البصرة”.
وتقول مس بيل في كتابها (فصول من تاريخ العراق القريب):” أثبتت الصداقة الراسخة بيننا وبين أمير نجد أنها شيء لا يُثمَّن”.  ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 36
[7]  - ذكرت المس بيل في كتابها (فصول من تاريخ العراق القريب) ان ابن سعود كتب الى عجمي السعدون يحرضه على الأتراك ويدعوه للانضمام الى الانجليز ، وقد أجابه السعدون بكتاب رفض فيه دعوته وأكد له سعيه من أجل حماية البلاد الاسلامية من دنس الكافرين . ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 32
[8]  - ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 33
[9]  - ناصر الفرج ،  قيام العرش السعودي ، ص 59
[10]  - ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 36
[11]  - وصف فؤاد حمزة وكيل وزارة الخارجية السعودية ، المعاهدة بأنها “معاهدة جائرة”. وقال عنها السفير السعودي خير الدين الزركلي: ” بأنها على غرار المعاهدات التي كان الانجليز يعقدونها مع امارات الخليج” ووصفها مستشار عبد العزيز وسفيره في لندن حافظ وهبة ، فقال:” انها معاهدة تضعه تحت الحماية البريطانية كسائر أمراء الخليج ، فكانت كل اتصالاته برئيس الخليج الذي كان يقيم عادة في بوشهر”. ناصر الفرج ، قيام العرش السعودي ، ص 85
[12]  -  يقول الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ : “التولي : كفر يخرج من الملة ، وهو كالذب عنهم ، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ، والموالاة : كبيرة من كبائر الذنوب كبلّ الدواة ، أو بري القلم ، أو التبشبش لهم أو رفع السوط لهم” . الدرر السنية والاجوبة النجدية ، ج 7 ص201
[13]  -  بناء على وجوب الهجرة الى يوم القيامة كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (الأصول الثلاثة).
[14]  -  محمد جلال كشك ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص 556

[15]  - ولم يكن تبني ابن سعود للإخوان بمعزل عن الإرادة البريطانية التي حاولت توظيف الحركة الوهابية في خدمة مخططاتها في المنطقة. إذ يقول الجاسوس  البريطاني جون فيليبي : إن  عملية احياء الافكار الوهابية كانت من بين المهمات المكلف بها من أجل ايجاد انصار لابن سعود في كل بلدة وقبيلة وقرية من انحاء جزيرة العرب  .  جون فيلبي ، تاريخ آل سعود 583

[16]  - يقول أمين الريحاني : ” أنهم  يعتقدون ان من كان خارجاً عن مذهبهم ليس بمسلم فيشيرون الى ذلك في سلامهم بعضهم على البعض:(السلام عليكم يا الإخوان حيا الله المسلمين).واذا سلم عليهم سني او شيعي فلا يردون السلام ” .الريحاني ، معجزة فوق الرمال ، ص 64
[17]  - كشك، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ص  559-560
[18]  - ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 252
[19]  - كشك ، السعوديون والحل الاسلامي ، 395
[20] – كشك ، السعوديون والحل الاسلامي ، 613
[21]  - وكان الملك حسين قد شعر بخطرهم على دولته فطلب من الوكيل البريطاني في جدة  بتاريخ 18/9/1918 : ان تجبر بريطانيا ، ابن سعود  على إلغاء (الإخوان) ” الجمعية السياسية التي تتستر برداء الدين” والتي ينظمها لخدمة طموحاته السياسية ، ورأى في الوهابية خطرا  داهما على الأمن والسلام في الجزيرة العربية. محمد جلال كشك ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص  567
[22]  -   ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 252
[23]  -  حرص عبد العزيز خلال السنوات العشر الأولى من حكمه على إظهار الولاء وتقبيل أيادي شريف مكة. وفي رسالة رقيقة له وجهها الى الشريف حسين بن علي ، رضي ابن سعود لنفسه أن يكون تابعا للعثمانيين بواسطة شريف مكة. عبد الكريم  الغرايبة ، قيام الدولة السعودية العربية ، ص 10
[24]  -    يقول أمين الريحاني : ” أنهم  يعتقدون ان من كان خارجاً عن مذهبهم ليس بمسلم فيشيرون الى ذلك في سلامهم بعضهم على البعض:(السلام عليكم يا الإخوان حيا الله المسلمين).واذا سلم عليهم سني او شيعي فلا يردون السلام ” .الريحاني ، معجزة فوق الرمال ، ص 64
[25]  - ابن سحمان ، منهاج أهل الحق ، ص 79 – 80
[26] -  حافظ وهبة : جزيرة العرب في القرن العشرين 227 و أنور عبد الله : العلماء والعرش ص 471 و التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 367 – 369
[27]  - الرشيد، عبد العزيز ، تاريخ الكويت ، ص 23
[28]  -  الرشيد ، عبد العزيز ، تاريخ الكويت ، ص 258
[29]  -  راجع أيضا: حافظ وهبة ،  جزيرة العرب في القرن العشرين ص 312 و التويجري  ، عبد العزيز : لسراة الليل هتف الصباح ، ص 247و257
[30]  - أي الوهابية
[31]  - ابن سحمان : منهاج أهل الحق ، ص 90
[32]  - ابن سحمان ، منهاج أهل الحق ، ص 14
[33]  - ابن سحمان: منهاج أهل الحق ، ص 88


انقلاب ابن سعود على (الإخوان)


لم يأبه الوهابيون و (الإخوان) كثيرا للطبيعة الديكتاتورية للنظام السعودي الجديد ، و القائمة على القوة و القهر و الغلبة ، فقد كان ذلك جزءا من تراثهم الفكري السياسي ، و لذلك لم يجدوا مانعا من التعاون مع ابن سعود و القتال الى جانبه و تعزيز سلطانه في مواجهة القبائل و الشعوب والحكومات و الطوائف غير الوهابية ، و لكن طبيعة النظام الديكتاتورية كانت الثغرة التي انقلب منها النظام عليهم و قضى عليهم و على الوهابية فيما بعد. و قد تمثل ذلك الانقلاب في التنكر للمباديء الاسلامية كمبدأ الولاء و البراء ، و انتهاج سياسة التبعية و التحالف مع الاستعمار الانجليزي في أحرج وقت كانت تمر فيه الأمة الاسلامية ، ثم الانقلاب على أهم قوة وهابية و هم (الإخوان) الذين استعان بهم في تثبيت أركان حكمه ، و القضاء عليهم.
وقد بدأ الانشقاق بين الطرفين مباشرة بعد احتلال الحجاز عام 1925 حيث وجد (الإخوان) نوعاً من التناقض بين الشعار الذي دفعهم ابن سعود تحت ظله للحرب وهو (تحرير الحجاز من الكفار و المشركين) وبين سياسة المداهنة التي اتبعها مع الحجازيين و تأكيده لهم :”بأنه لا يريد حكم البلاد حكماً مباشراً” وتقديم الوعود لهم بالسماح لهم بإدارة أنفسهم بأنفسهم عبر مجلس شورى[1]، و قد قال ابن سعود في خطابه أمام قيادات مكة:” لا أريد أن استأثر بالأمر في بلادكم دونكم و انما أريد مشاورتكم في جميع الأمور”. و طلب من الحاضرين أن يجتمعوا لانتخاب من يمثلهم في مجلس الشورى الأهلي، في محاولة منه لتسهيل احتلال جدة و المدينة المنورة.[2] و ذهب الى حد طرح فكرة تدويل الأماكن المقدسة .[3] و رغم ان ابن سعود كان يستخدم تلك الوعود كوسيلة لتوطيد حكمه ومحاولة لتذليل العقبات امام فتح سائر المناطق و المدن الحجازية ، الا انه أثار مخاوف (الإخوان) الذين وجدوا في تعامله  مع الحجازيين كمسلمين ، نوعا من التناقض مع صفة الشرك و الكفر التي كان يطلقها عليهم من قبل.[4] و فهموا الدعوة التي وجهها ابن سعود إلى عقد مؤتمر إسلامي لإدارة الحرمين[5]، على أساس أنها تفريط بالدين و مداهنة للكفار و المشركين.[6] وقد زاد شعور (الإخوان) بالمرارة رفض ابن سعود لمطالب قادتهم فيصل الدويش و سلطان بن حميد بن بجاد اعتبار الحجاز غنية حرب و تعيينهما أميرين على مكة و المدينة. [7]
و ربما كان ابن سعود يحاول تهدئة العالم الإسلامي ، والإطلال عليه بوجه معتدل ، او يخضع لضغط حلفائه الانجليز الذين كانوا يرفضون ان يطبق نهجه الوهابي المتشدد في الحجاز. [8] ولكن سلوكه مع الحجازيين كان يبدو أشبه بموقف متراجع عن الوهابية ، و ينم عن قرار شخصي لا دور فيه للمقاتلين الذين فتحوا بسيوفهم ذلك الاقليم.
و بغض النظر عن صواب منطق أي طرف ، فان الملفت هو كيفية اتخاذ القرار داخل الحركة الوهابية و استبداد الامام و امتلاكه لصلاحية الانعطاف الى الوراء دون السماح لأي أحد بالاعتراض.
وفي هذا السياق استنكر (الإخوان) وقوف ابن سعود امام اندفاعتهم لمواصلة الحرب ضد “الكفار” في المناطق المجاورة كالعراق والأردن و الكويت ، و عقدوا اجتماعا في شهر ديسمبر عام 1926م في هجرة (الارطاوية) أكّدوا فيه على الرغبة في مواصلة الحرب ، واستغربوا منع ابن سعود  لهم من التجارة مع الكويت ، فان رعاياها – كما كانوا يرون – إما كفار يجب قتالهم  ، أو مسلمين ليس للحاكم أن يمنعهم من التعامل معهم.[9] و أخذوا على ابن سعود  السماحَ لقبائل شرقي الأردن والعراق “الكافرة” بإرسال مواشيهم لترعى في ديار “المسلمين”. كما أخذوا عليه تسامحه مع الشيعة في المنطقة الشرقية ، الذين كان يجب برأيهم  العمل على إدخالهم في الإسلام جبرا ، أو طردهم من البلاد.
و طرحوا في اجتماعهم قضايا أخرى جزئية مثل إرسال عبد العزيز لابنه سعود إلى مصر” معقل الكفر” ، و إرسال ابنه الآخر فيصل إلى لندن ، و إدخال التلفون والتلغراف إلى الحجاز.[10] ولكن الموضوع الرئيسي الذي كان يشغل بالهم هو موضوع منعهم من مواصلة الغزو ، و هو ما عبر عنه زعيمهم فيصل الدويش في رسالة له إلى عبد العزيز بن سعود ، حيث قال : “… وقد منعتني من غزو البدو ، وهكذا أصبحنا لا مسلمين نحارب الكفار ولا أعراباً بدواً يُغير بعضنا على البعض ونعيش على ما ينهبه كل منا من الآخر ، فمنعتنا من ديننا و دنيانا”. [11]
وكان منع ابن سعود للبدو الوهابيين (الإخوان) من ممارسة الغزو (أو الجهاد حسب اصطلاحهم) قد أوقعهم في مأزق كبير ، اذ كان عليهم إما الالتزام بقرار ابن سعود وانتظار الموت جوعا في الصحراء ، أو التمرد على القرار ومواصلة (الجهاد) و الفتوح و الحصول على الغنائم. وهذا ما فعلوه في مؤتمرهم حيث قرروا مواصلة عملياتهم العسكرية ضد القبائل العربية “الكافرة” شمال الجزيرة العربية. في الوقت الذي كان يقوم عبد العزيز بن سعود – حسب معاهدة دارين 1915 و معاهدة جدة عام 1927 – بالمحافظة على علاقات الود والسلم مع الكويت والعراق والأردن والبحرين وقطر وساحل عمان ، وعدم القيام بأية هجمات مسلحة على المستعمرات البريطانية.
و بدا وكأن (الإخوان) لم يكونوا يعلمون شيئا عن تلك المعاهدات التي وقعها ابن سعود مع البريطانيين و التي كانت ترسم له خارطة التحرك و”الجهاد”. وعندما واجهوا الحقيقة تفجرت أزمة عنيفة بينهم وبين إمامهم ابن سعود ، وحدث الاصطدام بين الفريقين. ولما كانت طبيعة النظام السياسي السعودي قائمة على القوة و القهر و الغلبة ، و لا تتضمن أي نوع من الشورى والمشاركة السياسية ، فقد كان على (الاخوان) ان يذعنوا لقرار إمامهم مهما كان نوعه. الا أن امتلاك (الإخوان) لقوة عسكرية هائلة لم يكن يسمح لابن سعود بفرض قراره عليهم بسهولة. وكان عليه ان يحاورهم ، او يناور معهم، تمهيدا لإقناعهم بقراره أو فرضه عليهم في الوقت المناسب. ومن أجل ذلك دعا عبد العزيز بن سعود الى اجتماع عام في الرياض عام 1927 ونجح في استصدار فتاوى من علماء الدين بتخويله فقط حق اتخاذ القرار بإعلان الجهاد.[12] وقد جاء في إحدى فتاويهم ما يلي:” من أعظم فرائض الاسلام التي جاء بها الرسول (ص) : الجماعة ، وأخبر (ص) : أنه لا اسلام بلا جماعة ، ولا جماعة الا بالسمع والطاعة. و قد مَنَّ الله في آخر هذا الزمان الذي اشتدت فيه غربة الاسلام ، وظهر فيه الفساد في البر والبحر بفضله وكرمه بهداية غالب بادية أهل نجد ، خصوصا رؤساءهم ، وجعل الله  لك حظا وافرا في إعانتهم ، وانتشر الاسلام في نجد جنوبا وشمالا. ورأينا أمراً يوجب الخلل على أهل الاسلام ودخول التفرقة في دولتهم ، وهو الاستبداد من دون إمامهم ، بزعمهم أنه بنية الجهاد. ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد و مصالحة العدو و بذل الذمة للعامة ، و إقامة الحدود أنها مختصة بالامام و متعلقة به ، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك الا بولايته .. و الذي يعقد لنفسه راية و يمضي في أمر من دون إذن الامام و نيابته فليس من أهل الجهاد في سبيل الله. فالواجب عليك (يا عبد العزيز) حفظ ثغر الاسلام عن التلاعب به وأنه لا يغزو أحد من الهجر إلا بإذن منك و أمر منك و لو راعي مطية”.[13]

ولكن (الإخوان) رفضوا فتوى العلماء القائلة بأن الامام وحده صاحب القرار في اعلان الجهاد ، فقاموا في السادس من نوفمبر عام 1927م بشن هجوم على مخفر عراقي قرب الحدود السعودية و قضوا على جميع افراده ، وحصلوا على بعض الغنائم ، مما  فتح شهية بقية القبائل البدوية الجائعة التي تدفقت على ابن سعود تطلب الإذن بالجهاد و فتح العراق ، ولكن ابن سعود رفض بقوة كل تلك المطالب وأعلن عصيان زعيم الإخوان (فيصل الدويش) و وضعه تحت الإقامة الجبرية في الأرطاوية .[14]
و أمام استمرار قيام الإخوان بغزواتهم على القبائل العراقية و الأردنية ، و هجومهم على مخفر البصية العراقي ، لم يجد ابن سعود الا دعوة قادة (الإخوان)  و شيوخ العشائر و أشراف المدن و علماء الدين ، الى مؤتمر عام في الرياض  في 6 كانون الأول 1928 حضره  أكثر من 800 عنصر منهم ، فوجه ابن سعود إليهم خطاباً استعرض فيه انجازاته وخدماته و فضائله وحقه عليهم بأنه الذي هداهم للاسلام وانه لا فضل لهم عليه في توسيع مملكته ، و انتقد القبائل المخالفة له و اتهمها بمحاولة تمزيق المملكة .
وقال لهم مهدداً :” لاتظنوا يا اخوان ان لكم قيمة كبيرة عندنا .. لا تظنوا  أنكم ساعدتمونا و اننا نحتاج إليكم. قيمتكم يا اخوان في طاعة الله ثم طاعتنا فاذا تجاوزتم ذلك كنتم من المغضوب عليهم. أي والله ، لاتنسوا ان ما من رجل منكم الاّ و ذبحنا أباه وأخاه أو ابن عمه و ما ملكناكم الاّ بالسيف. و السيف لايزال بأيدينا اذا كنتم يا اخوان لا ترعون حقوق الناس. لا والله لا قيمة لكم عندنا في تجاوزكم. انتم عندنا مثل التراب..انتم ما دخلتم في طاعتنا رغبة بل قهراً و إني والله اعمل بكم السيف اذا تجاوزتم حدود الله ” وقال لهم بصراحة : ” لقد بنيت ملكي بعون الله وقوة ساعدي.. ولقد بلغني أن الكثير منكم غير راض عني و عن  حكومتي ، و لكني لست ممن يتخلون تحت الضغط و القوة عن عروشهم .. ” [15].
وبعد نقاش طويل سألهم الملك :- ما ذا تريدون ؟ وقدم استقالته لهم قائلا :” أنا مستعد للتنازل عن الحكم و التخلي عن جميع سلطاتي لأي رجل تختارونه بدلاً مني”. ودعاهم “لانتخاب ولي أمر لهم يسير بهم حسبما يجتمعون عليه أمرهم في الخطة التي يرونها” ملقياً اللوم عليهم في ما وصلت إليه الأمور من تدهور.[16]

ويبدو أن الاستقالة كانت أقرب الى الطابع المسرحي منها الى الاستقالة الحقيقية ، و أنها كانت تهدف تأمين تأييد الحاضرين لسياسته واستنكار مواقف زعماء (الإخوان).[17] في الوقت الذي كانت تعبر عن وجود أزمة عميقة تعصف بعلاقة ابن سعود مع  الجيش الوهابي (الإخوان) و عدم قدرته على التوفيق بين الاتجاه السياسي الواقعي وشعارات (الإخوان) الوهابية. ولذلك فقد انفض الاجتماع بانسحاب (الإخوان) و إصرارهم على موقفهم المتمرد ، حيث أعلنوا التعبئة العامة ، و أعربوا عن عزمهم على مهاجمة العراق شاء ابن سعود أم أبى.
ثم أغاروا على قبائل مالك العراقية فجر يوم 21 يناير 1929 و قتلوا و نهبوا . [18]
ولكن ابن سعود رفض قرارهم بشدة ، و بادر الى اعتقال بعض قادتهم ، و أصدر أوامره إليهم بإعادة ما نهبوه من غزواتهم على القرى العراقية ،  فلم يعجب هذا الأمر (الإخوان) .[19] وقاموا  بحملة دعائية واسعة النطاق ضده ، مشيرين الى أن قبوله بوجود المخافر على الحدود العراقية دليل على أنه قد باع حقوق بلاده الى البريطانيين.[20] و ” أن إمامهم قد أصبح أداة في أيدي الانجليز.[21] و تولد لديهم شعور ” بأن ابن سعود يبغي الدنيا و يوالى من حاد الله و رسوله” .[22]
و قد وجدوا في قرار ابن سعود يإعادة الغنائم التي حصلوا عليها من الغزو ، تناقضاً صارخاً مع مباديء الوهابية ، وقالوا له بصراحة : ” أنت كإمام كنت  تدعو الى الجهاد ضد الكفار والمشركين ، ولطالما دعوت وكررت الدعوة الى أن العراق كدولة شيعية يجب أن يدمر ، وان كل ما يؤخذ من أهله حلال ، ولطالما رددت قول القرآن الكريم لإثبات أن كل الأعمال التي يقوم بها المؤمنون ضد الكفار والمشركين يجب أن يُكافأوا عليها ، والآن و بأمر من الانجليز الكفار أنفسهم تدعونا نحن فرسانك المختارين سيوف الاسلام الى إعادة ما أخذناه لأنك تعتبر ما فعلناه خطأ ، فإما أن تكون أنت دجال منافق تحب ذاتك و تبحث عن منفعتك ، و اما ان يكون القرآن كتاباً غير صحيح “.[23]
و كحلٍ للأزمة طالبوا بالإحتكام الى علماء الشريعة ليبتوا في الأمر ، مما بث الرعب في قلب عبد العزيز بن سعود ، لأنه كان يعرف أنه في الحقيقة هو الخارج على مباديء الوهابية التي كانت تشجع على جهاد “الكفار و المشركين” و تستحل دماءهم و أموالهم. لقد كان ابن سعود في مأزق حقيقي فإما أن يعترف لجنده بأن شعاراته (الوهابية) كانت مخادعة و جوفاء ومؤقتة و أنه كان انتهازيا ، وإما أن يستجيب لهم ويمضي معهم. ولما كانت معاهداته مع بريطانيا أقوى من التزامه بالشعارات الوهابية ، فقد كان عليه أن يطوي بساط الوهابية ويقضي على (الإخوان) ويرفض أي حوار. وقد ساعدته على ذلك طبيعة النظام السياسي السعودي الاستبدادية المطلقة ، فكتب الى الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري ، الذي كان يقوم بدور الوساطة بينه وبين (الإخوان) المتمردين ، بتاريخ 16شوال 1347 (1928) رافضاً الصلح معهم ومطالباً إياهم بالخضوع والتسليم :”.. اني لأتمم ما أوجبه الله ورسوله لهم علي و قررته أنت. وأما ما أوجبه الله لي من حق الولاية من السمع والطاعة و امتثال الأمر وعدم المنازعة ، وما أوجبه الله للمسلمين في أداء حقوقهم من أموال و رقاب وبغي وغيره مما تحرمه الشريعة على المسلمين… والقبول من علماء المسلمين وعدم مخالفتهم والامتثال لنصائحهم وعدم التدخل في أمر الولاية وأمر الرعية مما يخالف بين المسلمين ويفسد الرعية على الراعي ، ويفرق بينهم ، وغير ذلك من جميع الأمور التي لا تقرها الشريعة ولا هي حق لهم ، فاذا اعطوك ذلك فأنا معطيهم وجهي وأمان الله على دمائهم وأموالهم و أعراضهم .. أن لا أعمل الا بحكم الشريعة”.[24]
وهنا قام رجال الدين الوهابيون بدور كبير في دعم سلطة ابن سعود وفرض الطاعة على (الإخوان) ورفض مبدأ المعارضة أو المشاركة في الأمور السياسية ، فأرسل الشيخ عبد العزيز العنقري رسالة الى كافة (الإخوان) ، جاء فيها:” معلوم عندكم : ان الله مَنَّ على أهل نجد بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، و ساعده على ذلك حمولة آل سعود ، و نصروا هذه الدعوة الاسلامية ، وكلما ضعفت أقام الله منهم من يحييها و يجددها. ومن أعظم من قام بإحيائها في هذا الزمان الذي كثرت فيه الأهواء و البدع وعَمَّ فيه الشرك أكثرَ أهل الأرض : الامام عبد العزيز. و بذلك صار له علينا وعليكم و على جميع المسلمين من الحقوق ما يجب مراعاته ، فان السمع و الطاعة لولاة الأمور دين من أعظم ما يدان الله به ، و في الخروج عليهم و منازعتهم الأمر وشق عصا المسلمين  أعظم الفساد في الأرض ، فان النبي (ص) أمر بطاعة ولاة الأمور و نهى عن معصيتهم وقال: (اسمع و أطع أميرك وان أخذ مالك و ضرب ظهرك) ، ولما ذكر (ص) أمراء الجور قال بعض الصحابة : ألا نقاتلهم يا رسول الله؟ قال (ص): لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة. فكيف و إمامكم ولله الحمد متمسك بالشريعة الغراء حاد في نصرة هذا الدين؟ فلا يجوز لأحد مخالفته ولا الاعتراض عليه في ولايته التي ولاّه الله تعالى إياه”.[25]
ورفض ثمانية من كبار العلماء [26] فتح باب النقد و المعارضة السياسية حتى في داخل الحركة الوهابية و وقفوا الى جانب ابن سعود في صراعه مع (الاخوان) ، فقالوا:” الرعية اذا انفتح لها باب في الطعن على الولاية وعلى من قام بها بأسباب لا تخرجه عن الاسلام ولا توجب الطعن عليه ، بل هي مصلحة للاسلام و أهله و درء للمفاسد ، انفتح باب الشر ، و حدثت الفتن التي هي غاية مرام الكفار ، وهي الفرقة بين المسلمين ، ولا يتمكن أعداء الدين الا بذلك.
ونحن في زمن غربة ، كما قال ابن القيم وهو في القرن السابع للاسلام : نحن في زماننا أغرب منه في يوم قوله (ص) لعمر بن عنبسة لما قال له: من معك؟ قال: حرٌ و عبد. فكيف بزماننا هذا ؟ اشتدت الغربة وقلّت البصيرة وضعفت القوة ونطقت الرويبضة في أمر العامة ، و قلّت البصيرة في دين الله ومعرفة ما يجوز و ما يمتنع في حق من ولاّه الله أمر المسلمين”.[27]
ان علاقة ابن سعود مع (الإخوان) لم تكن قائمة على الشورى و الرضا و الاختيار ، وانما كانت قائمة – كما هو واضح – على مبدأ القوة و العنف ، و قد عبر ابن سعود عن نظرته تلك بقوله:” ان العشائر لا يفهمون إلا السيف. و إلا فهم يركبون على ظهر الحكومة و يسوقونها و البلاد إلى مهاوي الخراب.. اشهروا السيف يرتدعوا و يتأدبوا”.[28]

الهيمنة على الحركة الوهابية فكرياً و دينياً

و في خطوة مهمة من أجل السيطرة على (الإخوان) قام عبد العزيز بن سعود بالهيمنة على الحركة الوهابية فكرياً ودينياً ، و ذلك بتقييد حركة العلماء المعارضين وفرض هيئة من العلماء الموالين له ، عليهم ، فذهب إلى الأرطاوية و عزل إمام المسجد المعارض ، و عزّر و أدّب عدداً من  المطاوعة.[29] و أصدر أمراً بمنع استقبال الهجر أي رجل دين وهابي من خارج إطار الكادر الرسمي. وصرف الموجودين منهم لديهم.[30] وأرسل رسالة إلى أهل القصيم جاء فيها:” قد بلغنا عن أناس يدعون أنهم على طريقته (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) أموراً مخالفة لما هو عليه ، و هي أنهم يتجاسرون على الإفتاء بغير علم ، و يطلقون التكفير و التضليل بغير علم ، بل بالجهل و مخالفة الدليل ، و يتناولون النصوص على غير تأويلها ، و يسعون في تفريق كلمة المسلمين و يتكلمون في حق من لم يساعفهم على ذلك من علماء المسلمين بما لا يليق… إننا إن شاء الله أنصار لمن دعا  إلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، قائمون بما قام به أجدادنا الذين نصروه . و من خالف ذلك إما بتفريط أو إفراط فلا يلومَنّ  إلا نفسَه. والله  والله لأؤدبنه أدباً يتأدب به الأولون والآخرون ، ومن أنذر فقد أعذر”.[31]
ثم أرسل ابن سعود رسالة عامة إلى كافة الإخوان و هددهم بقوة قائلا:” أنتم يا إخواننا صار معكم جهل زايد … فان كان أمركم هذا بحثاً عن علوّ في الأرض ، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وهو إننا نهيناكم عن بعض هؤلاء المدعين الذين يأتونكم ويشبّهون عليكم ، فلربما ان بعضهم يخرجكم من دينكم و تكونوا في مفسدة أعظم مما كنتم عليه سابقا ، من الغلو و التشديد وإنزال آيات القرآن وربطها على غير ما أنزل الله ، فهذا أمر عظيم. فهؤلاء مثل ما في الحديث : قد يأتي أقوام تحقرون صلاتكم عند صلاتهم ، و عبادتكم عند عبادتهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، فاقتلوهم أينما وجدتموهم . و بالحقيقة : ان بعض هؤلاء المتطوعين مشابهون لهم ، و نحن والحمد لله لسنا في شك من ديننا … و أما الإنسان الذي يرى أن ما على الدين إلا هو ، أو ما انتهى إليه فقهه وليس مقلدا إلا كل صاحب شبهة و غلو فنبرأ إلى الله منه ، و هو خارج من ذمتنا و ذمة المسلمين ، فهذا ندين الله بجهاده.
والذي ننهاكم عنه ثلاثة أمور : الأول: لا تسألوا و لا تمتثلوا بأمر  أحد من طلبة العلم إلا بعد أن تراجعونا و نفيدكم بما يسركم لدينكم و دنياكم ، ونظهر معكم الذي نعلم منه النصح للإسلام والمسلمين . أو فتوى أحد يرضاه علماؤنا الذين نحن على حقيقة من أمانتهم ونصحهم للاسلام والمسلمين وهم : والدنا الشيخ المكرم عبد الله بن عبد اللطيف ، والشيخ سعد بن عتيق ،والشيخ محمد بن عبد اللطيف ، والشيخ عبد الله العنقري ، والشيخ عبد الله بن سليم ، والشيخ عبد الرحمن بن سالم. فهؤلاء ما أفتوكم به فهو إن شاء الله حق وما رضوا لكم من طلبة العلم يصير معكم لتتعلموا منه ، فأنا مجيز ما أجازوا . ومن حط عنده طالب علم أو سأل غير هؤلاء المذكورين أو أحدا يجيزونه من طلبة العلم فأنا بري الذمة منه ولا يأمن العتب أيضا.
فأما الإنسان الذي قصده طاعة الله فهذا مدخل المسلمين يدخل مدخلهم و يترك منه ما عدا ذلك ، وأما الإنسان الذي يخالف هذا الأمر أو يتعدى ما ذكرنا فيكون عنده معلوم أننا إن شاء الله نعاقبه عقابا ما ظن به و لا له عندنا حرمة ولا وقار ، و من جنى فلا يجنى إلا على نفسه”.[32]
وقال في رسالة أخرى:” من أشكل عليه شيء من الأمور فيرده إلى طالب العلم المسؤول عندكم بأمر الولاية و رضا المشايخ عنه ، و نحن إن شاء الله نرجو أن ليس عندكم شيء يخالف ذلك ، وان قصدكم تحري رضا الله ، ولشفقتنا عليكم أحببنا أن نبين لكم إنذارا للمخالف والمتكلم بضده ، فمن خالفه بقول أو فعل فذمتنا و ذمة المسلمين بريئة منه و لا يأمن البطش به و بحلاله ، و من أنذر فقد أعذر”.[33]
ومع كل ذلك لم ينجح عبد العزيز في السيطرة الكاملة على (الإخوان) و تكميم أفواههم أو خنق أصواتهم الناقدة له. و نظرا لأنه كان يعتمد على نظام استبدادي لا مجال فيه للشورى ، و لا دور للشعب أو القواعد الحزبية الوهابية ، فقد لجأ الى السيف الذي اقام عليه مملكته . و استعان بفتاوى رجال الدين الوهابيين التي أصدروها ضد (الإخوان) لكي يعتبرهم:”متمردين وخوارج و غلاة” و يخرجهم من إطار (المسلمين) ويجرد غزواتهم من صفة (الجهاد) و يتهمهم بالتعصب و الانغلاق.[34] و ذلك تمهيدا لشن حرب شاملة عليهم سنة 1930
و لكن سيف ابن سعود لم يكن في ذلك الوقت بأقوى من سيف (الإخوان) ، خاصة بعدما لجأوا الى الكويت و العراق ، وكادوا يهددون نظامه بالسقوط ، لولا تدخل بريطانيا التي وقفت الى جانبه ضدهم، و لعبت دوراً كبيراً في انقاذ عرشه من الانهيار[35]، حيث منعت حاكم الكويت من الوقوف الى جانب (الإخوان) وقدمت لابن سعود  أحدث الأسلحة ، و أرسلت طائراتها لتهاجم مخيمات (الإخوان) و ألقت القبض على زعيمهم فيصل الدويش ، الذي لجأ الى الكويت ، و سلمته الى ابن سعود .[36]
وقد أصيب (الإخوان) بصدمة كبيرة من تأييد كبار رجال الدين الوهابيين لابن سعود و إفتائهم ضدهم ، رغم أن موقف (الإخوان) كان أقرب الى منطق الوهابية من ابن سعود ؛ مما دفعهم لاتهام المشايخ بالمداهنة في الدين وكتمان الحق و دفن ملة ابراهيم.[37]و اتهام ابن سعود باستغلالهم لأغراضه  الخاصة وتوسيع مملكته ، و التخلي عنهم و ضربهم بعد ذلك. و لذلك شعروا بالألم والندم لأنهم استخدموا كمطية ، فلم تعد لديهم رغبة في الولاء أو في الاندفاع في الحركة الوهابية.وكان كل همهم أن يُتركوا و شأنهم .[38] و تخلوا حتى عن لبس العمامة الاخوانية.[39]
وبعد القضاء  على (الإخوان) وتنظيمهم القبلي العسكري ، لم يعد للوهابية وجود حقيقي في نجد ، ولو أنها ظلت ممثلة بتيار (آل الشيخ) تؤدي للنظام السعودي بعض الوظائف الضرورية في السيطرة على المجتمع . إذ تحولت من حركة عقائدية طامحة الى فتح العالم الاسلامي “المشرك” و نشر التوحيد فيه ، الى مؤسسة دينية تابعة للدولة السعودية.


علاقة ابن سعود برجال الدين

و كما فعل ابن سعود مع (الإخوان) الذين استخدمهم في فرض هيمنته على البلاد ثم ضربهم ، قام ابن سعود باستخدام رجال الدين في عملية ضرب (الإخوان) و فرض الهيمنة عليهم. إذ استخدمهم لتقوية نظامه و إضفاء الشرعية عليه ثم ضربهم سياسياً ، خاصة بعد اختلال ميزان القوى لصالحه بشكل كبير ، حيث عزلهم عن التأثير على الحياة السياسية أو المشاركة في الحكم أو ممارسة قانون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، أو الاعتراض على السلطة المطلقة التي بنوها بأيديهم.    وعلى رغم أن ابن سعود ظل يحرص لفترة طويلة على دعوة بعض العلماء أسبوعياً ، والاجتماع معهم لاستماع وجهات نظرهم ، الا أن عملية الاستشارة كانت فردية مزاجية و سرية فهو الذي كان يختار العلماء الذين يود استشارتهم ، و هو الذي كان يقرر العمل على ضوء ما يشاء . ولم تكن العملية ضمن مؤسسة دستورية واضحة و علنية معروفة ، ولا تمتلك آلية لفرض الرأي المصوب أو المجمع عليه. حيث كان ابن سعود يلف الاجتماعات بغطاء كثيف من السرية.[40] ولا يسمح لأي أحد بمعرفة ماذا يدور فيها وماذا يقدم له العلماء من ملاحظات وانتقادات ، وما هي الأسس التي تدفعه لقبول رأي أولئك العلماء بخاصة و عدم الاستماع إلى وجهات نظر العلماء الآخرين. ومن هنا فقد كانت نتائج تلك الاجتماعات عقيمة ، ولم تؤثر على سياسة عبد العزيز في أي اتجاه ، بل يمكن القول إنها لم تكن سوى غطاء لأعماله وتحركاته ، أو محاولة لخداع العلماء و إقناعهم بوجود دور كبير لهم في إدارة البلاد.
ونتيجة لعدم تقنين العلاقة بين العلماء و ابن سعود ، و تركها للمزاج الشخصي ، فان العلماء افتقدوا قوة الضغط التي تتيح لهم فرض آرائهم و اقتراحاتهم ، أو إلزام الملك والسلطة التنفيذية بما يقترحون. ولم يحدث خلال تاريخ الملك عبد العزيز أن استمع أو نزل عند إرادة العلماء سوى بضع مرات فقط و في قضايا شكلية ثانوية ، وذلك عندما احتج العلماء على محاولاته للاحتفال بعيد العرش عام 1930م و1950م ، بعد أن اعتبروا الاحتفال بذلك بدعة يجب الاستغفار منها ، فتنازل الملك وألغى الاحتفالات.[41]
و رغم أن رجال الدين الوهابيين كانوا في بعض الأحيان يدخلون في منافسة حادة مع  آل سعود  على احتلال ما تبقى من المصادر الشعبية الرئيسية للسلطة ، الا انهم كانوا أضعف من فرض آرائهم بالقوة ، في ظل غياب أية مؤسسات دستورية أو قانونية او قواعد شعبية او حزبية تسمح لهم بذلك.



[1]  - وأصدر بتاريخ 22 صفر 1343-1924 منشورا وعد فيه المسلمين وأهل الحجاز بالخصوص بأن تكون الحجاز ومكة للمسلمين عامة وأن يكون أمر  الحرمين الشريفين شورى بين المسلمين . وقال : إنما أنا وكيل عن المسلمين في طرد الهاشميين ليقرروا مصير الحجاز بحرية.كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي 526-527
[2]  -   كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي 516
[3]  - و قوله للحجازيين : ” إن مكة للمسلمين كافة ، فأمر إدارتها و تنظيمها يجب أن يكون طبق رغائب العالم الإسلامي .. إننا سنجتمع بوفود العالم الإسلامي هناك وسنتبادل معهم الرأي في كل الوسائل التي تجعل بيت الله بعيدا عن الشهوات السياسية. إن الحجاز سيكون مفتوحا لكل من يريد فعل الخير من الأفراد والجماعات”. وقوله رداً على برقية الحزب الوطني الحجازي : ” إنا لا نطمع في امتلاك الحجاز أو التسلط عليه ، و لهذا فهو يترك للعالم الإسلامي”   كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص  525 – 526
[4]  - كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص 620
[5]  -  رفع عبد العزيز بن سعود شعار المؤتمر الاسلامي أثنا ء احتلال الحجاز لأهداف تكتيكية ثم تراجع عنه و ألغاه ، كما رفض مناقشة المؤتمر الاسلامي للقضايا السياسية أو التدخل في الشؤون الداخلية للحجاز./ كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص 534 – 535
[6]  - كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص 525 – 526
[7] – كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص  622
[8]  -  يقول محمد جلال كشك ان لورانس وجه تحذيرا بريطانيا لابن سعود بقوله : اذا كان ابن سعود يريد ان يتخلى عن الوهابية فنحن نرحب باحتلاله للحجاز ، واما اذا كان يريد ان يحافظ عليها فاننا سوف نأتي بالمسلمين الهنود لكي يخلصوا  بلاد الحرمين منه ، اذا ما أصر على الوهابية. / السعوديون والحل الاسلامي ، ص  496
[9]  -  كان موضوع السفر الى بلاد “المشركين” الكويتيين ، أحد مآخذ الإخوان في خلافهم مع ابن سعود ، حيث اتهموا المشايخ بنقض قرار وهابي شهير بحرمة السفر الى بلاد المشركين ، وإباحته ، في الوقت الذي كانوا يحرمون على (الإخوان) السفر الى الكويت و الاتجار معها. (ابن سحمان: منهاج أهل الحق ، ص 86) وكانت هذه تهمة خطيرة لمشايخ الوهابية الذين هبوا للرد عليها و الدفاع عن أنفسهم ، و تأكيد “حرمة السفر الى بلاد المشركين”. (المصدر ،  ص 102)  وقد حاول الشيخ سليمان بن سحمان أن ينفي تهمة إباحة السفر الى بلاد المشركين ، بقوله:”ان كان مراد هؤلاء الذين شبهوا على عوام المسلمين بهذه الشبهات : ان السفر الى بلاد الأحساء بعد أن أخرج الامام الدولة الكفارَ (الأتراك) فهذا  لا شك فيه لأنها صارت دار إسلام ، بعد أن كانت دار كفر ، لجريان أحكام أهل الاسلام على أهلها و الغلبة و الظهور فيها لأهل الاسلام على من كان فيها ممن ظاهر أهل الكفر من الروافض وغيرهم ، كما نص على ذلك العلماء قديما وحديثا.
و ان كان مرادهم أن السفر الى بلاد الأحساء و الى بلد الكويت مثلا مباح حال ولاية الكفار عليها ، و ان المشايخ إذ ذاك يبيحون السفر إليها ، فقد كان من المعلوم : ان المشايخ من أعظم الناس تحريما لهذا السفر ، و ان  ذلك عندهم من أكبر الكبائر و لا يبيحون السفر اليها “. ( المصدر ، ص 101 – 102)

[10]  -   وكان المفتي الأكبر الشيخ محمد بن عبد اللطيف وإخوانه من العلماء قد احتجوا من قبل في رسالة لهم إلى عبد العزيز على استعمال التلغراف فقالوا:” وأما وضع البرقيات في الرياض وغيرها من قرى نجد ، وما يترتب على ذلك ، فلا نراه جائزا ولا نفتي به  ونبرأ إلى الله من الإفتاء بشيء يترتب عليه المفاسد… وان من لازم وضعه وجود الكفر ممن يتولاه والسعي في نقض هذه الدعوة الاسلامية وإعادة الباطل في نجد كما كان وأعظم…وقد قال (ص): (لايجتمع دينان في جزيرة العرب)”. 7 شوال 1339هـ /1920
التويجري ، عبد العزيز : لسراة الليل هتف الصباح ، ص 273
[11]  - كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ص 680

[12]  -  اصدر الشيخ محمد بن عبد اللطيف (وأربعة عشر عالما آخر)  في نهاية الاجتماع ، بيانا يلبي بعض مطالب الإخوان ، وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الشيعة ، جاء فيه : “…أما الرافضة فقد افتينا للامام ابن سعود ان يلزمهم البيعة على الاسلام ، ويمنعهم من اظهار شعائر دينهم الباطل ، وعلى الامام ان يلزم نائبه في الاحساء ان يحضرهم عند الشيخ (ابن بشر) ويبايعوه على دين الله ورسوله وترك دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم و ترك سائر البدع من اجتماعهم على مآتمهم وغيرها مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل ويمنعون  من زيارة المشاهد.
وكذلك يلزمون بالاجتماع  على الصلوات الخمس هم وغيرهم في المساجد ويرتب فيهم أئمة ومؤذنون ونواب من أهل السنة ، ويلزمهم بتعليم (ثلاثة الاصول) ، وكذلك ان كان لهم محال مبتنية لاقامة البدع تهدم ، ويمنعون من اقامة البدع في المساجد وغيرها ، ومن أبى قبول ذلك ينفى من  بلاد المسلمين.
وأما الرافضة من أهل القطيف فيلزم الامام الشيخ ابن بشر ان يسافر إليهم ويلزمهم بما ذكرنا.
وأما رافضة العراق الذين انتشروا وخالطوا بادية المسلمين فأفتينا الامام بكفهم عن الدخول في مراعي المسلمين وأرضهم. وأما الجهاد فهو موكول الى نظر الامام وعليه أن يراعي الأصح للاسلام والمسلمين”
حرر في شعبان سنة 1345 –(17/1/ 1927)
حافظ وهبة : جزيرة العرب في القرن العشرين 227 و أنور عبد الله : العلماء والعرش ص 471 و التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 367 – 369
[13]  - التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 279
[14]  - كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي 641
[15]  - القحطاني، فهد: صراع الأجنحة في العائلة السعودية 278
[16]  -  عبد الله ، أنور : العلماء والعرش 261-263
[17]  -  وذلك لأن ابن سعود نفسه كان قد قال للإخوان في وقت سابق بتاريخ 19/10/1928 : ” لقد بنيت ملكي بعون الله وقوة ساعدي.. ولقد بلغني أن الكثير منكم غير راض عني وعن حكومتي ، ولكني لست ممن يتخلون تحت الضغط والقوة عن عروشهم .. “. القحطاني ، فهد: صراع الأجنحة في العائلة السعودية 278
[18]  - كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص 643
[19]  - ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 295
[20]  - ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 296
[21]  - ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 307
[22]  - كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص 645-647
[23]  - ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 314
[24]  -  التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 213
[25]  - التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 329
[26]  - هم: الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ، وحسن بن حسين ، وسعد بن حمد بن عتيق ، وسليمان بن سحمان ، وصالح بن عبد العزيز ،  وعبد الله بن حسن ، وعبد الرحمن بن سالم ، وعبد الله بن محمد بن عتيق.
[27]  - التويجري ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 287- 293
[28]  -  القحطاني، فهد : صراع الأجنحة في العائلة السعودية 278 عن أمين الريحاني : ملوك العرب ص 555
[29]  - التويجري ، عبد العزيز : لسراة الليل هتف الصباح ، ص 254
[30]  - التويجري ، لسراة الليل ، ص 398
[31]  - التويجري ، لسراة الليل ، ص 388
[32]  - التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 476
[33]  - التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 524
[34]  - كتب الى مستشاره حافظ وهبة يتهمهم بأنهم غلاة يتشددون بالدين و مغرورين ، وانهم بين فرقتين : إحداهما تتعبد عن جهل ، والاخرى لها بعض المقاصد السيئة  وتجعل الدين لها حجة.   محمد جلال كشك : السعوديون والحل الاسلامي ، ص660

[35] -    يقول المقيم البريطاني في الكويت ، هارولد ديكسون:” ان الفضل في انتشال ابن سعود من الوضع السيء الذي كان فيه يعود الى الحكومة البريطانية ، فلولا جهودها في إبقاء الكويت والعراق على الحياد ووضعها قوة كبيرة على حدود الكويت الجنوبية أجبرت الثوار على الاستسلام ، لما تمكن ابن سعود من سحق الثورة ، ولكان تعرض هو والبيت السعودي الى أخطر النتائج”.  الكويت وجاراتها ، ج1 ص 342
[36] – كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الاسلامي ، ص 633-636
[37]  -  وهبة ، حافظ  ،  جزيرة العرب في القرن العشرين ص 312
[38]  - ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 343
[39]  - ديكسون: الكويت وجاراتها ، ج1 ص 344
[40]  - كان ابن سعود يقول للعلماء : ” من رأى منكم شيئا مخالفا ، فليوضحه لي وليرشدني إلى الطريق الحق ، ولكن كما قال عمر بن الخطاب لمن أراد أن ينصحه : ( فليكن ذلك بيني وبينك)” .
[41]  - كشك ، السعوديون والحل الإسلامي 78 و أنور عبد الله ، العلماء والعرش 259  و261 و الزركلي، شبه الجزيرة العربية 744  ، وكذلك فعل ابنه فيصل سنة 1965
علاقة ابن سعود بالشعب


اذن فقد أقام ابن سعود دولته على القوة والقهر والغلبة و من هنا فقد أضفى عليها طابعاً  شخصياً باعتباره فاتحا ومقاتلا ومالكا للسلطة و البلاد والعباد ، وقد قال بصراحة :” أما الولاية وبلدانها و أرضها فهي لله ثم لي”.[1] ولذلك لم يؤسس أنظمة دستورية أو مؤسسات عامة لإدارة السلطة في البلاد ، فضلا عن توزيعها بين مراكز قوى متعددة ، أو السماح للشعب أو لما تبقى من الوهابيين بممارسة الحق في المشاركة السياسية.
لقد أثرت الطريقة التي تم عبرها الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها ، في بنية النظام السعودي وطبيعة علاقته مع الشعب ، و بما أنها كانت عبر القوة المسلحة و الاحتلال العسكري ، فان علاقة النظام مع المواطنين كانت قائمة على القوة ، و بما ان النظرية الدينية التي تم توظيفها في عملية التأسيس كانت هي (الوهابية) التي تكفّر عامة الناس ، فقد كانت علاقة النظام السعودي مع المواطنين قائمة على الشك و الإقصاء و رفض المشاركة السياسية. وقد انعكست هذه العلاقة السلبية – كما رأينا – حتى على أفراد الحركة الوهابية الذين تعرضوا في وقت متأخر إلى عملية تصفية و تدجين و إقصاء عن الحياة السياسية.
و على رغم قيام الدولة السعودية الثالثة في أجواء الحركة الدستورية و الديموقراطية التي عمت العالم الإسلامي حينذاك ، وأدت إلى سن الدستور في كل من الدولة العثمانية و ايران عام 1906 و 1908م ومتابعة  الملك عبد العزيز لأنباء تلك الحركة الدستورية و وعوده بإقامة نظام الشورى [2]، فانه  أقام دولته على أساس من الاستبداد الشخصي المطلق ، وجمع بين يديه كل السلطات الدستورية والتشريعية و القضائية و التنفيذية.[3] مع انه كان  قد اعتبر هذا النوع من العلاقة بين الحاكم والأمة ، والذي كان معمولاً به أيام الدولة العثمانية ، نوعا من الاستعباد المرفوض الذي يتنافى مع التوحيد .[4]   ولكنه لم يجد مانعا من ممارسته مع رعيته.[5]
و كان من الطبيعي ان يتم احتكار السلطة في العائلة المالكة بشكل مطلق ، وان يرفض الاعتراف بحق الشعب في السلطة او في كونه مصدرا لها . حيث لم يعد موضوع “حق” آل سعود في الملك محلاً للنقاش أو التساؤل. بل ولا مدى صلاحيات الملك أو كيفية نصبه وعزله موضعاً للحوار بين الناس الذين يجب عليهم التسليم والطاعة. وبما أن عملية السيطرة على مختلف المناطق السعودية كانت قد تمت عبر الفتح والاحتلال العسكري ، فقد كان التعامل مع المواطنين يتسم بنوع من الاستعلاء والاستعباد والغرور ، الذي تمثل في إضفاء اسم العائلة (السعودية) الحاكمة على الوطن والمواطنين في نجد والأحساء وحائل و عسير والحجاز. وانتهاج النظام السعودي سياسة استبدادية مطلقة واعتبار الثروة الوطنية والبلاد والعباد ملكا شخصيا.[6]

مائة عام من الوعود الديموقراطية العقيمة

وبالرغم من ذلك فان النظام السعودي ، ونظرا لشعاراته الاسلامية ، وانتشار المشاعر الديموقراطية في العالم ، كان يشعر بنقص كبير و أزمة شديدة في العلاقة بينه وبين المواطنين التواقين للحرية والعدالة والشورى والمشاركة السياسية.ولذلك كان يحاول ان يجاري تلك المشاعر وأن يضفي على نفسه مسحة ديموقراطية. وقد قال الملك عبد العزيز بن سعود : ” يدعي البعض أن الحرية من أوضاع الأوربيين ، والحقيقة أن القرآن الكريم قد جاء بالحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعا ، وجاء بالإخاء والمساواة المطلقة التي لم تحلم بها أمة من الأمم”.  و ” إن الناس الذين لا نشك أن الله عالم  بقلوبهم ، وأنهم أعداء بعضهم لبعض كما قال الله تعالى (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) قد بلغوا بالشورى مراتب عالية في الدنيا ، ونحن المسلمون أمرنا الله بالمشورة ، والمشورة لها أساس ، وهو النصح بالتزام الحق”. و ” أما السير على غير المشورة ، فهو مجلبة للنقص والهوى ، هوى النفس “.[7]
ولأن النظام السعودي كان يشعر في قرارة نفسه ان الارتكاز على القوة فقط ، يعطي الآخرين الحق في اللجوء اليها والعمل من أجل الاطاحة بالنظام ، فقد كان يحاول أيضا ان يكتسب الشرعية الدستورية من خلال التظاهر بالعمل بالشريعة الاسلامية ، وأخذ البيعة من المواطنين وإقامة بعض مظاهر الشورى أو الديموقراطية ، أو الوعد بتحقيقها.

الشورى لأهل الحجاز

و قد قدم ابن سعود جزءاً من تلك الوعود الديموقراطية  الى سكان الحجاز المرعوبين من التطرف الوهابي ، قبيل و أثناء عملية الاجتياح ، حيث أصدر منشوراً بتاريخ 22 صفر 1343-1924 يعد فيه المسلمين ، وأهل الحجاز بالخصوص ، بأن تكون الحجاز ومكة للمسلمين عامة وأن يكون أمر الحرمين الشريفين شورى بين المسلمين . ويقول :”إنما أنا وكيل عن المسلمين في طرد الهاشميين ليقرروا مصير الحجاز بحرية” [8].  ثم أصدر  منشورا آخر في 24 ديسمبر1925 – 1344 ، أكد فيه: أن مستقبل البلاد لا بد لتقريره من مؤتمر إسلامي يشترك المسلمون فيه جميعا لينظروا مستقبل الحجاز ومصالحه. وقال:” لقد أبرقنا لكافة المسلمين في سائر الأنحاء أن يرسلوا وفودهم لعقد مؤتمر إسلامي عام يقرر شكل الحكومة الذي يرونه صالحا لأحكام الله في هذه البلاد المطهرة”.[9] ولكن ابن سعود تراجع عن فكرة المؤتمر الإسلامي ، بعد فتح مكة ، وعين نفسه ملكاً على الحجاز .[10] ومع ذلك ظل يدعو  إلى عقد مجلس شورى من أهل الحجاز لإدارة بلادهم ، وقال في خطابه أمام قيادات مكة:” لا أريد ان استأثر بالأمر في بلادكم دونكم وإنما أريد مشاورتكم في جميع الأمور” وطلب من الحاضرين أن يجتمعوا لانتخاب من يمثلهم في مجلس الشورى الأهلي . ثم قال في افتتاح مجلس الشورى الذي تم تشكيله بالفعل قبل أن تسقط مدينة جدة:” لقد أمرت أن لا يُسَنَّ نظام في البلاد ويجري العمل به قبل أن يعرض على مجلسكم من قبل النيابة العامة  وتنقحونه بمنتهى الحرية”.[11]

ولكن تلك الوعود الديموقراطية سرعان ما ذهبت أدراج الرياح ، وتبين أنها لم تكن سوى دعوات تكتيكية من أجل تطييب خاطر الحجازيين وتسهيل فتح بلادهم ، حيث لم يفِ عبد العزيز بأي من  وعوده بأن يقرر الحجازيون مصيرهم بحرية، وبأن يكون أمر الحرمين الشريفين شورى بين المسلمين. وألغى المؤتمر الإسلامي مباشرة بعد احتلال مكة ، ولم يسمح لمن حضر من الوفود المدعوة بالنظر في مستقبل الحجاز ، ولا تقرير شكل الحكومة في بلاد الله  المطهرة. وعيّن نفسه ملكاً على الحجاز . ومع أنه كان قد طلب ، بعد سقوط مكة ، من أعيان الحجاز تنظيم قائمة بأسماء أعضاء مجلس الشورى ، وأنهم اجتمعوا بناء على ذلك وانتخبوا ثلاثة عشر شخصا برئاسة الشيخ عبد القادر الشيبي ، الا أن ابن سعود لم يسمح لذلك المجلس بالانعقاد و لا مرة واحدة.
وبدلا من ذلك قام الملك عبد العزيز عام 1344هـ ، بتشكيل (مجلس أهلي) استشاري جديد بأعضاء معينين من قبله ، وحدد لهم مهماتهم في إطار الأمور البلدية والثقافية والتجارية والتنفيذية لمنطقة الحجاز فقط ، مع عدم التدخل بالسياسة الخارجية للبلاد .وعيَّن ابنه الأمير فيصل رئيساً للحكومة ومرجعا للدوائر الرسمية  تحت لقب (النائب العام لجلالة الملك في الحجاز)[12] اعتبارا من 28/6/1344 .
وبعد ذلك بعام قام عبد العزيز بتشكيل مجلس آخر باسم (مجلس الشورى) برئاسة  نائب الملك : الأمير فيصل وعضوية 12 شخصا معينا . وأصدر في 21/5/1345هـ (1926م)  (التعليمات الأساسية للحجاز) لتكون دستورا للدولة الحجازية ، التي أصبحت ضمن الدولة السعودية ، نصت المادة الثانية منها على أن الدولة العربية الحجازية دولة ملكية شورية اسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها. ونصت المادة الرابعة على تشكيل مجالس شورى في مكة والمدينة وجدة. وفي التاسع من محرم 1346 اصدر ابن سعود مرسوما ملكيا يتعلق بنظام مجلس الشورى ويؤكد على ان  المجلس يتألف من ثمانية أعضاء نصفهم تختارهم الحكومة بعد استشارة أهل الفضل والخبرة والنصف الآخر تختارهم الحكومة بمعرفتها ، ويكون برئاسة الأمير فيصل (النائب العام) ، وللملك  الحق في حل مجلس الشورى وتغيير أعضائه أو عزلهم. وفي عام 1347 شكل مجلس شورى جديد مع تغيير طفيف في عدد الأعضاء الذي أصبح مفتوحا بإرادة الملك. وهكذا شكلت مجالس أخرى للشورى في الحجاز كل سنتين حتى عام 1372 ولكنها كلها كانت أشبه بالحكومات المعينة منها بمجالس الشورى .

وعود ديموقراطية عقيمة

وعلى مستوى المملكة العربية السعودية أصدر الملك عبد العزيز  في سنة 1932  مرسوما بتكليف مجلس من الوكلاء لوضع نظام أساسي (أي دستور) للمملكة، ونظام لتوارث العرش ، ونظام لتشكيلات الحكومة وعرضها عليه لاستصدار أوامره فيها. وكان المرسوم يتضمن تشكيل جمعية مندوبين.[13] وهو ما يعبر عن شعور النظام بالحاجة الى تشكيل قاعدة جديدة للشرعية الدستورية كبديل عن قاعدة القوة والقهر والغلبة. ولكن لم يتم ترجمة ذلك المرسوم الى واقع. وهكذا ظل  النظام السعودي محافظاً على طابعه الاستبدادي المطلق.
وعندما توفي الملك عبد العزيز و ورثه ابنه الأكبر سعود أخذ يتصرف مثله كحاكم مطلق ، مما ولد أزمة في داخل العائلة المالكة ، ودفعهم للاختلاف فيما بينهم ، حيث انشق عدد من أبناء الملك عبد العزيز (فواز وبدر وعبد المحسن وسعد) بقيادة الأمير طلال  عام 1958  وطالبوا بوضع دستور يحفظ الحرية والحقوق للمواطنين ، وإقامة  مجلس للشورى في ظل الملكية.[14]فعين الملك سعود أخاه فيصلا رئيساً للوزراء ووضع نظاماً لمجلس الوزراء أعطاه دور السلطة التشريعية. وأعلن انه سيضع دستورا للبلاد ، وشكل لجنة حكومية لصياغته .[15] الا أن الأيام والسنون مرت دون أن ترى البلاد الدستور الموعود.
وعندما تولى الأمير فيصل رئاسة مجلس الوزراء للمرة الثانية ، أعلن في 3/6/ 1382  بأن الحكومة قد وضعت برنامجا إصلاحيا و قال :” إن الوقت قد حان لإصدار نظام أساسي للحكم مستمد من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الراشدين ، يضع في وضوح كامل المبادئ الأساسية للحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم وينظم سلطات الدولة المختلفة وعلاقة كل جهة بالأخرى وينص على الحقوق الأساسية للمواطن ومنها حقه في التعبير عن رأيه في حدود العقيدة الإسلامية والنظام العام. وان نظام الشورى الإسلامي يجب أن يتم إحياؤه من جديد ليسهم أهل الحل والعقد في بناء الدولة ومراقبة أعمال السلطة “.[16]ولكن هذا الإعلان بقي مجرد حبر على ورق ولم يتم الوفاء به في ذلك الوقت.
ونظرا لغياب دستور واضح يحدد العلاقة بين الملك ورئيس الوزراء ، فقد كاد النظام السعودي يتفجر من الداخل ويدخل في حرب أهلية ، وذلك عندما عين  الملك سعود أخاه فيصلا نائبا عنه في فترة ذهابه للخارج للعلاج ، ولكن الأخ النائب رفض إعادة السلطة الى الملك بعد عودته الى الوطن ، مستخدماً لغة ديمقراطية جديدة ، حيث قال له:” ان هذه السلطات أمانة أودعتني إياها الأمة و أقامتني أميناً عليها وإنها لن تكون موضع مساومة ، كما إنني لا أستطيع التخلي عنها الا اذا طلبتها الأمة صاحبة الشأن”. وظل الأمير فيصل في صراع مع أخيه الملك سعود ، حتى استطاع أن يجرده من كل صلاحياته ، بدعم من رجال الدين وعلى رأسهم آل الشيخ الذين أصدروا في 16 شعبان 1383هـ  فتوى تنص على حق فيصل بإدارة جميع أمور الدولة في غياب الملك وحضوره.[17] ثم قام  الأمير فيصل أخيراً  بالانقلاب على أخيه سعود وعزله من الملك سنة 1964.[18]

مجلس لأهل الحل والعقد

وقد أدت الأزمة الدستورية بين الملك سعود ونائبه فيصل ، إلى قيام مجلس غير رسمي وغير معلن وليس منتخبا من أية جهة ، عرف باسم (مجلس أهل الحل والعقد) وكان يتألف من حوالي 68 أميرا بالاضافة الى 12 شخصاً من كبار رجال الدين ، وهو الذي قام باتخاذ القرار بعزل الملك سعود.[19]
وقد كشفت الطريقة التي تم عزل الملك سعود فيها عن فوضى دستورية خطيرة ، حيث تمت عملية التغيير استنادا الى معادلات القوة في داخل العائلة المالكة ، وفي ظل غياب دستور واضح يحدد صلاحيات الملك ومسؤولياته ، ويرسم العلاقة بينه وبين الأمراء والوزراء ورجال الدين وعامة فئات الشعب ، ويعين الجهة الشرعية التي تتولى محاسبة الملك وعزله.

وبعد ان أصبح فيصل ملكاً قام بتعديل نظام مجلس الوزراء بحيث اصبح كما يلي:” المادة السابعة: مجلس الوزراء هيئة نظامية[20]، يرأسها مجلس الوزراء وتصبح قراراته نهائية بعد تصديق جلالة الملك عليها”.[21]ونظرا لشعور الملك فيصل بفقدان النظام للشرعية الدستورية وَعَدَ المواطنين بإصدار دستور يتضمن إقامة مجلس شورى ويكفل الحقوق الأساسية للمواطنين .[22]
ولكن الملك فيصل قتل عام 1975 دون أن يقوم بأية خطوة في هذا الاتجاه.
وفي ذلك الوقت أعلن الأمير فهد ولي العهد ورئيس الوزراء ، عن إيمانه بالديموقراطية الإسلامية وقال:”إن الشورى هي إحدى أسس الديموقراطية الحقيقية”. ووعد بقرب صدور نظام مجلس الشورى.[23]
ولكن النظام السعودي استمر كما هو عليه ، إلى أن حدثت حركة جهيمان العتيبي في الحرم المكي عام 1979 ، فتذكر الملك خالد موضوع الشورى وأمر بتشكيل لجنة لإعداد مشروع الدستور.[24]
ثم عاد الملك فهد من بعده ليصرح عام 1984 لصحيفة (الصنداي تايمز) بعزمه على تأسيس مجلس الشورى خلال ثلاثة أو أربعة شهور ، وان جميع أعضائه سيعينون مباشرة من الحكومة ، وبعد سنتين سيعطي الشعب حق انتخاب نصف أعضائه انتخابا مباشرا عن طريق مجالس المقاطعات ، وفي مرحلة لاحقة سيتم انتخاب بعض أو معظم أعضاء البرلمان بالانتخاب المباشر من قبل المواطنين وسيكون المجلس برلمانا كغيره من برلمانات العالم ، وأنه سيكون أداة للتعبير عن الرأي ووسيلة لمراقبة تنفيذ سياسة الدولة وضمانا لمساهمة الشعب في الحكم.[25]

الأنظمة الثلاثة  تكرس الحكم المطلق

ومضت شهور وسنوات لم يحدث خلالها شيء إلى أن حدثت مناسبة عاصفة وهي حرب الخليج الثانية عام 1991 وما أعقبها من حدوث امتعاض ومعارضة داخل السعودية ، تمثل بتقديم مذكرات للنصيحة من قبل بعض المواطنين الى الحكومة ، فقام الملك فهد بتاريخ 1 / 3 / 1992  بالإعلان عن الأنظمة الثلاثة : (النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق أو المقاطعات). وتشكيل مجلس للشورى مؤلف من 60 عضوا معينا.
وقد نصت غالبية بنود النظام الأساسي على إعطاء صلاحيات واسعة للملك، بحيث يصبح هو المحور الأول والأخير للحياة السياسية وصاحب  الدور المطلق فيها من خلال:
1 ـ اختيار وإعفاء ولي العهد (المادة 5).
2 ـ رئاسة السلطات الثلاث، التنفيذية، والتشريعية، والقضائية ، (المادة 44).
3 ـ تعيين وإقالة القضاة و تنفيذ الأحكام القضائية (المادة 50 والمادة 52).
4 ـ رئاسة مجلس الوزراء وتعيين وإقالة الوزراء، وحل وتشكيل الوزارة (المادة 56 و 57).
5 ـ تعيين وإقالة أعضاء مجلس الشورى، وحل المجلس، وتعيين بديل له (المادة 68).
6- إصدار الأنظمة والمعاهدات، والاتفاقيات الدولية والامتيازات وتعديلها أو إلغائها (المادة 70).
7- إصدار الميزانية العامة للدولة (المادة 76).
8- الإنفاق من الأموال العامة خارج المقرر في ميزانية الدولة (المادة 73).
9- تعديل النظام الأساسي (المادة 83).
10- الفصل في الخلاف بين مجلس الشورى ومجلس الوزراء (المادة 17 ـ نظام مجلس الشورى).
11- تعيين أمراء المناطق ونوابهم ومحافظي المحافظات وأعضاء مجالس المناطق وعزلهم (المادة 4 ، 10 ، 16 ، 20 ، نظام المناطق).
وفي الوقت الذي أعطى النظام الأساسي للملك تلك الصلاحيات الواسعة ، لم يشر أبدا إلى واجباته ، ولم يسمح بإخضاعه لأي نظام محاسبة أو مساءلة . مما كرس الانفراد المطلق للملك في الحياة السياسية ، وحافظ على صيغة النظام الملكي المطلق التي كانت قائمة فعلا منذ تأسيس النظام السعودي في مطلع القرن العشرين.
ولم يوضح النظام الأساسي طريقة عزل الملك في حالات العجز أو سوء التدبير أو الانحراف ، حتى من قبل العائلة المالكة أو مجلس أهل الحل والعقد ، في حين كان يفترض بالنظام الأساسي الجديد أن يوضح طريقة العزل والجهة المسؤولة للقيام به ، كأن يكل الأمر إلى مجلس الشورى ، كما هو الحال في معظم دول العالم ، أو مجلس أهل الحل والعقد ، أو حتى العائلة المالكة. ولكن النظام الأساسي أهمل الحديث عن هذا الموضوع الحيوي وتركه لمعادلات القوة في المستقبل.
ومع انه نص في المادة الثامنة على أن يقوم الحكم على أساس الشورى ، وصدر نظام خاص بذلك ، الا ان المجلس الذي تمخض عنه كان مجلساً معيناً وليس منتخباً . ومع ذلك فان النظام لم يعطه حق التشريع  وإنما التوصية بالقوانين فقط. كما جاء في المادة السابعة عشرة من نظام مجلس الشورى التي تقول : “ترفع قرارات مجلس الشورى الى رئيس مجلس الوزراء ويحيلها الى مجلس الوزراء للنظر فيها ، فان اتفقت وجهات نظر المجلسين صدرت بعد موافقة الملك عليها ، وان تباينت وجهات النظر فللملك إقرار ما يراه”.[26]

ولا يضمن نظام مجلس الشورى أية حصانة سياسية لأعضاء المجلس ، وإنما يلحقهم وظيفياً بنظام الخدمة المدنية، الأمر الذي يسمح للسلطة باتخاذ إجراءات إدارية ضد أي أحد منهم ، ومحاكمتهم ومعاقبتهم ،  مما يفقد  المجلس الحرية والاستقلالية والقدرة على التصدي للسلطة التنفيذية أو محاسبتها.[27]
وفي الوقت الذي  يطلب  نظام الحكم من المواطنين مبايعة الملك على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره (المادة 9) ، ويدعو إلى تربية الأبناء  على طاعة الملك (المادة التاسعة) فانه لا يعطي الأمة الحق في انتخاب الملك ولا عزله بالطبع ، كما يتجنب الاعتراف الصريح بالحقوق الأساسية للمواطنين ، خصوصا حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير ، وحقهم في المشاركة السياسية عبر تشكيل الأحزاب أو النقابات.[28]
وفي مقابل ذلك ينص النظام الأساسي على إلحاق وسائل الإعلام المحلية بالدولة، ويفرض عليها الالتزام بسياساتها (المادة 39) . مما يعني مصادرة حرية المواطنين في التعبير عن آرائهم  في القضايا التي لا تنسجم مع السياسات الحكومية.
ويؤكد النظام الأساسي أن لا دور للشعب في تعديل أية مادة من مواد النظام ،  وإنما يجري ذلك بنفس الطريقة التي تم بها إصداره ، أي بالإرادة الملكية. كما هو صريح المادة (83) .
و لقد تكرر في النظام الأساسي  النص على استناد الحكم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله كما في المادة (1 ، 5 ، 6 ، 7) وغيرها من المواد ، ولكنه لم يوضح النصوص التي يستند إليها في طبيعته الوراثية وحصر الحكم في العائلة السعودية ، كما جاء في المادة رقم (5).
ومع كل ذلك فقد وصف الملك فهد النظام الأساسي والنظام الجديد لمجلس الشورى ، بأنه يقوم على أساس الاسلام ويشكل استجابة لقول الله عز وجل: (وأمرهم شورى بينهم) وأنه تحديث وتطوير لما هو قائم ” ولقد ذكرنا من قبل في مناسبات كثيرة أن البلاد شهدت قيام مجلس الشورى منذ وقت طويل ، وخلال هذه المدة استمرت الشورى في البلاد بصيغ متعددة متنوعة ، فقد دأب حكام المملكة على استشارة العلماء وأهل الرأي ، كلما دعت الحاجة الى ذلك… ومن رحمة الله بالناس : أنه تعالى لم يشرع شكلاً واحداً لتطبيق الشورى ، بل جعل الشورى وصورتها لاجتهاد المسلمين في كل زمان ومكان”.[29]
وعلى اية حال لم يفلح النظام الأساسي الذي قدمه الملك فهد ، في تلبية حاجة المواطنين للديموقراطية ، وخاصة لجهة الانتخابات المباشرة لأعضاء مجلس الشورى .[30] وكان أشبه ما يكون بالمنحة المحدودة القابلة للسحب في أية لحظة [31]، وذلك بسبب  إيمان النظام السعودي بحقه المطلق باحتكار السلطة التي أستولى عليها بقوة السيف ، ورفضه الاعتراف بحق الشعب في السلطة أو كونه مصدرا لها . ولذلك فقد تم استبعاد أية فكرة  للتصويت على النظام الأساسي من قبل الشعب عبر الاستفتاء العام أو مناقشته عبر مجلس شورى منتخب . ولا يزال النظام السعودي يرفض إجراء أية انتخابات برلمانية او رئاسية أو أخذ رأي الشعب في تعيين الملك القادم ، ويواصل استمراره على أساس القوة والقهر والغلبة ، مع أخذ البيعة من الناس بشكل صورى لا يقدم ولا يؤخر.
ولا حاجة للقول إن الفكر الوهابي السياسي يتبنى بشكل كامل النظام السعودي كما هو ، ويتفق في إعطاء الحاكم الصلاحيات المطلقة على حساب الشعب الذي يشكك في الهوية الاسلامية  للكثير من أفراده وطوائفه وتياراته وأحزابه. وإنه يرفض المس بهيكلية النظام الأساسية لجهة توزيع السلطة خوفا من فقدان السلطة التي تم إحرازها عن طريق الفتح والقهر والغلبة.




[1]  - التويجري ، عبد العزيز: لسراة الليل هتف الصباح ، ص 466
[2]  - أكد الملك عبد العزيز بعد دخوله مكة المكرمة عام 1343  لأهالي الحجاز أن نظام حكمه سيقوم على تطبيق الشريعة وأن الأمر سيكون شورى بين المسلمين.  ابن باز ، أحمد عبد الله: النظام السياسي والدستوري للملكة العربية السعودية ص 67
[3]  -  بايع أهل الحجاز ابن سعود يوم 25 جمادى الثانية 1344 (10 يناير 1926) على أن يكون ملكا على الحجاز بشرط أن يكون الحجاز للحجازيين وان يكون أهله هم الذين يقومون بإدارة شوؤنه ، وان تكون مكة المكرمة عاصمة للحجازيين.  كشك ، محمد جلال : السعوديون والحل الإسلامي  ص 532
[4]  - فقد قال في استقبال الأمير وحيد الدين  حفيد السلطان عبد الحميد ، في الرياض في 9 ذي الحجة 1349 هـ – 1931 : “إن أعظم من حاربنا هم أجداد هذا الرجل ، ولم يقاتلونا إلا لأننا امتنعنا أن نقول للسلطان بأننا عبيد أمير المؤمنين ، لا .. لا .. لسنا عبيدا إلا لله تعالى”. كشك ، محمد جلال: السعوديون والحل الإسلامي 435
[5]  - يقول الكاتب النمساوي المسلم الذي رافق ابن سعود ، محمد أسد: “إن ابن سعود لم يحقق آمال العرب والمسلمين ، فبينما زادت قوته و توطدت ، و اتضح أن ابن سعود لم يكن أكثر من ملك يهدف إلى ما هو ليس أسمى و أرفع من أهداف الكثيرين من الحكام مطلقي السلطة من قبله في الشرق… و هو لم يفعل شيئا بسبيل بنيان مجتمع تقدمي عادل. و عندما سئل مرة لماذا لم يحاول أن يقيم دولته على أسس أقل شخصية ليتمكن أبناؤه من أن يرثوا بناء حكوميا منظما ، أجاب:” لقد أسست مملكتي بسيفي و جهودي فليبذل أبنائي جهودهم الخاصة من بعدي”. كشك ، محمد جلال : السعوديون والحل الإسلامي  68
[6]  -  يكاد يجمع المؤرخون على أن عبد العزيز بن سعود كان يحكم المملكة العربية السعودية حكما شخصيا ويدير الأمور وكأنها شأنا من شؤونه المنزلية ، إلى أن توفي عام 1953م ، وكمثال على ذلك ، يشير المؤرخون إلى أسلوب تعاطي الملك مع  الثروة الوطنية الهائلة التي كان ينظر إليها كثروة شخصية و لم يكن يفرق بينها وبين أمواله الخاصة . وكانت أول ميزانية قدمتها السعودية في عام 1958-1959  وقد خصص للعرش 17% من الميزانية لإنفاقها وفق رغبات الملك بالإضافة إلى 19% من الميزانية وضعت تحت بند (نفقات أخرى) لتنفق حسب الرأي الشخصي للملك. / أنور عبد الله ، العلماء والعرش ،ص 94 وكشك ، السعوديون والحل الإسلامي ص 72
وقد ذكر الأمير الوليد بن طلال لصحيفة نيويورك تايمز في 30/11/2001 أن الأمراء السعوديين يحصلون عند ولادتهم على مرتب سنوي قدره 180 ألف دولار .
[7]  - كشك  ، السعوديون والحل الإسلامي 37-38
[8]  - كشك ، السعوديون والحل الإسلامي  526-527
[9]  - كشك ، السعوديون والحل الإسلامي  528
[10]  - كشك ، السعوديون والحل الإسلامي 69
[11]  - كشك ، السعوديون والحل الإسلامي  39
[12]  - ابن باز ، أحمد عبد الله: النظام السياسي والدستوري للملكة العربية السعودية ص 72

[13]  -  يقول الدكتور أحمد بن باز: إن مجلس الشورى أقر في دورته لعام 1355هـ  مسودة مشروع النظام الأساسي للمملكة وتم رفعه للملك للمصادقة عليه. ولكن الركود الاقتصادي وأحداث الحرب العالمية الثانية لم يمكنا الحكومة من تنفيذ برامجها../ ابن باز ، أحمد عبد الله: النظام السياسي والدستوري للملكة العربية السعودية، ص 96
[14]  -   القحطاني ، فهد: صراع الأجنحة  ،ص92
[15]  - القحطاني ، فهد: صراع الأجنحة ، ص 94
[16]  - القحطاني ، فهد : صراع الأجنحة ، ص 237 راجع أيضا: ابن باز ، أحمد عبد الله: النظام السياسي والدستوري للملكة العربية السعودية، ص 97
[17]  - القحطاني ، فهد: صراع الاجنحة ، ص 112 -113
[18]  - عبد الله ، أنور : العلماء والعرش ص 43 ملحق رقم 4
[19]  - وهو الآن يضم حوالي مائة أمير ينتمون الى آل عبد الرحمن آل سعود وعدد من ممثلي الفروع الصغيرة التابعة الى العائلة الحاكمة ، بالاضافة الى خمسين عضوا من العائلات الأرستقراطية التي ترتبط بشكل وثيق مع آل سعود ، مثل الجلوي والسديري وثنيان وآل الشيخ. وهناك أيضا بعض العلماء البارزين وبعض الأمراء الكبار المؤثرين. ويبدو أن معيار العضوية في “أهل الحل والعقد” يرتبط بكفاءة الأصل والعمر والتميز والقيادة حسب التقاليد البدوية. يماني ، مي: هويات متغيرة ، ص  67
[20]  - أي تشريعية ، بالمصطلح السعودي
[21]  - القحطاني ، فهد : صراع الأجنحة ، ص 142
[22]  - الياسيني ، أيمن : الإسلام والعرش ، 166
[23]  - مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 12/5/1975
[24]  - الياسيني ، أيمن : الإسلام والعرش ، 203
[25]  - القحطاني ، فهد : صراع الأجنحة ، ص 234

[26]  - ابن باز ، أحمد عبد الله: النظام السياسي والدستوري للملكة العربية السعودية، ص 322
[27]  - يقول الدكتور أحمد بن باز: تنص المادة السادسة من نظام مجلس الشورى على أنه :” إذا أخل عضو المجلس بواجبات عمله ، يتم التحقيق معه ومحاكمته وفق قواعد وإجراءات تصدر بأمر ملكي”. وقد صدر أمر ملكي يحدد قواعد التحقيق والمحاكمة لعضو مجلس الشورى وإجراءاتها ، وينص على معاقبته بإحدى العقوبات التالية: أ- توجبه اللوم كتابة. ب – حسم مكافأة شهر. ج –  إسقاط العضوية. مع امكانية رفع الدعوى العامة أو الخاصة على العضو./ النظام السياسي والدستوري للمملكة العربية السعودية ، ص 228
[28]  - كانت قد صدرت في عام 1965 م عدة مراسيم ملكية تحرم تشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية والتظاهر والإضراب عن العمل ، وتعتبر الانتماء إلى أي حزب أو الدعوة إليه جريمة ضد أمن الدولة  ، وتنص على معاقبة كل من يثبت بحقه ارتكاب الجرائم الموصوفة بعقوبات تتراوح بين السجن والنفي والإعدام.

[29]  - آل سعود ، فيصل : رسائل أئمة دعوة التوحيد ، ص 178 – 179  وقد صدق الملك في ذلك فان الله تعالى لم يشرع شكلا واحدا للشورى ، وقد اختلف الفقهاء المسلمون تاريخيا حول الزامية الشورى للحاكم أو عدمها ، ولكن المشكلة تكمن في مصادرة الحكام لحق الأمة وحق الفقهاء في الاجتهاد ومحاولة فرض آرائهم على الجميع بالقوة ، ورفض مشاريع الشورى الحقيقية التي تجمع عليها عامة المسلمين ، بالاضافة الى التشكيك بهوية المسلمين واتهامهم بالكفر والشرك وحصر صفة (التوحيد والاسلام) في فئة صغيرة من الناس.
[30]  - فقد دعا الأمير الوليد بن طلال ، في حوار أجرته معه صحيفة نيويورك تايمز ، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، إلى إجراء انتخابات لمجلس الشورى السعودي ، مشيرا إلى انه ” كلما تم ذلك بسرعة كان أفضل ، بالنسبة للمملكة.  وأنه إذا سمح للناس بالحديث بحرية و المشاركة بقدر أكبر في العملية السياسية ، فسيكون بالإمكان احتواءهم وجعلهم جزءا من العملية” . وقال الوليد إن فكرة الانتقال التدريجي إلى ديمقراطية محدودة تطرح للحوار العلني داخل دوائر الأسرة المالكة، رغم أنها لا تطرح للنقاش في وسائل الإعلام السعودية من صحف أو تلفزيون، التي تخضع لرقابة الدولة أو ملكيتها.
[31]  - يقول الدكتور أحمد بن باز:”ان اسلوب نشأة النظام الأساسي للحكم يشبه الى حد كبير أسلوب المنحة”./  النظام السياسي والدستوري للملكة العربية السعودية، ص 98
الفصل الخامس
المؤسسة الدينية الوهابية و الشورى


تشكيل المؤسسة الدينية الوهابية


أثبتت تجربة (الإخوان) أن الفكر الوهابي التكفيري كما يمكن ان يكون سلاحاً بيد الحاكم ضد الشعب كذلك يمكن ان يكون سلاحاً بيد الشعب او قطاع منه (كالحركة الوهابية) في مواجهة الحاكم ، خاصة اذا انحرف عن الشريعة الاسلامية او “كفر” و “ارتد” و “أتى بناقض من نواقض الإيمان و التوحيد” ، الا اذا تمت السيطرة على ذلك الفكر ولجمه بقوة. ورغم ان ابن سعود دخل في مواجهة صعبة مع (الإخوان) كاد يفقد فيها عرشه ، ورغم أن الوهابية ظلت تشكل مصدر إزعاج كبير لابن سعود ، الا انه لم يقرر تصفيتها نهائيا ولا وإلغاءها تماما ، و ذلك نظرا لأنها كانت لا تزال تشكل سلاحا مهما ضد المجموعات السكانية المختلفة التي قد تطالب بحقوقها الديموقراطية أو تتطلع للمشاركة في صنع القرار السياسي ، وذلك بما كانت توفره من تشكيك بهوية تلك المجموعات الاسلامية ، ودعوة لطاعة الحاكم طاعة مطلقة. وكان ابن سعود واثقاً من السيطرة على الحركة الوهابية وقدرته على الاستفادة منها لخدمة أغراضه السياسية وبناء نظام استبدادي مطلق.

ومع أن الوهابية الأولى كانت ترفض التقليد وتنادي بفتح باب الاجتهاد والعودة الى فضاء الاسلام الرحب ، وعدم التقيد بقنوات المفسرين والمجتهدين السابقين الضيقة ، فان ابن سعود وجد أن من الخطورة ترك الحبل على غاربه لكل من يريد تفسير الاسلام أو تفسير الوهابية أوحتى نصوص الشيخ محمد بن عبد الوهاب و تنزيلها على الواقع ، و علم أن ذلك سيجر عليه بابا من الفتنة و الشر ، ولذلك قام بمأسسة الوهابية ، أو تأسيس مؤسسة دينية تشبه “المرجعية الدينية الشيعية”  أو “الفاتيكان” أو “اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللينيني”. ولكن مع فارق كبير هو تعيين المؤسسة الدينية الوهابية من فوق ، وعدم انتخابها من القواعد الشعبية. وأصدر تعلمياته القاطعة بضرورة التبعية  للمؤسسة الدينية التي أنشأها ، أو بعبارة أدق لخط مدرسة آل الشيخ في تفسير الوهابية و الاسلام ، وتحريم أي نشاط فكري اسلامي حر خارج هذا الإطار حتى لو كان وهابياً.
وفي هذا الإطار وجه عبد العزيز بن سعود رسالة الى جميع العلماء ، جاء فيها :” .. ما هو بخافيكم (بخافٍ عليكم) أولاً نشأة هذا الأمر وتقويمه من الله ، ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب و أوائلنا رحمهم الله تعالى ، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مراراً ، وكلما  اختلف الأمر و شارف على نقض دين الله و إطفاء نوره أبى الله فأخرج من الحمولتين[1]من يقوم بذلك…
ثم بعد ذلك تفهمون : أن أسباب الشر كثيرة و لا بد  أن يحصل من الناس بعض اختلاف آراء ، أحد يبحث عن المخالفة ، و أحد يبحث عن الترؤس و أحد جاهل يريد الحق ولكنه خفي عليه سبيله فاتبع هواه ، وهذا كله مخالف للشرع.. وتفهمون أنه منذ أظهر الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قرن أطيب من وقتنا و رجال أطيب من رجالنا وعلماء أطيب من علمائنا فسدد الله به و قام بهذه الكلمة وجدد الله به أمر هذا الأصل وأنقذ بأسبابه الناس من الضلالات ، فبان أمره لأولي البصائر وخفي ذلك على كثير من الناس.. وقبل هذا الحق و رضيه آباؤنا وأجدادنا وعلماء المسلمين فيما أتى به من الأصل والفرع ، ويتعين علينا وعليكم إن شاء الله أن نقتدي بما اقتدوا به. وليس بخافٍ عليكم حال هذا الزمان وكثرة الطالب والسائل وقلة البصيرة والفهم ، وليس بخافٍ عليكم اختلاف العلماء في أمور الفروع…
والآن يكون الأمر على مثل ما ذكر المشايخ أعلاه ، فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده: عبد الله وعبد الرحمن وعبد اللطيف وعبد الله بن عبد اللطيف ، فهو متعرض للخطر في دينه و دنياه ، لأنا نعرف أنه لا يخالفهم إلا إنسان يريد الشر والفتنة بين المسلمين.
فأنتم جميعا – علماء المسلمين – التزموا بذلك وقوموا على من خالفه وسمعتم منه مخالفة في قليل أو كثير ، ما قدرتم عليه نفذوه ، وما لم تقدروا عليه ارفعوه إلينا. إلا إن كان هناك إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب والسنة فلا يتكلم حتى يعرض أمره على علماء المسلمين ونعرف حقيقته ، أما المعترض من غير ذلك فذمتنا وذمة المسلمين بريئة منه ويكون معلوما عنده أنه على خطر”.[2]

وكان ابن سعود قد منع (الهجر) من استقبال أي عالم حتى لو كان وهابيا الا ضمن المؤسسة الدينية الموالية له.[3] وحرم الإفتاء أو تفسير القرآن ، أوتأويل النصوص الا في إطار تلك المؤسسة ، وهدد الذين يخالفون بأشد العقاب .[4] وحذر (الإخوان) من أن بعضهم يحاول إخراجهم من الدين ، ونهاهم عن سؤال أحد من العلماء الا الذين يعينهم هو من أمثال: الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ، والشيخ سعد بن عتيق ، والشيخ محمد بن عبد اللطيف ، والشيخ عبد الله العنقري ، والشيخ عبد الله بن سليم ، والشيخ عبد الرحمن بن سالم. وقال لهم: ” من حط عنده طالب علم أو سأل غير هؤلاء المذكورين أو أحدا  يجيزونه من طلبة العلم فأنا بري الذمة منه ولا يأمن العتب أيضا”.[5]

وهكذا تشكلت المؤسسة الدينية الوهابية حسب إرادة الحاكم ،  انطلاقا من مبدأ وجوب الطاعة المطلقة للامام ، ولم تنبثق من إرادة الامة أو الحركة الوهابية الشعبية ، وقد دأب حكام آل سعود على اختيار رجال من آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، لرئاسة المؤسسات الدينية والتعليمية والقضائية ، وحصر مهمة الفتوى فيهم التزاما بالتحالف التاريخي الاستراتيجي بين البيتين (آل سعود وآل الشيخ). وذلك منذ قيام الدولة السعودية الأولى و الى اليوم [6]. ولم يشذوا عن ذلك الا عندما عين الملك فيصل بن عبد العزيز ، بعد وفاة الشيخ محمد بن ابراهيم ، هيئة من 17 عضوا من كبار العلماء ، برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وعندما توفي هذا الشيخ عام 1998 عاد الملك فهد الى القاعدة القديمة وعين الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتيا أكبر ، رغم وجود من هو أعلم وأكبر منه ، التزاما منه بالتقليد السعودي القديم القاضي بحصر الرئاسة الدينية في آل الشيخ.[7]

التبعية للسلطة السياسية

ولأن الحاكم هو الذي يعين العلماء في مناصبهم وهو الذي يرحب بمن يريد ويطرد من يريد ، وهو الذي ينفق عليهم ، ولأنهم كانوا يؤمنون بوجوب طاعة ولي الأمر في كل الأحوال ، فقد افتقدوا حريتهم في النشاط الفكري والاجتهاد ، وغدوا أشبه بالموظفين الذين يتلقون الرواتب والتعليمات من الحكومة ويقومون بما يوكل اليهم من أعمال ، وفقدوا الاستقلالية المحدودة التي تمتعوا بها من قبل ، وأصبح وضعهم  ونشاطهم العام محكوما بأهداف الحاكم . وفقدوا القدرة على ممارسة القيادة والتوجيه للسلطة السياسية أو فرض آرائهم عليها وإجبارها على احترام كلمتهم.
وبالرغم من أن العلماء الوهابيين ( وعلى رأسهم آل الشيخ) كانوا يشكلون المظلة الشرعية للعرش السعودي ، إلا انهم أصبحوا مجرد جماعة ضغط هامشية تمارس نفوذها على بعض النشاطات الحكومية ، و لا تتمتع بدور مستقل و قوي. حيث كان لزاما عليهم أن يؤدوا دورهم وفقا لحاجات الملك ابن سعود وأهدافه السياسية. وإذا كان لديهم رأي معارض فيجب أن يوجهوه إليه سراً وبشكل طلب شخصي غير ملزم بتاتاً.[8]
وقد تجلى ذلك في الثلاثينات والأربعينات ، عندما فتح الملك عبد العزيز أبواب مملكته للأمريكان “الكفار” وسمح لهم بإنشاء قواعد ومنشآت عسكرية في الظهران ، مما أغاض رجال الدين الوهابيين جدا ، ودفع بعضهم للاحتجاج العلني ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يغيروا من السياسية شيئا. فقد وجه المفتي الأكبر الشيخ محمد بن عبد اللطيف رسالة للملك عبد العزيز يعارض فيها سياسة الانفتاح على أمريكا قائلا :” الموجب لهذا هو النصيحة لكم، لأن الله تعبدنا بذلك و أوجبه علينا وحرم علينا الغش والسكوت عن البيان ، وهو أن الله مَنَّ عليكم بهذه الولاية الاسلامية الدينية التي نشأتم عليها وعشتم في ظلها بانتسابكم اليها ، ولكن يا محب.. الواجب عليك حفظ هذه الولاية و رعايتها وإحاطتها عما يشينها ويوجب زوالها.. ولكن دوران هؤلاء الأجانب في ولاية المسلمين بقولهم (معادن) وغير ذلك .. وتمكينهم من التماس المعادن بزعمهم لا يؤمن مكرهم… فالله الله يا إمام المسلمين في حياطة هذه الولاية والقيام بحفظها باطنا وظاهرا لأن الله مستدعيك وسائلك عن رعيتك…
كذلك دوجان (أي: جولان) هؤلاء في نجد تشمئز منه نفوس كل من كان في قلبه رائحة إيمان. والمعهود من أوائلكم رحمهم الله الامام فيصل ومن قبله أئمة هذه الدعوة ، اذا قدم عليهم أجانب تحفظوا منهم وجعلوا في كل مكان عندهم خداما ولا يدوجون (يجولون) في البلد ولا يدخل عليهم أحد.
22/ربيع الأول/ 1355 – 1936 “.[9]

ولكن الشيخ محمد لم يملك أية وسيلة لحمل الملك على تغيير سياسته ، وهو إن أشار عليه بشيء فمن باب الشورى غير الملزمة. وربما كان حال الشيخ محمد أفضل من حال إمام مسجد الرياض الذي أحسَّ بالملك عبد العزيز يصلي خلفه ذات صباح ، فاستغل الفرصة لكي يوجه له نقداً خفياً ويعرّض بعلاقته مع الأمريكان ، فقرأ في صلاته هذه الآية :” ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . قل إن هدى الله هو الهدى ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ، مالك من الله من ولي ولا نصير” . ولم يكمل الإمام صلاته حتى هجم عليه الملك وأطبق بيديه على عنقه و راح يتلو بصوت مرتفع:” قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم و لي دين”. [10]
أما الشيخ عبد العزيز بن باز ، فقد كاد يقدم عنقه ثمنا لكلمة قالها ضد علاقة  الملك عبد العزيز بالأمريكان ، عندما كان قاضيا و واعظا  في الخرج سنة 1364هـ  ( 1944م) ، حيث قام بالتعبير عن رأيه في خطبة أمام الناس ، وقال:” إن الملك خان الأمانة و باع الوطن للأجنبي ، وقد رأيت بعيني الأمريكان يستولون على الأرض و يزرعونها في الخرج ويسخرون العمال السعوديين ويشقون الطرق ويستعملون الماء النفيس كما يحلو لهم … فهل من حق الملك أن يبيع بلادنا وميراث أجدادنا للمشركين؟”.
فأرسل إليه الملك واستقبله محاطاً بالأمراء ورجال البلاط والمستشارين والحرس والعلماء وأعضاء محكمة الشرع العليا ، وقال له:
- إذا كان لديك ما تعترض عليه فقله علانية (أي: أمامي) ، لأن الإسلام يطلب مواجهة الحاكم لا توجيه الاتهامات من خلف ظهره.
فوقف الشيخ وقال أمام الجميع: إن الملك يبيع البلاد والناس للكفار وهذا يخالف التزاماته كحاكم مسلم وحامي الحرمين والمشاعر.
ثم قال له الملك: هل قلت كل ما عندك؟ فأجاب بالإيجاب ، عندها نزل الملك عن العرش وتقدم فوقف إلى جانبه قائلا:
-  أنا لست الآن إلا مجرد مسلم أطلب أن يحكم بيننا بالشرع ، أنا عبد العزيز أطلب من القضاة والعلماء أن يفصلوا فيما بيننا. ثم التفت للعلماء وقال:
-       أفتوني.. هل استخدم النبي غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين؟
ثم استعرض الملك الحالات التي وردت في السيرة ، فرد العلماء بالإجماع.. إن الملك صادق فيما قال. فعاد الملك يسأل: فهل خرجت أنا على الشرع ، إذا اتبعت سنة رسول الله ، واستخدمت خبراء أجانب للعمل لحسابي تحت توجيهاتي لزيادة موارد البلاد ، ويستخرجون لصالحنا المعادن والنفط و الماء وما سخره الله من خير لبلادنا؟
فرد العلماء: انه لم يخطئ
فسأل الملك الشيخ : هل رضيت؟
قال الشيخ: أنا أطيع قرار العلماء ولكن لم يطمئن قلبي
قال الملك: لقد احتكمت للشرع ، وقرر علماء الشرع أنني على حق وأنت المخطئ.. فإذا لم تعتذر خلال 24 ساعة فسوف أقطع عنقك.
وأخذ الشيخ تحت الحراسة. وانفض المجلس.[11]
ان القضية لم تكن قضية استعانة ببعض الخبراء الأجانب ، ولكنها كانت قضية تبعية وتحالف استراتيجي مع الغرب والولايات المتحدة الامريكية بالخصوص ، ولذلك كانت تستثير المعارضة والاحتجاج من قبل العلماء الوهابيين قبل غيرهم. ولكن لم يكن هناك مجلس للشورى يستطيع العلماء فيه محاسبة الحاكم بصورة قانونية أو يفرضوا عليه سياسة معينة ، وبالتالي فان علاقتهم مع الحاكم كانت شخصية و مزاجية ، ولذلك افتقد العلماء قوة الضغط التي تتيح لهم فرض آرائهم واقتراحاتهم ، أو إلزام الملك والسلطة التنفيذية بما يقترحون ، واضطروا لقبول استثناء آل سعود من سلطة الشريعة الاسلامية.[12]



[1]  - (آل الشيخ وآل سعود)
[2]  - التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 520
[3]  - التويجري ، لسراة الليل ، ص 398
[4]  - التويجري ، لسراة الليل ، ص 388
[5]  - التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 476
[6] -  فقد ورث الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أبناءه عبد الله ( الذي كان مرجعا في عهد عبد العزيز وسعود وعبد الله) و حسن ، ثم ورث هذا ابنه عبد الرحمن (الذي اصبح مرجعا للدولة السعودية الثانية ، أيام تركي بن عبد الله وفيصل بن تركي )، ثم ورثه ابنه عبد اللطيف (الذي أصبح مرجعا لفيصل) ، ثم ورثه ابنه عبد الله  ، (الذي أصبح مرجع الدولة السعودية الثالثة من عام 1902 الى وفاته عام 1921 ) ، ثم ورثه الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ الذي أصبح مرجعا للدولة من عام 1922 الى عام 1932 ثم ورثه الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ الذي أصبح مرجعا أعلى حوالي أربعين عاما من عام 1932  الى 1969 م
وقد كان هذا الشيخ يتولى 18 منصبا دينيا وقضائيا وتعليميا واداريا من الافتاء الى رئاسة الكليات والمعاهد الدينية والتعليمية الى رئاسة المجلس الأعلى للقضاء ، ويعينه أبناؤه ابراهيم وعبد العزيز واخوانه عبد الملك وعبد اللطيف وابن عمه الشيخ عمر بن حسن والشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز والشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ .راجع: أنور عبد الله ، العلماء والعرش 346

[7]  -  يبلغ عدد أمراء آل سعود حوالي 6000 رجل ، وكذلك عدد رجال آل الشيخ ، ويشكلون معا النخبة الحاكمة وهم مرتبطون ببعضهم عبر علاقات الزواج وصلات النسب . يماني ، مي: هويات متغيرة ، ص  66 – 67


[8]  - دأب عبد العزيز بن سعود على دعوة بعض العلماء أسبوعيا ، والاجتماع معهم لاستماع وجهات نظرهم بصورة سرية .وكان يقول لهم : ” من رأى منكم شيئا مخالفا ، فليوضحه لي وليرشدني إلى الطريق الحق ، ولكن كما قال عمر بن الخطاب لمن أراد أن ينصحه : ( فليكن ذلك بيني وبينك)” .
[9]  - التويجري ، عبد العزيز ، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 378
[10]  - كشك، محمد جلال ، السعوديون والحل الإسلامي ، ص 429
[11]  - كشك ، محمد جلال ، السعوديون والحل الإسلامي: 64-65
[12]  - لم يحدث خلال تاريخ الملك عبد العزيز أن استمع أو نزل عند إرادة العلماء سوى بضع مرات فقط وفي قضايا شكلية ثانوية ، وذلك عندما احتج العلماء على محاولاته للاحتفال بعيد العرش عام 1930م و1950م ، بعد أن اعتبروا الاحتفال بذلك بدعة يجب الاستغفار منها ، فتنازل الملك وألغى الاحتفالات.(كشك ، السعوديون والحل الإسلامي 78 و أنور عبد الله ، العلماء والعرش 259  و261 و الزركلي، شبه الجزيرة العربية 744 ) ، وكذلك فعل ابنه فيصل سنة 1965 ، وقد قبل رجال الدين الوهابيون استثناء العائلة المالكة من تطبيق الشريعة الاسلامية ، حيث لم يطبق أي  حكم شرعي عليهم منذ حادثة الأمير ناصر بن عبد العزيز ، أمير الرياض في الأربعينات ، الذي أقام حفلا مسكرا في بيته ، في شهر حزيران عام 1947 فمات سبعة أشخاص بالتسمم الكحولي ، فطالب رجال الدين بتطبيق القصاص على الأمير الشاب ، ولكن الملك توصل معهم الى الحل التالي وهو إعفاء الأمير ناصر من منصب إمارة الرياض او أحتلال أي منصب رسمي داخل الدولة أو اعتلاء العرش في المستقبل ، وطلب الملك من كبار العلماء عدم إحالة أبنائه الى محاكم القضاء كبقية العامة من الناس حفاظا على هيبة الحكم وسمعة الأسرة المالكة ، وإخضاعهم لمحاكم ملكية خاصة تحت إشراف الملك نفسه أو من يمثل العائلة المالكة. ويبدو ان العلماء وافقوا على أن يتولى الملك هذه المهمة في ما يخص عائلته أو من يمت له بصلة القربى. أو في الحقيقة قبلوا باستثناء العائلة المالكة من قوانين الشريعة الاسلامية وتعطيل حدود الله ، كما يدل على ذلك التساهل مع الأمير مشاري بن عبد العزيز الذي اعتدى على زوجة نائب القنصل البريطاني وقتل زوجها عام 1951 واختبائه في بيت أخيه فيصل حتى وفاة أبيه عام 1953 ، وكذلك  قيام الأمير محمد بن عبد العزيز بقتل حفيدته التي هربت مع خطيبها ، خلافا للنصوص الشرعية التي تأمر فقط بجلد الزانية غير المحصنة ، لأن الأميرة لم تكن محصنة عند هروبها مع خطيبها . ومع ذلك قتلت هي وخطيبها علنا وعلى الطريقة الجاهلية (غسل العار) ولم يعترض العلماء على هذا الحكم الجائر التزاما منهم بالاتفاق التاريخي الذي يعفي آل سعود  من  تطبيق الشريعة الاسلامية.(  عبد الله ، أنور : العلماء والعرش ، ص 270 و 295 – 297)

لاعتزال السياسي

ولم يكن علماء المؤسسة الدينية الوهابية يتدخلون في الحياة السياسية العامة الا عندما يطلب النظام منهم ذلك لحمايته أو الدفاع عنه ، وقد جرت العادة أن يمنحهم الحاكم دوراً بارزاً في الظروف الحرجة عندما يحتاج الى الشرعية الدينية ، و يدفعهم الى الهامش  عندما يستغني عنهم أو يتعارض موقفهم مع موقفه. ولذلك كان يغلب عليهم طابع التبعية والتسليم ، والانسحاب السياسي وترك الامور للحاكم يفعل ما يشاء ، انطلاقا  من مقولة:( من السياسة ترك السياسة) و (أنه ما دام الشرع مطبقاً والملك محافظاً على الأركان الخمسة للاسلام والعلماء قائمين بأمور الدين كما ينبغي دون مضايقات او تهاون فلا تجوز محاسبة امام المسلمين لئلا تكون فتنة) .[1]
وعلى رغم احتلال رجال الدين الوهابيين مكانة واسعة في صفوف الشعب من خلال إمامة الجمعة و الجماعة في أحد عشر ألف مسجد في المملكة العربية السعودية ،  ودوائر القضاء والتعليم الديني ، وقدرتهم على حشد الجماهير ضد سلطة آل سعود أو سياساتهم الاستبدادية و المنحرفة ، إذا ما أرادوا ، الا انهم ظلوا دائما محافظين على ولائهم للنظام . وقد مرت على السعودية فترات كان يمكنهم فيها ان يلعبوا دورا كبيرا في إصلاح النظام أو تغييره وإحداث ثورة جذرية فيه ، ولكنهم اصطفوا الى جانب النظام ودافعوا عنه بقوة ، بدءا من حادثة تمرد (الإخوان) في العشرينات من القرن الماضي ، ومرورا بحادثة احتلال الحرم المكي في نهاية السبعينات[2] ، وحرب الخليج الثانية في بداية التسعينات ، وانتهاء بقضية ابن لادن والهجوم الأمريكي على أفغانستان و حركة طالبان عام 2001، حيث كان للقاعدة الوهابية في كل تلك القضايا مواقف تختلف كثيرا عن مواقف النظام السعودي ، وكان يمكن للعلماء ان يقودوا الجماهير في مواجهة النظام أو يجبروه على اتخاذ مواقف مسايرة لهم ، ولكنهم آثروا دعم المواقف الرسمية والتنديد بمخالفيها ، مما قلص مهمة العلماء الدينية الى القيام بدور الحاضن و الخادم للنظام والمخدر للأمة. [3]
وفي مقابل ذلك كان  النظام السعودي يضخ الى المؤسسة الدينية أموالا طائلة لبناء  المدارس والمساجد والمشاريع بهدف إغنائها ماليا وإفقارها فكريا والقضاء على روحها الاستقلالية . وعندما كان أحدهم  يبادر الى الخروج عن إرادة الحاكم فانه يُفصل بسرعة أو يتم تجميد عضويته في هيئة كبار العلماء .[4]



[1]  - وقد برر الشيخ ابن باز استعانة المملكة العربية السعودية بالقوات الاجنبية (الامريكية والبريطانية وغيرها) لمحاربة العراق قائلا :” أما ماحصل من الحكومة السعودية لأسباب الحوادث المترتبة على الظلم الصادر من رئيس دولة العراق لدولة الكويت ومن استعانتها بجملة من الجيوش التي حصلت من أناس متعددة من المسلمين وغيرهم لصد العدوان والدفاع عن البلاد فذلك جائز بل تحكمه الضرورة  ، فهي معذورة في ذلك ومشكورة على مبادرتها”.( مجلة إقرأ ، العدد 779 بتاريخ 23/8/1990 ) وكذلك أصدر  مجلس هيئة كبار العلماء بيانا يؤيد ما اتخذه “ولي الأمر” من استخدام قوات أجنبية.( عبد الله، أنور ، العلماء والعرش ، ص 392 )
ووقف كبار رجال الدين في السعودية موقفا صامتا من ضرب حركة طالبان في أفغانستان ، بواسطة قوات التحالف الدولي عام 2001 ، بعد لجوء أسامة بن لادن اليها ومباركته لعملية الهجوم على مبنى التجارة الامريكي ووزارة الدفاع الامريكية في 11 أيلول من ذلك العام ، بينما  لم يعارض ذلك سوى  الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي الذي أدان الهجوم على أفغانستان وطالب بنصرتها واعتبر تأييد الهجوم الأمريكي عليها ردة وكفرا بالله ،  مما دفع الحكومة السعودية  الى إخراجه من هيئة  كبار العلماء ومطالبته بالكف عن الإفتاء.
[2]  - أصدر الشيخ ابن باز بيانا مهما حسم تردد الكثير من أفراد القوات المسلحة في التصدي لحركة جهيمان العتيبي الذي احتل المسجد الحرام  عام 1979 ، جاء فيه:”كيف يجوز له الخروج على دولة قائمة قد اجتمعت على رجل واحد وأعطته البيعة الشرعية ، فيشق عصاها ويفرق جمعها؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه:  ( من أتاكم وأمركم جميع يريد ان يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان) خرجه مسلم. ولما بايع النبي (ص) أصحابه بايعهم ( ان لا ينازعوا الأمر أهله ، الا ان تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها. ويحتج في هذا المقام بحديث : ( من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا عن طاعة ، فان من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية) وبذلك تدخل هذه الطائفة تحت قوله عز وجل: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، أولئك ما كان لهم ان يدخلوها الا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم) ويحتج بحديث: ( من حمل علينا السلاح فليس منا) لتجريم (الاخوان) لأجل اطلاقهم النار على رجال الأمن الذين أرادوا حماية المسلمين من شرهم”. مجلة البحوث الاسلامية ، السعودية (العدد الاول من المجلد الثاني ) بعنوان : (حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر).
[3]  -  دعا  المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن باز ، في كلمة له ألقاها في الحفل الختامي للدورة الشرعية الخامسة للدعاة العاملين بمكاتب الدعوة بالمملكة ، والتي تشرف عليها وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الى قمع حركة المعارضة السعودية ، حتى على المستوى الإعلامي ، وسمى الذين ينتقدون النظام  بدعاة الهدم والضلالة ، وحذر منهم قائلا:” أوصي بالحذر من دعاة الهدم ، من دعاة الضلالة ، مثل  ( المسعري ) وأشباهه ومن يتعاون معه على التخريب والفساد وتضليل الناس ، هذا شر عظيم وفساد كبير …فيجب القضاء على هذه النشرات ، والتحذير منها ، وإتلافها مهما كانت” وطالب بدلا من توجيه النقد لولاة الأمور ، التعاون معهم في الخير والدعاء لهم بالهداية والتوفيق وأن الله يعينهم على الخير وأن يهديهم ويصلح لهم البطانة وأن يوفقهم لإقامة الحق. وقال:”هكذا المصلح .. يدعو لهم بالخير ويشكرهم على الخير ، يشكرهم على ما بذلوه من الخير ، يدعوهم إلى الاستقامة ، وإلى صلاح البطانة والحذر من أهل السوء ، ويدعو إلى إزالة المنكرات ، يدعو إلى إزالتها ، بالكلام الطيب ، والأسلوب الحسن ، والنصيحة لولاة الأمور والعلماء ، مع الدعاء لهم بالتوفيق ، يقول لهم : تواصوا ، تناصحوا في ذلك ، أرشدوا الناس جزاكم الله خير ، وفقكم الله . هكذا تكون النصيحة ..بالكلام الطيب ، بالرفق ، والدعاء لهم بالتوفيق ، والدعاء لهم بحسن العاقبة ، والدعاء لهم بالفقه في الدين وصلاح البطانة”.  وأكد توصياته ثانية:” من الواجب على الرعية مساعدة الدولة في الحق والشكر لها على ما تفعل من خير والثناء عليها بذلك . يجب عليهم معاونة الدولة في إصلاح الأوضاع فيما قد يقع فيه شيء من الخلل بالأسلوب الطيب وبالكلام الحسن لا بالتشهير وذكر العيوب في الصحف وعلى المنابر ولكن بالنصيحة وبالمكاتبة والتنبيه على ما قد يخفى حتى تزول المشاكل وحتى يحل محلها الخير والإصلاح وحتى تستقر النعم ويسلم الناس من حدوث النقم”. (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز – الجزء السابع)
وحذر من الفاكسات والأشرطة “الخبيثة” التي تدعو الى الفرقة والاختلاف وسب ولاة الأمور والعلماء ، وقال: إنها من أعظم المنكرات . واتهم المعارضين ” الذين أرسلوا الكثير من الأوراق الضارة المضلة ، والمفرقة للجماعة من جنس محمد المسعري ومن معه ، بأنهم حاقدون وجاهلون باعوا دينهم وباعوا أمانتهم على الشيطان” وأمر بإتلاف ما يأتي من هذه الأوراق ؛ لأنها شر وتدعو إلى الشر ” وقال: ان النصيحة تكون بالثناء على ما فعل من الخير ، والحث على إصلاح الأوضاع ، والتحذير مما وقع من الشر. (مجلة  الدعوة  في عددها الصادر يوم الخميس 19 / 12 / 1415هـ  )
[4]  - كما حدث للشيخ عبد الله بن قعود والشيخ حمود بن عقلا الشعيبي  وغيرهما ممن احتج على الاستعانة بالأجانب للدفاع عن المملكة ، أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991

التصدي للديموقراطية

وقد قامت المؤسسة الدينية الوهابية بدعم ديكتاتورية آل سعود ، انطلاقا من الفكر السياسي الوهابي السلفي الذي يحث على طاعة الحكام طاعة مطلقة في جميع الأحوال ، ومن منطلق  الشعور بالأقلية في مواجهة الطوائف والتيارات والأحزاب الأخرى التي تشكل غالبية الشعب السعودي ، والرافضة للوهابية ولآل سعود .
فمن ناحية كانت الوهابية ترفض الشورى والديموقراطية لأنها ترفض الاعتراف بوجود (الأمة المسلمة) الواسعة ، إذ أنها كانت تعتقد “أن عامة المسلمين هم كفار ومشركون” أو”منحرفون ضالون” على الأقل حسب التفسير الوهابي الجديد ، وأن الوهابية تشكل “الفرقة الناجية الوحيدة التي تسير على هدى السلف الصالح” و ترفض  مشاركة الأمة السياسية ، بحجة تفشي الجهل بالاسلام بين الناس.[1]
وبما ان عملية الشورى أو الديموقراطية تقوم على مبدأ حكم الاكثرية والتعددية السياسية ، فان رجال الدين الوهابيين ردوا هذا المبدأ بقوة ، واعتبروه منافياً للدين ، و رفضوا مبدأ الاحتكام الى الاكثرية المعمول به في الحياة الديموقراطية ، من منطلق: ” ان الجماعة هم أهل الحق وان قلوا” و “عدم شرعية الاكثرية دائماً”. [2] و خاصة عندما تكون الأقلية وهابية والأكثرية غيرها.
يقول الدكتور عدنان علي رضا النحوي ، في معرض رفضه للديموقراطية :  ان “الجماعة” المقصودة  هي الفئة التي تتبع الحق البين ، ولو كان عددها الأقل. فلا يصح الاستدلال بلفظ “الجماعة” للدلالة على الكثرة ، فهي في عصر كثرة وفي عصر آخر قلة . ثم التزام الجماعة يقصد به التزام الحق البين وعدم الانفراد بهوى أو شهوة. انه التزام العقيدة والدين.[3] و ان لفظ الجماعة لا تقضي بالكثرة دائما ، ولا علاقة لها بالأكثرية والأقلية في مجال الشورى والرأي [4]. وان الحق لا يقرر بالعدد: أكثرية أو أقلية ، أنه يقرر بالعقيدة والدين والمنهاج المتكامل الحق ، كما يقول الحديث الصحيح: (انما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) .. الحق لا يقرر بالكثرة الغالبة حتى ولو كانت من المسلمين ،  فقد تخلف الناس عن منهاج الله وطويت المواهب والقدرات واختلطت المعادن واضطربت المنازل وقتلت العزائم ، وجف العلم والفقه [5].
ويقول أبو محمد عاصم المقدسي (زعيم الحركة الوهابية في الأردن):”الديموقراطية تعتبر الشعب أعلى سلطة في الوجود وهي حكم أكثرية الشعب  … أما في الشورى فالشعب أو الأكثرية هي الملتزمة المأمورة بالسمع والطاعة لله ولرسوله ثم لإمام المسلمين ، ولا يُلزم الامام برأي الأكثرية ولا حكمها ، وانما الأكثرية مأمورة بالسمع والطاعة للأئمة وإن جاروا ما لم يأمروا بمعصية”.[6]
وهو ما يؤكده الدكتور النحوي بقوله: “  ان الاكثرية والأمة.. كلها عليها السمع والطاعة وعليها النصح والمشورة ، وفي عنقها بيعة ، وهي خاضعة كلها لمنهاج رباني يحكمها. وأما في الديموقراطية فتكاد تكون الصورة مقلوبة ، فان المسؤول هو عليه السمع والطاعة تقريبا، ولا منهاج يحكم أحدا ، الا ما يقرره الشعب”.[7] و “اننا نشعر بأهمية المسؤولية حين نستعرض أحاديث البيعة وأحاديث السمع والطاعة :
1-              في العسر واليسر
2-              في المنشط والمكره
3-              على الأثرة (وعلى أثرة فينا)
4-              ألا ننازع الأمر أهله
5-              فيما نحب ونكره
6-              ما لم يؤمر بمعصية ، أو الا ان تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان.
7-              فيما استطعتم
8-              وإن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله”.[8]
ولذلك يتساءل الدكتور النحوي باستغراب: هل نجد في الديموقراطية ما يقابل هذا او يناظره؟ وهل تنظر الديموقراطية الى المسؤولية بهذا المستوى؟ و اذا كنا نتهم المسؤول قبل تحديده وتعيينه وقبل معرفته و ولايته ، فلماذا نوليه أمرنا ونعطيه ثقتنا ثم نعطيه عهدنا على السمع والطاعة ونبايعه بيعة الإيمان؟ [9]

وبناء على ذلك اعتبر الوهابيون الديموقراطية نفسها كفراً بواحاً وشركاً صريحاً ” لأنها تقوم على أساس شعار (الحكم للشعب) الذي يتعارض جذريا مع نص القرآن بأن الحكم لله”. [10] وقال بعضهم:” بأن الديموقراطية دين غير دين الله وملة غير ملة التوحيد وإن مجالسها النيابية ليست الا صروحاً للشرك ومعاقل للوثنية يجب اجتنابها لتحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، وكما لا يجوز مزج اليهودية أو المسيحية بالاسلام ، كذلك لا يجوز مزج الديموقراطية بالاسلام”.[11]

وقد رفض الوهابيون الديموقراطية ، إضافة لذلك ، لأنها تنطوي على مبدأ محاسبة الأمة للحاكم وتبادل السلطة وفصل السلطات، وهو ما يتناقض مع مبدأ وجوب الطاعة المطلقة للحاكم في الفكر السياسي الوهابي ، حيث يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأصل الثالث من (الأصول الستة):”إن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدا حبشيا”.
ولا يفرق الوهابيون بين الدعوة الى إسقاط الحاكم بالطرق العسكرية أو تغييره بالطرق السلمية الديموقراطية ، فكل ذلك في نظرهم يخالف مبدأ الطاعة المطلقة المطلوبة من الناس .كما يرفضون مجرد توجيه النقد علنا الى الحكام “لأنه يؤدي الى الثورة “  وقد قال الشيخ عبد  العزيز بن باز :” ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة ، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف ، و يفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع ، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف : النصيحة فيما بينهم وبين السلطان ، والكتابة إليه ، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير . ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه : قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه : ألا تكلم عثمان؟ فقال : إنكم ترون أني لا أكلمه ، إلا أسمعكم؟ إني أكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه .
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علنا عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم ، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية ، وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك ، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني ، وذكر العيوب علنا ، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه ، وقد روى عياض ابن غنم الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه [12].
وقد رفض الفكر السياسي الوهابي التعددية الحزبية والسياسية بدعوى : عدم جواز التحزب لأنها بيعة بدعية منافية لبيعة السلطان وسبب من أسباب التفرق. كما رفض ممارسة عملية الولاء والبراء والهجر والمقاطعة في داخل صفوف المجتمع الا بإذن ولي الأمر والحاكم الشرعي. [13]



[1]  - النحوي : الشورى لا الديموقراطية ، ص 40
[2]  - بناء على تفسيرهم الخاص لهذه الآيات القرآنية الكريمة:” وان كثيرا من الناس لفاسقون . ولكن كثيرا منهم فاسقون. وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون. ولكن أكثر الناس لا يشكرون. وان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله. انه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولكن أكثر الناس لا يشكرون. وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. فأبى أكثر الناس الا كفورا”.
[3]  - النحوي ، عدنان علي رضا : الشورى لا الديموقراطية ، دار النحوي للنشر والتوزيع – الرياض الطبعة الرابعة 1992، ص 99
[4]  - النحوي : الشورى لا الديموقراطية ، ص 102
[5]  - النحوي : الشورى لا الديموقراطية ، ص 105
[6]  - المقدسي ، أبو محمد عاصم : الديموقراطية دين ، ص 24
[7]  - النحوي : الشورى لا الديموقراطية ، ص 108
[8]  - النحوي : الشورى لا الديموقراطية ، ص 59
[9]  - النحوي : الشورى لا الديموقراطية ، ص 88   وهنا يتناسى النحوي أن الفكر السياسي الوهابي يعترف بحكومة القاهر المتغلب و الظالم والفاسق ، ولا يشترط العدالة والتقوى والأمانة في الحاكم ، ولذلك فانه عندما يرفض المحاسبة والمراقبة لهكذا حاكم ولكل حاكم فانه يوفر له حرية مطلقة في التصرف في الأموال والنفوس والأعراض ومصائر الأمة.
[10]  - النحوي : الشورى لا الديموقراطية ، ص 42-50 و52
[11]  - المقدسي ، أو محمد عاصم : الديموقراطية دين ، ص 2
[12]  - الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية ، 255-256
[13]  -  بيان هيئة كبار العلماء (1- الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف  2 – حسن بن حسين 3- عمر بن محمد بن سليم 4- سعد بن حمد بن عتيق  5- عبد الله بن عبد العزيز العنقري 6 – سليمان بن سمحان 7- محمد بن عبد الطيف 8- عبد الله بن بليهد 9 – عبد الرحمن بن سالم )  بتاريخ  10 ذي القعدة 1332هـ
رفض تكفير الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله

وفي الوقت الذي كان كبار علماء المؤسسة الوهابية الجديدة يكفرون حكاماً عرباً و مسلمين بالتعيين و طوائف كبيرة من المسلمين على العموم [1]، لأسباب سياسية ، فانهم كانوا يتساهلون في إطلاق أحكام التكفير على حكام آل سعود او حكام الخليج الذين لا يحكمون بما انزل الله ، فبالرغم من تركيز الحركة الوهابية  على موضوع التوحيد ، وتوحيد الطاعة والعبادة والالتزام بقوانين الشريعة الاسلامية ، و اعتبار العمل بغير ما أنزل الله شركاً وكفراً  أعظم ناقلاً عن الملة.[2] ولكن علماء المؤسسة الوهابية الجديدة ، وجدوا أنفسهم في ظل سيطرة النظام السياسي واختلال موازين القوى ، مضطرين للقيام بتفسير جديد لمفهوم الشرك والتوحيد ، يختلف عن التفسير الوهابي القديم ، وخاصة مفهوم الشرك في الطاعة ، والحكم بغير ما أنزل الله ، من أجل تبرئة الحكام المنحرفين الرافضين للعمل بالشريعة الاسلامية ، أو الموالين للكفار ، و وضع شروط ومخارج جديدة لصرف تهمة التكفير عنهم .فقد قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني :”إنه لا يجوز لأحد من الناس أن يُكفّر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرّد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه”. وعقب  المفتي السابق للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز ابن باز ، على كلامه مؤيداً : “لا شك أن ما ذكره في جوابه من تفسير قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)… هو الصواب “. و أوضح المفتي :” أن الكفر كفران أكبر وأصغر ، كما أن الظلم ظلمان أكبر وأصغر ، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفراً أكبر ، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفراً أصغر وظلمه ظلماً أصغر وهكذا فسقه”.[3]
وأصدرت اللجنة الدائمة للأبحاث والإفتاء فتوى برقم 5741  حول موضوع تكفير من لم يحكم بما أنزل الله، وهل هو مسلم أو كافراً كفراً أكبر ولا تُقبل أعماله ؟ فقالت :”  قال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)  لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كافر كفراً أكبر يخرج عن الملة ، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر لا يخرجه عن الملة كما أوضح أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة”.
وقال الشيخ ابن باز أيضا :من قال أنا أحكم بهذا وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز ، ويقول الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل ، ولكنه متساهل أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفراً أصغر لا يخرج من الملة ، ويعتبر من أكبر الكبائر.
وسُئل : ما حكم سنّ القوانين الوضعية ؟ وهل يجوز العمل بها ؟ وهل يكفر الحاكم بسنّه لهذه القوانين ؟ فعلق الحكم بالتكفير على الاستحلال وقال: إذا سنّ قانوناً معناه لا حدّ على الزاني ، ولا حدّ على السارق ، ولا حدّ على شارب الخمر ، فهذا باطل ، وهذه القوانين باطلة ، وإذا استحلها الوالي كفر ، إذا قال إنها حلال  ولا بأس بها ، فهذا يكون كفراً ، من استحلّ ما حرّم  الله كفر.
وقال في جواب آخر: الحكام بغير ما أنزل الله أقسام ، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم ، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين ، وهكذا من يُحكّم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائز ، ولو قال : إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر ، لكونه استحل ما حرّم الله. أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه ، أو لأسباب أخرى ، وهو يعلم أنه عاص لله بذلك ، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله ، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر ، ويعتبر قد أتى كفراً أصغر ، كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن طاووس وجماعة من السلف الصالح ، وهو المعروف عند أهل العلم ، والله ولي التوفيق.[4]
وقال الشيخ  محمد بن صالح بن عثيمين :” وليعلم أنه يجب على الإنسان أن يتقى ربه فى جميع الأحكام فلا يتسرع فى البت بها خصوصا فى التكفير الذى صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا روية ، مع أن الإنسان إذا كفر شخصا ولم يكن الشخص أهلا له عاد ذلك إلى قائله. وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة فيكون مباح الدم والمال ويترتب عليه جميع أحكام الكفر ، وكذا يجب أن لا نجبن فى تكفير من كفره الله ورسوله ولكن يجب أن نفرق بين المعين وغير المعين فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين:
1-              ثبوت أن هذه الخصلة التى قام بها مما يقتضى الكفر.
2-              انطباق شروط التكفير عليه ، وأهمها العلم بأن هذا مكفر فإن كان جاهلا فإنه لا يكفر…ولابد مع توفر الشروط من عدم الموانع فلو قام الشخص بما يقتضى الكفر إكراها أو ذهولا لم يكفر”.[5]
وقال الشيخ ابن عثيمين : القول بالتكفير أو عدمه في مثل هذه الأمور يحصل فيه مفاسد والذي أرى أولاً أن لا يشتغل الشباب في هذه المسألة وهل الحاكم كافر أو غير كافر وهل يجوز أن نخرج عليه أو لا يجوز ، على الشباب أن يهتموا بعباداتهم التي أوجبها الله عليهم أو ندبهم إليها وأن يتركوا ما نهاهم الله عنه كراهة أو تحريما وان يحرصوا على التآلف بينهم والاتفاق وان يعلموا أن الخلاف في مسائل الدين والعلم قد جرا في عهد الصحابة رضي الله عنهم ولكنه لم يودي إلى الفرقة و إنما القلوب واحدة والمنهج واحد.
أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما انزل الله فهو كما في الكتاب العزيز ينقسم إلى ثلاثة أقسام كفر وظلم و فسق على حسب الأسباب التي بني عليها هذا الحكم :
1-              فإذا كان الرجل يحكم بغير ما انزل الله تبعا لهواه مع علمه بأن الحق فيما قضى الله به فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم.
2-              و أما إذا كان يشرع حكما عاما تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لبس عليه فيه فلا يكفر أيضا لأن كثيرا من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي وهم يرونه عالما كبيرا فيحصل بذلك المخالف.
3-              وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستورا يمشي الناس عليه يعتقد انه ظالما في ذلك وان الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فأننا لا نستطيع أن نكفر هذا.وإنما نكفر من يرى أن حكم غير الله أولى أن يكون الناس عليه أو مثل حكم الله فإن هذا كافر.
وقد اتهم الشيخ ابن عثيمين الذين يكفرون الحكام المسلمين “من غير ضوابط أو شروط “  بأنهم ورثة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب  ، وقال: ان الكافر من كفّره الله و رسوله، و للتكفير شروط؛ منها العلم، و منها الإرادة ؛ أن نعلم بأن هذا الحاكم خالف الحق و هو يعلمه، و أراد المخالفة، و لم يكن متأولاً. المهم هذا له شروط، و لا يجوز التسرع في التكفير ، كما لا يجوز التسرع في قولك: هذا حلال و هذا حرام.[6]
وعلى رغم أن الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ، ألف كتابا حول (التوحيد وحاكمية الله) ، وكفر فيه الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله ويزيحون الشريعة ويجعلون مكانها القانون ، الا أنه رفض الحكم بكفر حكام الخليج أو حاكم بعينه ، وقال بوجود فرق بين الحكم العام وبين التعيين. واعتبر من يكفر الحكام بأعيانهم من أهل الهوى والفتنة.[7]
وهكذا أغلق علماء المؤسسة الوهابية الجديدة بوابة التكفير ضد الحكام ، وهي البوابة الوحيدة المشروعة للثورة في الفكر السياسي الوهابي ، و ذلك بنفي تهمة الكفر الصريح عمن لا يلتزم بالشريعة الاسلامية ولا يحكم بما أنزل الله.[8]




[1]  -  كما حدث مثلاً  عام 1982 عندما انتقد الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي سياسة الملك خالد بن عبد العزيز ، فتصدى له مجلس هيئة كبار العلماء وأصدر بيانا طويلا جاء فيه :” أن القذافي كافر ملحد وضال مضل”. جريدة الرياض بتاريخ 11/5/1402 و أنور عبد الله ، العلماء والعرش ص 385 ، وكما حدث عام 1991 عندما احتل الرئيس العراقي صدام حسين الكويت ، وأعلنت السعودية الحرب عليه ، حيث قام ابن باز بتأييد الحرب وأصدر بيانا قال فيه:” ان الله سبحانه وتعالى أمر بقتال الفئة التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله ، فكيف اذا كانت الفئة الباغية غير مسلمة بل ملحدة وباغية ، فهنا قتالها أوجب وأحقّ”. عبد الله ، أنور ، العلماء والعرش صفحة 394 ، ولم يتورع مشايخ الوهابية الرسمية الكبار من تكفير طائفة الشيعة بصورة عامة عندما توترت العلاقة بين السعودية وإيران ، أثناء الحرب العراقية الإيرانية ، حيث  أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وعضوية المشايخ عبد الله بن قعود وعبد العزيز بن غديان ، وعبد الرزاق عفيفي ، فتوى تحت رقم 1661 بتكفير الشيعة بصورة عامة ، ثم  أصدر الشيخ عبد الله بن جبرين فتوى مماثلة  تحت رقم 2008  بتاريخ 12/3/1412  ورد فيها ما يلي:  ” ان الشيعة مشركون شركا أكبر يخرج من ملة الاسلام وانهم مرتدون ، وانهم غلاة ، وانهم منافقون. وبناء على ذلك فقد تقرر ما يلي: أ – حرمة ذبائحهم.  ب – حرمة الزواج منهم. ج – رفض دعاواهم في الأخوة الاسلامية”. و أصدر الشيخ ناصر الدين الألباني عام 1987  من عمان فتوى بتكفير الامام الخميني.


[2]  -  وهذا ما نجده مثلاً في كتاب: (رسالة تحكيم القوانين) للمفتي الأسبق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، الذي قال فيه:” إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا). وان هذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب والناس إليها أسراب إثر أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمله عليهم ، فأي كفر فوق هذا الكفر وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟”.  ص 20 –21
[3]  - جريدة الشرق الأوسط  عدد(6156)  بتاريخ 12/5/1416 هـ
[4]  - نقلا عن ساحات الحوار للشيخ د.عبدالله الفارسي
[5]  - بن عثيمين:القول المفيد:ج3 ص 268-271
[6]  - فتوى الشيخ العثيمين  صدرت في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول عام 1420هـ
[7]  -  الرابط الصوتي للفوزان: http://mypage.ayna.com/omar_salafi/Fouzan01.rm
[8]  -  ولكن هذا الموقف الرافض للتكفير لم ينسحب على طائفة الشيعة مثلا ، إذ استمر بعض كبار   رجال الدين الوهابيين بتكفير الطائفة على العموم ، بأدلة واهية ، كما فعل الشيخ عبد العزيز بن باز ، الذ ي قال في 22 / 1 / 1409 هـ  فتوى رقم 136 / 1  :”ان الشيعة فرق كثيرة وكل فرقة لديها أنواع من البدع وأخطرها فرقة الرافضة الخمينية الاثني عشرية لكثرة الدعاة إليها ولما فيها من الشرك الأكبر كالاستغاثة بأهل البيت واعتقاد أنهم يعلمون الغيب ولا سيما الأئمة الاثني عشر حسب زعمهم ”
http://www.ibnbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=1317
وكما فعل الشيخ عبد الله بن جبرين عندما استفتاه شخص عن حكم ذبح الشيعة ، بتاريخ 22-3-1412 فقال:” يوجد في بلدتنا شخص رافضي يعمل قصاب ويحضره أهل السنة كي يذبح ذبائحهم وكذلك هناك بعض المطاعم تتعامل مع هذا الشخص الرافضي وغيره من الرافضة الذين يعملون في نفس المهنة . . . فما حكم التعامل مع هذا الرافضي وأمثاله ؟ وما حكم ذبحه ؟ وهل ذبيحته حلال أم حرام ؟ أفتونا مأجورين والله ولي التوفيق” . فأجابه بما يلي:”…فلا يحل ذبح الرافضي ولا أكل ذبيحته ، فإن الرافضة غالبا مشركون ، حيث يدعون علي بن أبي طالب دائما في الشدة والرخاء ، حتى في عرفات والطواف والسعي ، ويدعون أبناءه وأئمتهم كما سمعناهم مرارا ، وهذا شرك وردة عن الإسلام يستحقون القتل عليها ، كما يغلون في وصف علي رضي الله عنه ، ويصفونه بأوصاف لا تصلح إلا لله كما سمعناهم في عرفات ، وهم بذلك مرتدين ، حيث جعلوه ربا وخالقا ومتصرفا في الكون ويعلم الغيب ويملك الضر والنفع ونحو ذلك ، كما أنهم يطعنون في القرآن الكريم ويزعمون أن الصحابة حرفوه وحذفوا منه أشياء كثيرة تتعلق بأهل البيت وأعدائهم فلا يقتدون به ولا يرونه دليلا . كما أنهم يطعنون في أكابر الصحابة كالخلفاء الثلاثة وبقية العشرة وأمهات المؤمنين ومشاهير الصحابة كأنس وجابر وأبي هريرة ونحوهم ، فلا يقبلون أحاديثهم لأنهم كفار في زعمهم ، ولا يعملون بأحاديث الصحيحين إلا ما كان عن أهل البيت ، ويتعلقون باحاديث مكذوبة ، أو لا دليل فيها على ما يقولون ، ولكنهم مع ذلك ينافقون فيقولون بالسنتهم ماليس في قلوبهم ويخفون في انفسهم ما لا يبدون لك ، ويقولون من لا تقية له فلا دين له ، فلا تقبل دعواهم في الإخوة ومحبة الشرع… إلخ . . . فالنفاق عقيدة عندهم ، كفى الله شرهم وصلى على محمد وآله وصحبه وسلم .
http://www.khayma.com/rafidha/ematah.htm

إغلاق نافذة الثورة

و إضافة الى ذلك و حتى لو ثبتت تهمة الكفر على الحكام الذين لا يعملون بما أنزل الله ، وهو ما كان يعتقده قطاع كبير من الوهابيين المتقين ، فقد قام رجال المؤسسة الدينية الوهابية بإغلاق أية نوافذ قد يتسرب منها الفكر الثوري ، وذلك برفض الثورة مطلقاً  بحجة العجز عن التغيير أو الخوف من حدوث ضرر أكبر بسبب الثورة ، وقال المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز:
-       ”  أما بعد، فقد قال الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خيراً وأحسن تأويلا) هذه الآية تنص على وجوب طاعة أولي الأمر وهم الأمراء والعلماء وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن هذه الطاعة لازمة وهي فريضة في المعروف. النصوص من السنة تبين المعنى وتفيد الآية بأن المراد طاعتهم بالمعروف فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمر في المعروف لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية فلا يطاعون في المعصية، لكن لا يأتي الخروج عليهم بأسبابها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأي من أميره شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية). وقال عليه الصلاة والسلام : (على المرء السمع والطاعة في ما أحب وكره، في اليسر والعسر، في المنشط والمكره، إلا أن يؤمر بمعصية الله فإن أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة) . وسأله الصحابي: يا رسول الله (لما ذكر إنه يكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون)، قالوا فما تأمرنا؟ قال:أدوا إليهم حقهم واسألوا الله الذي لكم. قال عبادة رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا ننازع الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. هذا يدل على أنهم لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فساداً كبيراً وشراً عظيماً، فيختل به الأمن وتضيع الحقوق ولا يتيسر ردع الظالم ولا نصرة المظلوم، وتختل السبل ولا تؤمن فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كبير، إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لم تكن عندهم قدرة فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم الخروج رعاية للمصالح العامة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها: أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً ويكون عندها قدرة على أن تزيله وتضع إماماً صالحاً طيباً دون أن يترتب على ذلك فساد كبير على المسلمين وشر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس. أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال من لا يستحق الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم، هذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمور والدعوة لهم بالخير والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير، هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك لأن في ذلك مصالح المسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
وعلق على دعوة بعض الشباب الى تبني العنف في التغيير قائلا:
-       هذا غلط من قائله، وقلة فهم لأنهم لم يفهموا السنة ولم يعرفوها كما ينبغي وإنما يحملهم الحماس والغيرة لإزالة المنكر على أن يقعوا في ما يخالف الشرع كما وقعت الخوارج والمعتزلة، حملهم حب نصرة الحق أو الغيرة للحق حملهم ذلك على أن يقعوا في الباطل حتى كفروا المسلمين بالمعاصي أو خلدوهم في النار بالمعاصي كما يفعل المعتزلة.
فالخوارج كفروا بالمعاصي وخلدوا العصاة في النار والمعتزلة وافقوهم في العاقبة وأنهم في النار مخلدون فيها، ولكن قالوا في منزلة بين المنزلتين وكله ضلال والذي عليه أهل السنة هو الحق، إن العاصي لا يكفر بمعصيته مالم يستحلها، فإذا زني لا يكفر وإذا سرق لا يكفر وإذا شرب الخمر لا يكفر لكن يكون عاصياً ضعيف الإيمان فاسقاً تقام عليه الحدود. ولا يكفر بذلك إلا إذا استحل المعصية وقال إنها حلال وما قاله الخوارج في هذا باطل، تكفيرهم للناس باطل، ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. هذا حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية، فيقفون مع النصوص كما جاءت وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه، بل عليهم المناصحة والمكاتبة والمشافهة بالطرق الطيبة الحكيمة، بالجدال بالتي هي أحسن حتى ينجحوا وحتى يقل الشر ويخف ويكثر الخير. هكذا جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يقول :  (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) فالجواب على الغيورين لله وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا بحدود الشرع وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور بالكلام الطيب والحكمة والأسلوب الحسن حتى يكثر الخير ويقل الشر وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن لا بالعنف والشدة، ويناصحوا من ولاهم الله الأمر بشتى الطرق الطيبة السليمة مع الدعاء للحاكم في ظهر الغيب، أن الله يهديه ويوفقه ويعينه على الخير وأن الله يعينه على ترك المعاصي التي يفعلها وعلى إقامة الحق. هكذا يدعو لله ويضرع إليه أن الله يهدي ولاة الأمور وأن يعينهم على الحق، ومع ذلك يعينهم على ترك الباطل وعلى إقامة الحق بالأسلوب الحسن بالتي هي أحسن. وهكذا مع إخوانه الغيورين ينصحهم ويعظهم ويذكرهم حتى ينشطوا في الدعوة بالتي هي أحسن لا بالعنف والشدة، وبهذا يكثر الخير ويقل الشر ويهدي الله ولاة الأمور للخير والاستقامة عليه وتكون العاقبة حميدة للجميع.

وهابية تحارب الوهابية

و في هذا الإطار يقوم عدد من كبار رجال الدين الوهابيين الرسميين (وعلى رأس هؤلاء   الشيخ محمد أمان بن علي الجامي ، استاذ الشريعة في الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة ، و الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي) بمراقبة الحركات و الأحزاب و المنظمات الوهابية التي تسعى للإصلاح و قد تخرج عن إطار المؤسسة الرسمية أو تمارس نشاطاً سياسياً مستقلاً او تقوم بتكفير الحكام الذين لا يعملون بالشريعة الاسلامية ، و محاربتها و تجريدها من هويتها “السلفية” أو “الوهابية” و يطلقون على أنصارها اسم “الخوارج” و”الغلاة” [1]، وهي نفس التهم و الأوصاف التي كانت تواجهها الحركة الوهابية في بداية نشوئها من قبل خصومها أو من أجهزة الدولة العثمانية الدينية.
يقول الشيخ ربيع المدخلي في مقال له نشر في موقع (سحاب) على الانترنت بتاريخ 17 رمضان 1422هـ  :”الفتن كثيرة .. ومن أشد هذه الفتن فتنة خوارج العصر حقاً، فلهذه الفتنة انتشار واسع ولها ضجيج إعلامي مزلزل ومرعب يعرض بكل قوة في شتى الوسائل ، كالكتب والرسائل وفي سائر وسائل الإعلام والتوجيه فعمّ شره و طمّ. وإغراء مادي قد يفوق النوع الأول يغري أخساء النفوس الذين يبيعون دينهم بدنياهم ويشترون الحياة الدنيا بالآخرة فزاد البلاء وعمّ .
هذه الفئة قد أرهقت الأمة بمشاكلها… وأغرقتهم في السياسة الباطلة بما فيها من أوهام وأحلام وتكهنات، فأساءوا أيما إساءة إلى الإسلام والمسلمين فأفسدوا خلاصة شباب الأمة و أذكياءها، فربوهم على بغض أهل السنة وتشويههم وتشويه منهج الله الحق الذي يدعوا إليه أهل السنة  والتوحيد، ويربون عليه من استطاعوا تربيته من أبناء المسلمين.
تعلق هؤلاء القوم السياسيون بجانب من الإسلام، هو ما سموه بالحاكمية تعلقاً سياسياً فحرفوا من أجل ذلك أصل الإسلام كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وفسروها بمعنى لا يعرفه الأنبياء ولا العلماء من الصحابة فمَن بعدهم فقالوا: إن معنى لا إله الا الله : لا حاكم إلا الله، والحاكمية أخص خصائص الألوهية، وشهد كبراؤهم أن الذي فسر لا إله إلا الله قد بين معنى لا إله إلا الله بياناً لا نظير له في هذا العصر، وصدقوا فلم يسبق الرجل إلى هذا المعنى أحد، لا الأنبياء ولا المصلحون ، ذلك المعنى الذي ضيع المعنى الحقيقي للا إله إلا الله وجاء فريق منهم لما لم يسلم العلماء حقاً بـهذا التفسير فقالوا: إن التوحيد أربعة أقسام، رابعها توحيد الحاكمية. وهي لعبة سياسية من جملة ألاعيبهم وحيلهم على الأمة يريدون تخدير من استطاعوا من الشباب السلفي حتى إذا سلموا بهذا التقسيم واطمأنوا إليه جعلوا الحاكمية هي المعنى الأول والأخير للا إله إلا الله”.
وينفي المدخلي إخراج العلماء لموضوع (الحاكمية) عن أنواع التوحيد، ويقول أنهم أدخلوها في توحيد الربوبية، وبعضهم في توحيد الألوهية.
ثم يقول رداً على كاتب إصلاحي سمى نفسه بـ: (الموحد) وألّف كتابا تحت عنوان:  (تنقيح المناهج من بدع الخوارج) :” لقد أبرز هذا الكاتب حقيقة مذهب القطبية من تكفيره للأمة وعلى رأسهم سادة العلماء ابن باز وإخوانه. وكشف حقيقة ما يخفيه كل قطبي ماكر من تكفير الأمة والعلماء، ثم يسترون ذلك بتقيتهم المشابهة للتقية الباطنية، فيظهرون للناس أنهم لا يكفرون وأنهم يحاربون التكفير ومذهب الخوارج وأنهم هم أهل السنة والجماعة، فلو كانوا في حقيقتهم كما يظهرون لما تباكى عليهم هذا الخارجي التكفيري المحترق، ولقد شهد عليهم بالخروج وبرر خروجهم بأنهم رأوا الكفر البواح الصراح، وأنهم دعاة حق وتوحيد وإيمان.
إن مذهب سيد قطب واضح وضوح الشمس في تكفير المجتمعات الإسلامية منذ قرونها الأولى، وأنه يكفر بالجزئية وبالمعاصي وبالعادة والتقاليد، والقوم يقدسونه ويقدسون كتبه ومنهجه وينشرونه بكل حماس ونشاط، ويربون عليه أتباعهم، وعليه يوالون وعليه يعادون، ومع ذلك كله يتظاهرون بعدم التكفير. وهم يركضون بمنهج سيد قطب الغالي في التكفير في مشارق الأرض ومغاربـها، وما هذا الرجل التكفيري الصريح وأمثاله إلا ثمرة من ثمرات جهودهم القوية المتوصلة على وجه البسيطة.
…يتضح من حرب هذا الرجل وأمثاله على من يسمونهم بالجامية والمدخلية أنهم يقصدون السلفيين في كل أقطار الأرض وعلى رأسهم علماء المملكة العربية السعودية، وعلى رأس الجميع ابن باز والعثيمين والفوزان”.


وهكذا صب كلُ ذلك التنظير الذي قام به كبار علماء المؤسسة الدينية الوهابية ، في مصلحة النظام الاستبدادي المطلق ، والابتعاد عن الشورى ، وأدى الى تضخيم دور الحاكم على حساب الشعب والحركة الوهابية والمؤسسة الدينية نفسها. [2]



[1]  -  ويطلقون عليهم أيضا اسم “القطبيين” نسبة الى سيد قطب ، وذلك لأنه قال في كتابه (في ظلال القرآن) ما يلي:  إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة، ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي (ج 4 ص 212)  وقال: قد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن لا إله إلا الله دون أن يدرك مدلولها ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها…  وقال: البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله بلا مدلول، ولا واقع، وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى، ومن بعد أن كانوا في دين الله (ج2 ص 1057).
[2]  - يقول أحد الوهابيين الاصلاحيين  في أحد مواقع الانترنت عن رجال المؤسسة الدينية: “في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ فكر مريض أطلق عليه الفكر المدخلي أو الجامي نسبة إلى مؤسسه ، أو جماعة المدينة  نسبة إلى مكان نشأتهم . .. بقصد ضرب الصحوة الإسلامية والحركات الجهادية في كل العالم تحت مسمى السلفية والدين وأقوال العلماء الأوائل  … فكان من أفكارهم وسمومهم تعطيل الجهاد ولا جهاد اليوم فكلها رايات عمياء ولا إمام ، ولا أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر إلا إذا أذن السلطان صاحب المنكر ، وفي طاعة الحاكم بأمر القانون طاعة لله وله بيعة في الأعناق وإن تخلى عن شريعة الله واستبدل بالإيمان كفرا ، ولا نُصحَ إلا همسا وسرا ، ولا كفر إن نقض المرء إيمانه بناقض قولي او عملي  إلا إذا استحل ذلك في قلبه ، وكل الناس عندهم على غير هدى السلف إلا هم ، وكل البشر جاهل ولا عالم إلا هم . وليس ثمة أحد أصابه هذا الفيروس إلا تجهم وجهه لأخوانه وساءت أخلاقه وغلظ قوله ، وانبطح للوالي وصار دابة تركب وبساطا يفترش . جردوا الدين من روحه ومضمونه وجعلوه طلاسم ومناسبات ففصلوا السياسة عن الدين وألغوا الأمر بالمعروف والجهاد والنصح للأمة وإحيائها بعد موات ، وعطلوا أحكام الله على من وجبت بحقه من الكفر والفسق والبدعة” .

الفصل السادس:
المعارضة الوهابية والشورى


نظرا لطبيعة الحركة الوهابية الجماهيرية ، كان لا بد أن نتوقع حدوث تيارات عديدة فيها وعدم اقتصارها أو جمودها على تيار واحد ، هو تيار الولاء للسلطة. وحتى في داخل المؤسسة الدينية الرسمية لم يمكن استبعاد وجهات النظر المختلفة ، خاصة مع غياب الشورى في داخلها ، وإملاء النظام السياسي للمواقف المختلفة على التيار العام. ومن هنا كان من الطبيعي بروز حركات معارضة للنظام السعودي من داخل الحركة الوهابية ، في مقابل موقف المؤسسة الدينية الرسمية التابعة والمؤيدة والمساندة للنظام .
وقد اختلفت تلك المعارضة الى فرق وتيارات عديدة ، وانقسمت الى ثلاثة أقسام رئيسية:
1-              المعارضة الاصلاحية  (الموالية للنظام)
2-              المعارضة الخارجية (الرافضة للنظام)
3-              المعارضة الراديكالية (المكفرة للنظام الحاكم)
ويجمع بين هذه الأقسام الثلاثة عدم الاختلاف البنيوي عن الفكر السياسي الوهابي والانبثاق من داخل العقل السياسي للنظام ، وعدم تبني الشورى و الانتخاب أو المشاركة الشعبية في السلطة أو الدعوة الى تغيير النظام دستوريا أو تغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، حيث اقتصرت معارضتها جميعا على نقد الحاكم ( وربما الدعوة لإسقاطه) وتوجيه صفة الظلم أو الفسق أو الكفر اليه ، أو نقد بعض ممارساته المخالفة للشريعة الاسلامية و عقيدة التوحيد ، حسب الفهم الوهابي . ولكن من دون تقديم بديل جذري أو ملامسة لجذور الأزمة السياسية ، وهي طبيعة النظام الديكتاتورية و الاستبدادية المطلقة. وذلك لأن المعارضة الوهابية تحاول اصلاح النظام أو تغيير بعض مواقفه ، أو استبدال الحكام بآخرين، ولكنها ترفض إحداث تغييرات جذرية باتجاه إقامة الشورى وإعادة السلطة الى الأمة والقبول بالاحتكام الى صناديق الاقتراع.


1-             المعارضة الاصلاحية الموالية

وربما كان  أبرز نموذج لهذا النوع من المعارضة هو التيار الاصلاحي الذي ولد داخل المؤسسة الدينية الوهابية في التسعينات من القرن العشرين ، والذي عرف  بتيار (مذكرة النصيحة) التي قدمها عدد من كبار رجال الدين الى الملك فهد عام 1993 . وقد ابتدأ ذلك التيار نشاطه أثناء حرب الخليج الثانية ، احتجاجا على قرار الحكومة السعودية الاستعانة بالأمريكيين والاجانب (الكفار) في محاربة الرئيس العراقي صدام حسين عام 1991 ، واحتجاجا على مواقف كبار العلماء  الذين أصدروا الفتوى التي تجيز وصول جنود غير مسلمين الى المملكة العربية السعودية خلال عمليات “عاصفة الصحراء”.[1] حيث قام ذلك التيار بتوزيع الأشرطة والمناشير التي تندد بالوجود العسكري الامريكي في المملكة العربية السعودية “مهد الاسلام” .
وقد انضم الى هذا التيار عدد من أعضاء هيئة كبار العلماء [2]. وعندما انتهت الحرب سارع هذا التيار الى تقديم مذكرة الى الملك فهد وقع عليها أكثر من أربعمائة شخص يطالبون الملك فيها بالاسراع في عملية الاصلاح ، وتغيير القوانين الوضعية وتقوية الجيش السعودي.[3] وقد شجعهم على ذلك إعلان الملك فهد عام 1990 عن نيته للقيام بإصلاحات سياسية من بينها إنشاء مجلس للشورى. فقام الشيخ سليمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ عبد الله بن جبرين في صيف عام 1992  بتنظيم لجنة  للاصلاح والمشورة ، وكتابة مذكرة مفصلة بالمظالم وتسليمها الى الشيخ ابن باز ، ولكنها لم تجد ترحابا لديه ، حيث رأى فيها تجاوزا لدور كبار العلماء الذين يحتكرون النصيحة والمشورة للملك وخرقا لتقليد وهابي عريق بتوجيه النصيحة سريا للحكام .
وعلى أثر ذلك عقد مجلس هيئة كبار العلماء جلسة بتاريخ 19/11/1411هـ  وأصدر بيانا جاء فيه:
-       ان مجلس هيئة كبار العلماء يستنكر الطريقة التي سلكت في نشر وتوزيع ما كتب في ذلك ويحذر من  مغبة تكرار مثل ذلك مستقبلا ، و يرى ان الطريقة التي استخدمت في نشر وتوزيع ذلك لا يخدم المصلحة ولا يحقق التعاون على البر والتقوى .. ان النصح لأئمة المسلمين يكمن في ارشادهم سراً  بينهم وبين ناصحهم.[4]
ورد هذا التيار على بيان هيئة كبار العلماء ، رافضا وصايتهم على عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو الالتزام بالسرية ، ومؤكدا على قدرته على إيصال صوته الى ولي الأمر مباشرة وعدم الحاجة للمرور بهيئة كبار العلماء.[5]

وقام هذا التيار الاصلاحي ، بعد إعلان الملك فهد عن الأنظمة الثلاثة، بتوجيه (مذكرة النصيحة) الشهيرة الى الملك ، والإعلان عن تأسيس (لجنة للدفاع عن الحقوق الشرعية) في أيار من عام 1993  ، وتضمنت المذكرة أهم أفكار التيار الاصلاحية في المجالات الإدارية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والاجتماعية ، ولكنها خلت من الدعوة الى اسقاط النظام ، حيث حافظت على حركتها ضمن إطار الفكر السياسي الرسمي العام.[6]
وقد استندت المذكرة الى الفقرة الثالثة والعشرين من النظام الأساسي الذي أقره الملك ، والتي تقول:” إن الدولة تحمي عقيدة الاسلام وتطبيق شريعته وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتقوم بواجب الدعوة الى الله” لكي تطالب  بتصحيح دور رجال الدين في الدولة السعودية من تبعيتهم للسلطة الى تبعية السلطة لهم  ” وأن يكون للعلماء والدعاة  مكانة لا تعدلها مكانة ، وأن يكونوا في مقدمة أهل الحل والعقد والأمر والنهي ، واليهم ترجع الأمة حكاما ومحكومين لبيان الحكم الشرعي لسائر أمور دينهم ودنياهم”.[7] وانتقدت المذكرة واقع حال رجال الدين الذي يتمثل في:
1-              ضعف دور العلماء في الحياة العامة ، وهامشية هذا الدور في قطاعات بالغة الأهمية في حياة الامة مثل سن الأنظمة (أي القوانين بالمصطلح السعودي) والاعلام وأنشطة المرافق الثقافية والاقتصادية حيث لا يطلب رأي العلماء الشرعي في كثير من الأعمال التي تقوم بها قطاعات الدولة ، ويندر أن يستشاروا في قرارات داخلية أو خارجية هامة تحتاج الى أحكام الشريعة وقواعد الاسلام التفصيلية .. وقد لا يستجاب لفتاويهم اذا تعارضت مع توجهات قائمة لهذه القطاعات والأجهزة ، بل قد لا يسمح بنشرها. وكل ذلك ينبيء وقد يؤدي الى فصل الدين عن واقع حياة الناس وعزله عن التأثير في أمر معاشهم وما قد يترتب على ذلك أثر خطير يهدم الأصل الذي انما قامت الدولة له من الدعوة للاسلام وتطبيق أحكامه.
2-              عدم استقلالية العلماء وارتباطهم بمؤسسات ودوائر حكومية متعددة ، مما أدى الى تقييد العلماء في فتاويهم ، وابتعادهم عن واقع الحياة اليومي واعتبارهم جهة تابعة لا متبوعة ، مقودة لا قائدة.
3-               الحساسية المفرطة تجاه النصح والتوجيه والنقد الهادف البناء  المقدم من العلماء والدعاة  للمسؤولين في هذه الدولة وأجهزتها المختلفة ، مما ادى الى التضييق على الدعوة والدعاة وظهور أساليب لم تكن معروفة في سلف هذه الدولة من فصل الدعاة أو عزلهم أو منعهم من القيام بواجبهم في كثير من الأحيان.
4-              قصر وسائل الإعلام للموضوعات التي تذاع أو تكتب أو تبث من العلماء والدعاة على المواعظ العامة والقضايا الجزئية ، وإحكام الرقابة على كل ما يذاع أو ينشر بهذا الصدد.
5-              قصر رسالة المسجد ومواضيع خطب الجمع على الوعظ العام ، ومنعها من التعرض للقضايا العامة في واقع المسلمين وبيان الرأي الشرعي. وكذلك تحجيم الندوات والمحاضرات العامة التي تعالج قضايا الساعة ، ومراقبة كل ما يقال أو ينشر فيها.[8]
وبناء على ذلك فقد طالبت المذكرة بإصلاح أحوال العلماء وتعزيز دورهم وتمكينهم من القيام بواجبهم ، وذلك برفع كافة القيود والتعليمات التي تحد من نشاط الدعاة والسماح لهم بالتأليف والنشر والإفتاء والخطابة والمحاضرات وعقد الندوات والحلقات العلمية ، دون حاجة الى ترخيص أو إذن رسمي من وزارة الاعلام أو الأوقاف أو غيرها من أجهزة الدولة ، وأن يجعل القضاء الشرعي هي الجهة الوحيدة التي يناط بها النظر في أي مخالفة تنسب الى الدعاة والعلماء أو غيرهم. واقترحت المذكرة تعزيز دور هيئة كبار العلماء بتعيين ذوي الفضل والمشهورين بالقدرة والاجتهاد المقبولين من أفراد الامة ، وذلك بناء على ترشيحهم من الجهات الشرعية كالقضاة وأعضاء الإفتاء والإرشاد ومجلس القضاء الأعلى وأساتذة الشريعة ، كما طالبت بعرض جميع الأنظمة(القوانين) والمعاهدات المراد سنها قبل إقرارها على هيئة كبار العلماء للتأكد من مطابقتها لقواعد الشريعة وأحكامها.[9]
ويمكننا اعتبار طلب المذكرة هذا ، نوعا من المطالبة بولاية الفقهاء على الدولة السعودية. ومع ان المذكرة اقترحت ترشيح العلماء الى ما يشبه (المجلس التشريعي) الا انها لم تصل الى حد المطالبة بانتخاب ذلك المجلس من الأمة عبر الانتخاب العام ، وانما اقتصرت بالمطالبة بترشيحهم من ذوي الاختصاص وليس من قبل الحكومة.
وخلافا لما اعتاد عليه الفكر السياسي الوهابي الرسمي من الطاعة المطلقة للامام ، انتقدت المذكرة مصادرة الحريات العامة ، وقالت:” شاع بين الناس بأنه يجوز للدولة  المنع و الالزام بالمباح لما يسمى بالمصلحة العامة ، استنادا الى كون الشرع قد خيّر المكلف بين الفعل والترك. ولقد نجم عن هذا الظن الفاسد تحريم ما أحل الله ورسوله وإيجاب ما لم يوجب تعالى ، وإلزام الرعية بذلك وعقابهم على مخالفته دون قيد شرعي منضبط أو اذن من الشارع الاسلامي بذلك… وقد نهت الشريعة أن يلزم الانسان نفسه عن فعل مباح حتى لو كان بقصد التعبد.. فكيف يحل للدولة أن تحرم بعض المباح عموما أو تعلق فعله على إذنها وترخيصها؟…فان الأصل أن المباح ليس للدولة تحريمه والمنع منه أو إيجابه ، أو قصر فعله على من حصل على ترخيص منها ، لأن الاباحة حكم من خالق العباد و ربهم تعالى ، ومتى ثبت بالدليل الشرعي إباحة الفعل فليس لمخلوق المنع أو الإلزام به على وجه الإطلاق وليس للدولة ذلك الا وفق الأحوال المبنية بالشرع”.[10]
واستنادا الى ذلك انتقدت المذكرة كثيرا من الأنظمة (القوانين) التي تقدم بها الملك فهد واعتبرتها منافية للحريات العامة أو مستوردة من القوانين الأجنبية الكافرة ، مثل قانون المواطنة السعودية الذي يتضمن” التفرقة والتمييز بين المسلمين وتسمية المسلم أجنبيا في مواد أنظمة لا تحصى باعتبار الموطن الاقليمي وعلى أساس المولد ، مخالفة بذلك أحكام دار الاسلام المعلومة من الدين”.[11]
وأشادت المذكرة بتنويه (النظام الأساسي) الذي تقدم به الملك : باستقلال القضاء . وطالبت بترجمة ذلك الى الواقع و رفع المنع للمحاكم الشرعية من نظر الدعاوى المقامة على جهات حكومية الا بعد الإذن بذلك ، ومنع النظر في قضايا ترفع لدى المحاكم أو ديوان المظالم بحجة أنها من قضايا السيادة ، كالدعاوى التي تقدم ضد أجهزة الجوازات والمباحث وغيرها. والتأخير الملحوظ في إنفاذ الاحكام القضائية الصادرة من ديوان المظالم ضد بعض أجهزة الدولة ووزاراتها ، وكذلك الصادرة من المحاكم بإعادة الحقوق لأهلها اذا ما تعلقت هذه الأحكام بأجهزة الدولة أو بعض كبار المتنفذين فيها.[12] واقترحت ، في سبيل إصلاح واقع القضاء ، العمل من أجل رفع جميع القيود التي تحول دون تقديم كافة أنواع القضايا والدعاوى الى المحاكم الشرعية مباشرة دون وساطة أو اشتراط إحالة أي جهة كانت ، وسواء كانت الدعوى خاصة أو دعوى حسبة وسواء كان موضوع النزاع معروضا على أجهزة الحكومة او عدم ذلك. وحصر إصدار التعليمات الموجهة للقضاة بمجلس القضاء الأعلى فقط ، وتوجيه أجهزة الدولة من إمارات و وزارات بالالتزام بذلك. وأن تبسط هيمنة القضاء الشرعي على رجال الشرطة والأمن ونواب الهيئات ومن في حكمهم.[13]
وتحت بند (واقع الكرامة والحقوق الانسانية) انتقدت المذكرة قيام الأجهزة الامنية بالتجسس والتصنت وتفتيش المنازل وفتح الرسائل والتعدي بالضرب والعدوان وتعذيب المتهمين ، ومعاقبة الذين يقومون بأداء واجباتهم الشرعية كالدعوة والنصيحة والتعبير المشروع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمنع من تكوين الجمعيات الدعوية أو التأليف والخطابة الا بترخيص.[14]
وانتقدت المذكرة غياب الجيش السعودي منذ توحيد البلاد ، عن أداء أي دور جهادي لنشر دعوة التوحيد ونصرة المظلومين من المسلمين ، وطالبت بإلغاء كافة الارتباطات والمعاهدات العسكرية المخلة بسيادة الدولة واستقلالها ، وعدم الاعتماد على أية قوة عسكرية خارجية مهما كانت في الدفاع عن البلاد وحماية أمنها.[15]
وانتقدت المذكرة ما أسمته سياسة الفتور والتجاهل والخذلان والتشويه الإعلامي ، التي تتبعها المملكة في علاقاتها مع التوجهات الاسلامية ، دولاً وحركات وأفرادا ،[16] وكذلك الحرص الشديد على عدم التعارض مع مصالح الأنظمة الغربية التي تقود العداء للاسلام ، ومجاراة الولايات المتحدة الامريكية في غالب المواقف والعلاقات والقرارات مثل الاندفاع نحو عملية السلام مع اليهود. وطالبت بتبني سياسة الوحدة الاسلامية والعمل من أجلها ، ودعم قضايا المسلمين في جميع المحافل الدولية ، والتعامل بحكمة مع الدول والتكتلات والتوجهات المعادية للاسلام وعلى رأسها الأنظمة الغربية ، وتجنب أي نوع من الأحلاف أو أشكال التعاون التي تخدم الأهداف الاستعمارية وتؤثر على القرار السياسي للبلد.[17]
ورغم كل تلك النقاط المثيرة التي طرحتها المذكرة ، الا انها ظلت في إطار (النصيحة) ولم تتقدم خطوة عملية الى الأمام لكي تضع آلية لتنفيذ مطالبها ، بطرح موضوع الشورى والانتخابات ، أو الضغط على الحكومة بالتظاهر والإضراب العام ( ماعدا بعض المظاهرات المحدودة التي وقعت في بريدة)  فضلا عن استخدام العنف أو الدعوة الى إسقاط النظام السياسي. فقد ظل الاصلاحيون يعارضون ويقترحون وينتقدون ضمن دائرة المسموح في الفكر السياسي الوهابي  وفي إطار الولاء التام للنظام السعودي. وبالرغم من ذلك فقد اعتقل العودة والحوالي وتم تجميد عضوية ابن قعود والشعيبي من هيئة كبار العلماء ، وقيدت حركة الشيخ المسعري.




2-             المعارضة الخارجية الرافضة

والى جانب تلك المعارضة الموالية ، وأمام انغلاق باب الإصلاح ، وبعد تفاقم الانحراف السياسي ، كان لا بد ان تولد معارضة أكثر تطورا ، تمزق خيوط الولاء للنظام السعودي وتسحب اعترافها بشرعيته وتدعو وتعمل من أجل إسقاطه “نظرا لافتقاده الشروط الشرعية الدينية التي تؤهله للاستمرار في الحكم”. ولعل أبرز من يمثل هذا النوع من المعارضة هي حركة جهيمان بن سيف العتيبي الذي قام باحتلال الحرم المكي عام 1979 وأعلن فيه ظهور المهدي (محمد بن عبد الله  القحطاني) .
وقد طرحت هذه الحركة التي انتقدت “انحراف النظام السعودي عن الاسلام” : مسألة البيعة . وقالت ببطلان بيعة آل سعود لافتقادهم الى شرط (القرشية) ، الوارد في بعض الاحاديث النبوية . ولكن تلك الحركة لم تصل في معارضتها للنظام السعودي الى حد اتهامه بالكفر الصريح ، فقد كان قائد هذه الحركة (جهيمان) يؤكد على اسلام الحكام ويقول:” ان آل سعود ليس لهم بيعة وان بيعتهم غير شرعية. ولا يلزم من بطلانها تكفيرهم ، بل هم مسلمون بيعتهم باطلة شرعا بالأدلة والكتاب والسنة”.[18]
وأقصى ما كان جهيمان يقوله في حكام آل سعود هو تشبيههم بالمنافقين ، حيث يقول: ” ما أشبه هؤلاء الحكام بالمنافقين فتراهم مع اظهارهم الاسلام يوالون الكفار والمشركين ، ولكن طائفة والت وصالحت اليهود وطائفة والت الشيوعية وصالحت النصارى و آوت المشركين من الشيعة و الروافض. فكل من هذه الدول الاسلامية له نصيب من اظهار الاسلام وله نصيب من موالاة الكفار . وربما اختلفوا في اتجاهاتهم وكلهم متفقون على محاربة الحق وأهله اذا خالف سياستهم وسياسة من يوالونهم من أعداء الاسلام”.[19]
ورغم اعتقاد جهيمان بانحراف حكام آل سعود ، الا انه اعتبرهم في البداية أئمة جور أو ظلمة لم يخرجوا من دائرة الاسلام . وأورد في رسالته (نصيحة الاخوان الى المسلمين والحكام) حديث (تسمع وتطع الامير وان ضرب ظهرك وأخذ مالك…) واستدل به على وجوب الطاعة لهم  على  من يبايعهم ، ولكنه شكك في وقت لاحق في صحة هذا الحديث فتراجع عن ذلك الموقف في رسالة (الإمارة) ، ومع ذلك لم يتطرف لكي يحكم على آل سعود بالكفر والردة. ” فهو لا يرى أنهم أظهروا كفرا بواحا ، والحكومة عنده  حكومة مسلمة. وعلى هذا أكثر أتباعه الى اليوم”. [20]
وبناء على ذلك لم يتخذ جهيمان موقفا عنيفا من المؤسسة الدينية وزعيمها الشيخ عبد العزيز بن باز ، وانما اكتفى بتوجيه النقد الى العلماء الذين باعوا أنفسهم للنظام الفاسد مقابل المال والمناصب والترقيات ، واعتبارهم موظفين إداريين وجزءا  من أركان الدولة.[21]
وبما أن العتيبي كان سلفيا ويؤمن ببعض الاخبار التي تتحدث عن حتمية ظهور المهدي المنتظر بعد انحطاط السلطة السياسية وانتقالها الى الملكيات الاستبدادية ، فقد انعكس ذلك على خطته في العمل والتغيير ، فبحث بين أتباعه عمن يقوم بدور المهدي ، وأقنع واحداً منهم اسمه : (محمد بن عبد الله القحطاني) بأنه فعلا المهدي المنتظر الذي سوف يخرج – كما في الأحاديث -  من الكعبة ويحكم بالعدل والقسط ، فالتجأ معه ومع ثلة من أصحابه الى الحرم المكي مطلع عام 1400 للهجرة ، وأعلن ظهور ذلك المهدي (القحطاني) ودعا الناس الى بيعته .
ولم يتسنَّ للعتيبي والقحطاني تبيان تصورهما السياسي لطريقة حكم البلاد في المستقبل ، غير أنه لا يوجد في تراث الحركة ما يدل على إيمانهما بالشورى أو الانتخاب أو المشاركة الشعبية في السلطة . وربما كان أقصى ما يحلمان به هو استبدال حكام آل سعود بحكام أكثر ورعا وتقوى والتزاما بالدين. مما يعني عدم امتلاكهما لأي تصور سياسي يختلف بنيويا وجذريا عن النظام السعودي الوهابي القائم.
ورغم أن هذه الحركة احتلت الحرم المكي الشريف الا انها لم تستخدم العنف ولم تقتل أحدا ابتداء ، غير ان احتلالها للحرم كان كافيا لمهاجمة السلطات السعودية لها . ونظرا لأن الحركة كانت تنبثق من عمق الحركة الوهابية ومنطقة نجد فقد لاقت الحكومة السعودية صعوبة كبيرة في إقناع جنودها الذين ينتمي غالبيتهم الى تلك المنطقة ، بمهاجمتهم في الحرم وإخراجهم منه. ولذلك دعت رجال الدين لإصدار حكم شديد عليها وتأييد الحكومة ، فاجتمع المجلس الأعلى للإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز و أصدر فتوى تؤيد آل سعود  وتدين احتلال الحرم ، وعملية الخروج باعتبارها خروجا على دولة اسلامية شرعية قائمة وشقا لعصا المسلمين . و وقَّع على الفتوى ثلاثون عالما من كبار علماء السعودية.[22]
وجاء في فتوى الشيخ ابن باز :”كيف يجوز له (لجهيمان العتيبي) الخروج على دولة قائمة قد اجتمعت على رجل واحد وأعطته البيعة الشرعية ، فيشق عصاها ويفرق جمعها؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: ( من أتاكم وأمركم جميع يريد ان يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان) خرجه مسلم. ولما بايع النبي (ص) أصحابه بايعهم ( ان لا ينازعوا الأمر أهله ، الا ان تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها. ويُحتج في هذا المقام بحديث : ( من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا عن طاعة ، فان من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية) وبذلك تدخل هذه الطائفة تحت قوله عز وجل: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، أولئك ما كان لهم ان يدخلوها الا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم) ويُحتج بحديث: ( من حمل علينا السلاح فليس منا) لتحريم الاخوان لأجل اطلاقهم النار على رجال الأمن الذين أرادوا حماية المسلمين من شرهم”. [23]
وقد أعطت فتوى الشيخ ابن باز وكبار العلماء الإذن للسلطات السعودية بالهجوم على الحرم واعتقال وقتل المعتصمين فيه ، والقضاء على جهيمان وصاحبه : (المهدي القحطاني) ولكنها لم تستطع القضاء  على أتباع الحركة المنتشرين في أعماق الحركة الوهابية ، الذين يعرفون  اليوم بـ : (حزب القرآن)  والذين يرفضون الاعتراف بشرعية الدولة السعودية. وربما تطور بعضهم بعد القضاء على حركة الحرم وقتل قياداتهم ، الى القول بالتكفير، كما ينقل عن العتيبي نفسه الذي يقال إنه عبر عن سوء تقديره للنظام السعودي الذي كان يحسبه  ظالما وجائرا فقط ولكنه أيقن بعد اقتحام الحرم: “أنه كافر” .

السرورية

وهناك جماعة يطلق عليها (السرورية) نسبة الى (محمد بن سرور زين العابدين)[24] وهم كما يقول الشيخ أحمد بن يحيى النجمي في كتابه: ( الفتاوى الجلية عن المناهج الدعوية) :”قوم أو حزب عندهم شيء من السنة وشيء من البدعة ، يقدحون في الولاة ويتكلمون فيهم بما ينتج عنه شر وفتنة وخطورة ، والظاهر أنهم يكفرون الولاة ، لكن هذا إنما هو مأخوذ من لسان حالهم ولم يؤخذ من لسان مقالهم.. وقد تناولوا علماء هذا البلد بالسب والشتم المقذع واتهامهم بالخيانة للدين ، ويزعمون أن العلماء في هذا البلد لا يفقهون الواقع. وهذا أمر يدل على ما وراءه. وهم يدعون الى الجهاد وليس مرادهم جهاد الكفار ، ولكن الظاهر أن مرادهم ضد الدولة”.
وينقل عن هذه الحركة دعوتها الى ولاية الفقهاء للدولة ، استنادا الى دور الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الأمير محمد بن سعود وابنه عبد العزيز ، حيث كان يقوم بدور القيادة والإشراف والتوجيه. [25]



3 – المعارضة الثورية المسلحة (تنظيم القاعدة)

وقد انبثقت هذه المعارضة (الثورية) من صفوف المعارضة الموالية ، بعد فشل الحوار مع النظام وعجزها عن تحقيق أهدافها بالطرق السلمية ، فتطورت نحو التكفير والخروج المسلح ، وانتشرت بشكل رئيسي في صفوف القواعد الشعبية الوهابية وخاصة “الأفغان السعوديين” الذين شاركوا في حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي وكان يبلغ عددهم حوالي خمسة عشر ألفا ، والذين عادوا الى بلادهم ليجدوا الاحتلال الأمريكي قد جثم على بلاد الحرمين منذ حرب الخليج الثانية عام 1991
وربما كانت الرسالة المفتوحة التي بعث بها أسامة بن لادن  الى عامة المسلمين وأبناء جزيرة العرب بالخصوص ، عام 1997 تشرح حالة الإحباط التي كان يشعر بها ذلك الفريق من المعارضة الوهابية ، بعد وصول طريق الإصلاح السلمي الى طريق مسدود ، والتي شكلت المنطلق للحركة ، والتي  يقول فيها:
-  “بذلت كل فئة جهدها للتحرك السريع لتدارك الموقف، وتلافي الخطر، فنصحوا سراً وجهراً، ونثراً وشعراً، زرافات ووحدانا، وأرسلوا العرائض تتلوها العرائض، والمذكرات تتبعها المذكرات، وما تركوا سبيلاً إلا ولجوه ولا رجلاً مؤثراً إلا وأدخلوه معهم في تحركهم الإصلاحي، وقد كانوا متوخين في كتاباتهم أسلوب الرفق واللين بالحكمة والموعظة الحسنة داعين إلى الإصلاح والتوبة من المنكرات العظام والمفاسد الجسام التي شمل فيها التجاوز مُحْكَمَات الدين القطعية وحقوق المواطنين الشرعية.  ولكن – للأسف الشديد- لم يجدوا من النظام إلا الصدود والإعراض، بل والسخرية والاستهزاء، ولم يقف الأمر عند حد تسفيههم فقط، بل تعززت المخالفات السابقة بمنكرات لاحقة أكبر وأكثر.. فلم يعد السكوت مستساغاً، ولا التغاضي مقبولا. ..ولما بلغ التجاوز ما بلغ، وتعدى حدود الكبائر والموبقات إلى نواقض الإسلام الجليات، قامت مجموعة من العلماء والدعاة الذين ضاقت صدورهم ذرعاً بما أصم آذانهم من أصوات الضلال، وغشي أبصارهم من حجب الظلم، وأزكم أنوفهم من رائحة الفساد …فانبعثت نذر الرفض ، وارتفعت أصوات الإصلاح داعية لتدارك الموقف، وتلافي الوضع، وانضم إليهم في ذلك المئات من المثقفين، والوجهاء، والتجار، والمسؤولين السابقين، فرفعوا إلى الملك العرائض والمذكرات المتضمنة المطالبة بالإصلاح ، غير أنه تجاهل النصح، واستهزأ بالناصحين، وظلت الأوضاع تزداد سوءاً على سوء .
وحينئذٍ أعاد هؤلاء الناصحون الكرة من جديد بمذكرات وعرائض أخرى كان من أهمها مذكرة النصيحة التي سُلِمَتْ للملك في محرم 1413 هـ والتي شَخَّصت الداء ووصفت الدواء، في تأصيل شرعي قويم، وعرض علمي سليم، فتناولت بذلك الفجوات الكبرى في فلسفة النظام، ومواضع الخلل الرئيسية في دعائم الحكم، فبينت ما يعانيه رموز المجتمع وقياداته الداعية للإصلاح – كالعلماء والدعاة وشيوخ القبائل والتجار والوجهاء وأساتذة الجامعات- من تهميشٍ وتحييد، بل ومن ملاحقة وتضييق.
و أوضحت حالة الأنظمة واللوائح في البلاد، وما تضمنته من مخالفات شملت التحريم والتحليل تشريعاً من دون الله. ..  و بينت المذكرة تعطيل العديد من الأحكام الشرعية واستبدالها بالقوانين الوضعية… وعلى صعيد سياسة الدولة الخارجية كشفت المذكرة ما تميزت به هذه السياسة من خذلان وتجاهل قضايا المسلمين، بل ومن مناصرة ومؤازرة الأعداء ضدهم وليست (غزة – أريحا) والشيوعيون في جنوب اليمن عنا ببعيد، وغيرهما كثير.  ولا يخفى على أحد أن تحكيم القوانين الوضعية، ومناصرة الكافر على المسلم معدودة في نواقض الإسلام العشرة.
ومع أن المذكرة عرضت كل ذلك بلين عبارة، ولطف إشارة، مذكرة بالله، واعظة بالحسنى، في أسلوب رقيق ومضمون صادق ورغم أهمية النصيحة في الإسلام، وضرورتها لمن تولى أمر الناس، ورغم عدد ومكانة الموقعين على هذه المذكرة، والمتعاطفين معها، فإن ذلك لم يشفع لها، إذ قوبل مضمونها بالصد والرد، ومُوقْعُوها والمتعاطفون معها بالتسفيه والعقاب والسجن”.
وهكذا ينتقل ابن لادن الى مرحلة جديدة هي سحب الشرعية الدينية من النظام السعودي ومقاربة القول بتكفيره ، في خطوة من أجل تبرير الخروج عليه والتحرر من بيعته والولاء له ، إذ  يقول:   
 - ” إن النظام قد مزق شرعيته بيده بأعمال كثيرة أهمها:
1-  تعطيله لأحكام الشريعة الإسلامية، واستبدالها بالقوانين الوضعية. .. حتى وصل إلى الظلم العظيم وهو الشرك بالله ومشاركة الله في تشريعه للناس،  وإباحة ما حرم الله كالربا وغيره حتى في البلد الحرام عند المسجد الحرام.
2- عجزه عن حماية البلاد وإباحتها السنين الطوال لأعداء الأمة من القوات الصليبية الأمريكية”.
ويقول:” في الوقت الذي لم تسترجع الأمة بعد قبلتها الأولى، ومسرى نبيها عليه الصلاة والسلام .. إذ بالنظام السعودي يفجع الأمة بما تبقى لها من مقدسات: مكة المكرمة والمسجد النبوي بأن جلب نساء جيوش النصارى للدفاع عنه، وأباح بلاد الحرمين للصليبيين ، وفتحها بطولها وعرضها لهم، فامتلأت بقواعد جيوش أمريكا وحلفائها، وقد خالف بإباحته الجزيرة العربية للصليبيين الوصية التي أوصى بها رسول الله  أمته وهو على فراش الموت حيث قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) ؛ لأنه أصبح عاجزاً أن يقف بدون مساعدتهم، فخان بذلك الأمة، ووالى الكفّار وناصرهم وظاهرهم على المسلمين، ولا يخفى أن ذلك معدود في نواقض الإسلام العشرة.
“وكان أن أُصيبَ المسلمون بمصيبة من أعظم المصائب التي أُصيبوا بها منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهي احتلال بلاد الحرمين ، عقر دار الإسلام، ومهبط الوحي، ومنبع الرسالة، وبها الكعبة المشرفة قبلة المسلمين أجمعين ، وذلك من قبل جيوش النصارى من الأمريكيين وحلفائهم”.
ورفض أسامة بن لادن دعوى الحكومة السعودية بأن القوات الأمريكية هي لحماية أرض الحرمين ، وبأنها مسألة مؤقتة للدفاع عنها . واستشهد بقول وزير الدفاع الأمريكي وليام بيري  للجنود الأمريكيين بعد انفجار الخبر ، بأن وجودهم في بلاد الحرمين إنما هو لحماية المصالح الأمريكية. وأكد ابن لادن: بأن تواجد الأمريكيين في الجزيرة العربية هو احتلالّ عسكريّ مخططّ له من قبل ، وإن هذا الادعاء هو خدعة أخرى يريد النظام أن تنطلي على المسلمين ، ليذهب ما تبقى لنا من مقدسات، فَكَذَب  على العلماء الذين أفتوا بدخول الأمريكان، وكذلك على الجمع العظيم من علماء وقيادات العالم الإسلامي في مؤتمر الرابطة في مكة المكرمة بعد أن استنكر العالم الإسلامي دخول القوات الصليبية بلاد الحرمين بحجة الدفاع عنها، حيث قال لهم: إن الأمر يسير، وأن القوات الأمريكية وقوات التحالف سوف تخرج بعد بضعة أشهر. وها نحن اليوم ندخل في السنة السابعة بعد مجيئهم، والنظام عاجز عن إخراجهم، ولا يريد أن يعترف لشعبه بعجزه، فاستمر يكذب على الناس، ويدعي أن الأمريكيين سيخرجون.
وبعد أن استعرض ابن لادن هاتين المسألتين اللتين اعتبرهما ناقضين من نواقض الاسلام العشرة ، أشار الى حرص الدعاة والمصلحين على سلوك سبل الإصلاح السلمية حرصاً على وحدة البلاد، وحقناً لدماء العباد.  وتساءل: “لماذا يوصد النظام جميع سبل الإصلاح السلمية ويدفع الناس دفعاً نحو العمل المسلح؟!!  وهو الباب الوحيد الذي بقي أمام الناس لرفع الظلم وإقامة الحق والعدل”.[26]
ورغم أن ابن لادن كاد أن يفتي بكفر الحكام السعوديين ، لنقضهم بعض شروط الإيمان العشرة ، وأن يفتح باب الهجرة والجهاد ضدهم ،  الا أنه اتخذ قرارا مهما في  تجنب الاقتتال الداخلي ، وعدم توجيه أسلحته الى النظام السعودي مباشرة  ”وذلك لما له من نتائج وخيمة، من أهمها:
1-              استنزاف الطاقات البشرية حيث إن معظم الإصابات والضحايا ستكون من أبناء الشعب المسلم.
2-              استنزاف الطاقات المالية.
3-              تدمير البنية التحتية للدولة.
4-              تفكك المجتمع.
5-              تدمير الصناعات النفطية حيث إن تواجد القوات العسكرية الصليبية والأمريكية في دول الخليج الإسلامي براً وجواً وبحراً هو الخطر الأعظم والضرر الأضخم الذي يهدد أكبر احتياطي بترولي في العالم، وإن انتشار القتال في تلك الأماكن يعرض البترول لمخاطر الاحتراق مما يؤدي للإضرار بالمصالح الاقتصادية لدول الخليج ولبلاد الحرمين بل وأضرار جسيمة للاقتصاد العالمي.
6-              تقسيم بلاد الحرمين واستيلاء إسرائيل على الجزء الشمالي منها، حيث إن تقسيم بلاد الحرمين يعتبر مطلباً ملحاً للتحالف اليهودي الصليبي؛ لأن وجود دولة بهذا الحجم وهذه الطاقات تحت حكم إسلامي صحيح قادم بإذن الله يمثل خطورة على الكيان اليهودي في فلسطين، حيث إن بلاد الحرمين تمثل رمزاً لوحدة العالم الإسلامي نظراً لوجود الكعبة المشرفة قبلة المسلمين أجمعين.
7-              إن أي قتال داخلي مهما تكن مبرراته مع وجود قوات الاحتلال الأمريكي يشكل خطأ كبيراً حيث إن هذه القوات ستعمل على حسم المعركة لصالح الكفر العالمي”.
وانطلاقا من هذه النقاط السبع رفض ابن لادن فتح معركة مباشرة مع النظام السعودي الذي جرده من الشرعية ولكن لم يعلن كفره و ارتداده بصراحة ، وانما تجاوزه وأخذ يعمل وكأن النظام غير موجود ، فأعلن الجهاد في سبيل الله وحرب العصابات ، لإخراج العدو المحتل من بلاد الحرمين وتحرير المقدسات المحتلة ” وذلك بواسطة قوات خفيفة سريعة الحركة، تعمل في سرية تامة، وبعبارة أخرى شن حرب عصابات يشارك فيها أبناء الشعب من غير القوات المسلحة”. ووجه خطابا للقوات المسلحة السعودية بالتعاون معه ، ولكن ليس بالانضمام الكامل اليه الآن “نظرا لعدم التوازن بين قواتنا النظامية المسلحة وقوات العدو . وتعلمون أنه من الحكمة في هذه المرحلة تجنيب قوات الجيش المسلحة الدخول في قتال تقليدي مع قوات العدو الصليبي، ويستثنى من ذلك العمليات القوية الجريئة التي يقوم بها أفراد من القوات المسلحة بصورة فردية، أي بدون تحريك قوات نظامية بتشكيلاتها التقليدية، بحيث لا تنعكس ردود الأفعال بشكل قوي على الجيش ما لم تكن هناك مصلحة كبيرة راجحة، ونكاية عظيمة فادحة في العدو، تحطم أركانه وتزلزل بنيانه ، وتعين على إخراجه مهزوماً مدحوراً مقهوراً، مع الحذر الشديد من أن تُسْفَكَ في ذلك دماء مسلمة.
والذي يرجوه إخوانكم وأبناؤكم المجاهدون منكم في هذه المرحلة هو تقديم كل عون ممكن من المعلومات والمواد والأسلحة اللازمة لعملهم، ويرجون من رجال الأمن خاصة التستر عليهم، وتخذيل العدو عنهم، والإرجاف في صفوفه، وكل ما من شأنه إعانة المجاهدين على العدو المحتل”.    وقال أسامة بن لادن أيضا:”في الوقت الذي نعلم أن النظام يتحمل المسؤولية كاملة في ما أصاب البلاد وأرهق العباد، إلا أن أساس الداء و رأس البلاء هو العدو الأمريكي المحتل ، فينبغي تركيز الجهود على قتله وقتاله وتدميره ودحره والتربص به والترصد له حتى يُهْزَمَ بإذن الله تعالى .ولذا اتفق الجميع على أنه “لا يستقيم الظل والعود أعوج” فلا بد من التركيز على ضرب العدو الرئيسي الذي أدخل الأمة في دوامات ومتاهات منذ بضعة عقود بعد أن قسمها إلى دول ودويلات، وكلما برزت حركة إصلاحية في الدول الإسلامية دفع هذا التحالف اليهودي الصليبي وكلاءه في المنطقة من الحكام لاستنزاف وإجهاض هذه الحركة الإصلاحية بطرق شتى وبما يتناسب معها. والصواب في مثل هذه الحالة التي نعيشها هو تكاتف جميع أهل الإسلام للعمل على دفع الكفر الأكبر الذي يسيطر على بلاد العالم الإسلامي ، ولا يخفى أن دفع هذا العدو الأمريكي المحتل هو أوجب الواجبات بعد الإيمان، فلا يٌقَدَمُ عليه شيء.
والذي ينبغي في مثل هذه الحالة أن يبذل الجميع قصارى الجهد في تحريض وتعبئة الأمة ضد العدو الصائل والكفر الأكبر المخيم على البلاد والذي يفسد الدين والدنيا، ألا وهو التحالف الإسرائيلي الأمريكي المحتل لبلاد الحرمين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام”.
وبما أن ابن لادن قد أسقط شرعية الدولة السعودية وإسلاميتها ، فقد أعلن أنه أصبح في حل من جميع التزاماتها وعهودها ، وخاطب الأمريكيين قائلا:” إن الشباب يعتبرونكم مسؤولين عن كل ما يقوم به إخوانكم اليهود في فلسطين ولبنان من قتلٍ وتشريدٍ وانتهاكٍ لحرمات المسلمين … فأنتم تتحملون بذلك مع النظام السعودي دماء هؤلاء الأبرياء ، كل ذلك يجعل كل عهد لكم معنا منقوضاً. وإن إرهابنا لكم وأنتم تحملون السلاح على أرضنا هو أمرٌ واجبٌ شرعاً ومطلوبٌ عقلاً، وهو حقٌ مشروعٌ في أعراف جميع البشر، بل والكائنات الحية، ومثلكم ومثلنا كمثل أفعى دخلت دار رجلٍ فقتلها، وإن الجبان من يترككم تمشون على أرضه بسلاحكم آمنين مطمئنين. ” وقال:”إن الذين يزعمون أن دماء جنود هذا العدو الأمريكي المحتل لبلاد المسلمين معصومة، إنما يرددون مُكرهين ما يمليه النظام عليهم خوفاً من بطشه وطمعاً في السلامة، والواجب على كل قبيلة في جزيرة العرب أن تجاهد في سبيل الله وتطهر أرضها من هؤلاء المحتلين، وعَلِمَ اللهُ أن دماءهم مهدورة وأموالهم غنيمة، ومن قتل قتيلاً فله سَلَبُه” [27].
وأشار ابن لادن في تلك الرسالة الشهيرة الى قيام الشباب المجاهد بتنفيذ عمليتي الخبر والرياض ضد القوات الأمريكية المتواجدة في السعودية. ثم قام في العام التالي بتأسيس (الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين) واصدر فتوى تنص على وجوب قتل كل مسلم للأمريكيين وحلفائهم. وبارك عملية الهجوم على السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998 ، ثم أيد وبارك عملية الهجوم الكبرى على وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن ومبنى التجارة العالمية في نيويورك في11 أيلول عام 2001م
وعندما اتهمت أمريكا ابن لادن بالوقوف وراء الهجمات وشنت حربا على (منظمة القاعدة) وحكومة طالبان الأفغانية التي آوته ، تبرأت السعودية من ابن لادن واتخذت موقفا مؤيدا للحرب ضد القاعدة وحركة طالبان ، وهذا ما دفع عددا من أئمة المساجد والمشايخ المؤيدين للحركة ، بانتقاد موقف السعودية والدعوة  الى اتخاذ موقف  مناصر لأفغانستان وطالبان ، وحتى الى الجهاد والقتال في مواجهة الهجوم الأمريكي ، و أصدر الزعيم الروحي للحركة المعارضة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي بيانا  طالب فيه  الدول والشعوب الاسلامية بنصرة دولة طالبان ضد الغرب الكافر ، ثم أصدر فتوى باعلان “الجهاد” ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة ،  وقال : “مهمتنا ان نعلن الجهاد ضد من يحارب افغانستان”. مما اعتبر تهديدا للنظام السعودي ومحاولة للخروج على سياسته الموالية لأمريكا وتأييدا لموقف ابن لادن . ثم أصدر فتوى أخرى تنص على تكفير كل من ظاهر الكفار أو أعانهم على المسلمين [28]. فرد عليه وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية السعودي ، بأن أولي الأمر وحدهم المخوَّلون بإعلان الفتاوى والجهاد ، وشدد على وجوب السمع والطاعة [29]. و رد الشعيبي على الوزير بأنه علَّم معظم الجيل الحالي من رجال الدين في المملكة و أن من حقه إصدار فتاوى.[30]
ومع أن الشعيبي لم يصرح بتكفير حكام السعودية ولم يدع الى اسقاطهم ، الا ان موقفه المؤيد لحركة طالبان والقاعدة وفتاواه بنصرتهم وحرمة تأييد أمريكا في عدوانها على أفغانستان ، شكلت علامة على انهيار التحالف التاريخي الذي امتد 250 عاما بين البيت السعودي واتباع المذهب الوهابي ، نظرا لأن الشعيبي يتحدر من نجد ومن (بريدة ) قلعة الوهابية ، وهو واحد من المشهود لهم بمستواهم العلمي العالي ويعتبر من أكبر أساتذة الشريعة في السعودية وله الكثير من الأتباع .  وكان قد اعتقل في منتصف التسعينات على إثر توقيعه على مذكرة النصيحة وجمدت عضويته في هيئة كبار العلماء.
وعلى أي حال ، فان هذه الحركة المعارضة تعتبر اقرب الى روح الحركة الوهابية القديمة ، ونظرا لأنها تعيش في ظل النظام السعودي الذي لم تقرر إعلان الحرب عليه ، فيمكننا افتراض أنها  تمارس التقية ولا تعبر عن رأيها ضد حكام آل سعود بصراحة في كل مكان.[31]

تكفير النظام السعودي و المؤسسة الدينية

وربما كان كتاب (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية)[32] لمؤلفه القريب من تنظيم القاعدة ، يشكل بيانا لحقيقة أفكار الحركة الوهابية المعارضة (الثورية والتكفيرية) ، ضد آل سعود وأتباعهم “الوهابيين” . حيث يقول مؤلفه (النجدي) مستعيدا التراث الوهابي:” ليس كل من ادعى التوحيد او انتسب اليه ولو اسما يحرم ماله ودمه ويكون من الموحدين ، بل لا يكون كذلك حتى يكفر بكل ما يعبد من دون الله ويبرأ منه سواء عبادة سجود او ذبح أو دعاء أم عبادة تشريع واستسلام وتحاكم ، فالإشراك بالله في حكمه من الاشراك به في عبادته. وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب معلقا على حديث مسلم ( من قال لا اله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله):” وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا اله الا الله) فانه لم يجعل التلفظ بها عاصما للمال والدم بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو الا الله وحده حتى يضيف الى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فان شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه”.[33]

ويقول:- “اننا مأمورون بالدخول في الاسلام كافة فننظر في الكتاب فترى قوله تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) والفتنة هي الشرك كل أنواع الشرك لا فرق بين شرك القبور وشرك الدستور”.[34] و إن هذه ” الحكومة (السعودية) الخبيثة الكافرة خرجت من دين الاسلام ومن ملة التوحيد من أبواب شتى :
الاول: التشريع وتحكيم القوانين والتحاكم اليها
الثاني: موالاة أعداء الله من الكفار الشرقيين والغربيين الخليجيين والعرب ، وتوثيق روابط الأخوة والمودة والحب والصداقة وتوليهم بالتأييد والنصرة”.[35]
وقد أخذ النجدي على الحكومة السعودية دخولها في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي ، لأنها في نظره بلاد كفار ، ولأن دخولها في تلك المنظمات العربية والدولية يقوم على تعزيز التضامن بين الدول الأعضاء ، ودعم التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي ، وإيجاد المناخ لتعزيز التعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء والدول الاخرى. ولأنه يقوم أيضا  على مباديء هي:
1-              المساواة التامة بين الدول الأعضاء.
2-              احترام حق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
3-              احترام سيادة واستقلال ووحدة أراضي كل دولة عضو.
4-              حل ما ينشأ من منازعات بحلول سلمية.
5-              الامتناع عن استخدام القوة والتهديد باستعمالها.[36]
وهذه أمور يعتبرها المؤلف مخالفة لعقيدة التوحيد (الوهابية) ومساواة لـ: “الموحدين والمسلمين” مع  “المشركين” – ويعني بهم غير الوهابيين – .
ويتهم المؤلف الحكومة السعودية بالصد عن سبيل الله والكفر به وفتنة “المسلمين” عن دينهم واضطهاد “الموحدين  الحقيقيين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المتبرئين من كل الطواغيت” و سجنهم وقتلهم وطردهم  وملاحقتهم . وموالاة أعداء الدين ونصرتهم ومودتهم ومحبتهم .[37]
ويأخذ على حكام السعودية ” تشريعهم مع الله ما لم يأذن  به الله واتباعهم لأقوال المشرعين من الكفرة أعداء الدين ودخولهم في دين الطواغيت المختلفة اقليمية كانت أم عالمية دولية” .[38]    وينتقدهم على “إدخال مشركي الطواغيت العربية الى بيت الله الحرام أثناء عقد مؤتمر القمة في مكة ، وإدخال كل من  يشاءون من إخوانهم الذين قال الله تعالى فيهم: ( انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)”.[39]
ثم ينتقل مؤلف الكتاب (النجدي) من التكفير الى الهجرة والجهاد ، فيقول: “نص العلماء على ان الحاكم اذا أظهر الكفر البواح يجب القيام عليه وعزله وتبديله وتغييره لإقامة شرع الله وتحقيق توحيده كاملا ، ومن داهن فعليه الإثم والعقوبة. ومن ضعف عنه وجبت عليه الهجرة وعدم الركون للكفر وحكوماته ، بل تحديث النفس بجهادهم دوما وتربية الذراري على ذلك وغرسه في نفوسهم.. واعلم ان من أعظم أنواع الهجرة الواجبة في كل زمان هجرة كل وظيفة وعمل فيه نصرة وإعانة لهؤلاء الطواغيت وقوانينهم “. [40]
ويقول ايضا: ” انه لا يصلح لمسلم شم رائحة التوحيد وعرف الشرك أن يكون معينا لهذه الدولة وأمثالها من الدول المرتدة الكافرة … فلا يجوز له بحال ان يعمل في عساكرها ولا حرسها الوطني ولا جيشها أو شرطتها ولا مخابراتها أو أمنها وجواسيسها. فان هذا كله من توليها ونصرتها على المؤمنين الموحدين المتبرئين منها الكافرين بها ، فهو بذلك لا يقف عند حدود المعصية بل يتعداه الى الكفر والردة”.[41] ويتساءل: ما الموقف من هذه الدولة الخبيثة وأمثالها من الحكومات المرتدة؟..  ويجيب : انه الهجرة والجهاد. وغاية هذا القتال تحقيق توحيد الله ، إذ (لا اله الا الله) تعني البراءة من  كل دين وطاغوت ومنهج وقانون ومعبود غير الله ، وعداوة أهل الشرك وموالاة أهل الإيمان.[42]ومن أراد طريقة السلف فليتأمل فرارهم من أبواب السلاطين وأمراء الجور في أزمنة الخلافة فكيف في أزمنة الكفر والقانون وتولي أعداء الله”.[43]ويقول: “ما أشد انطباق ما قاله جدهم عبد العزيز بن سعود عليهم في رسالة بعث بها الى بلاد العجم والروم: ( نحن لا نكفر الا من عرف التوحيد وسبّه وسماه دين الخوارج ، وعرف الشرك وأحبه وأهله ودعا اليه وحض الناس عليه بعدما قامت عليه الحجة ، وان لم يفعل الشرك أو فعله وسماه بغير اسمه بعدما عرف أن الله حرمه). الدرر السنية 1/145″.

الموقف من علماء السلاطين

وبعد تكفير الدولة السعودية ، يشن النجدي هجوما عنيفا ضد رجال الدين الوهابيين المتحالفين مع الحكومة ، ويتهمهم بتولي أعداء الله ومحاربة أوليائه ، وفتنة الأمة والتلبيس عليها ، وممارسة شرك العصر الصريح باسم الاسلام والتوحيد. ويطالب بوعظ العلماء وهجرهم حتى يرتدعوا ويقلعوا عن مداهنة السلاطين والركون اليهم والجدال عنهم.[44]ويقول: ” أذكّر الموحد وأنبهه الى عدم الاغترار بعلماء الحكومات ، هؤلاء الذين يتجاهلون ما يدور حولهم من كفريات وفضائح آل سعود وحكومتهم ، ولا هَمَّ لهم الا الهجوم على الموحدين المتبرئين من طواغيتهم الكافرين بحكومتهم.  أي والله لا تغتروا بشهاداتهم ولا بألقابهم أو لحاهم وعمائمهم.( لا تلق مبتدعا ولا متزندقا  الا بعبسة مالك الغضبان).. أنا أدعو هؤلاء المشايخ الى ان يجلسوا من جديد ليتعلموا التوحيد الحق ويتعلموا معنى لا إله الا الله من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده الذين طالما تمسحت دولتهم هذه بطريقتهم وهم منها براء”.[45]

ويتحدث المؤلف (أبو البراء النجدي) عن (الأفغان السعوديين) والتكفير ، فيقول:”ها هم أفواج الشباب يعودون مدربين على القتال والسلاح والمتفجرات من أفغانستان ، وقد استفادوا بعدما خرجوا من أسوار الجزيرة الى السعودية بغير الوجه الذي خرجوا به أول الأمر .. فها هو فكر (تكفير وقتال الحكومة وكل من ناصرها وعاونها ووالاها) قد انتشر بين الشباب العائد من أفغانستان انتشار النار في الهشيم”.[46] “وها هم الشباب يرجعون وقد فقدوا الثقة بكل من يمدح هؤلاء الطواغيت أو يثني عليهم أو يجادل عنهم او يقف بأبوابهم مهما طالت لحيته وكبر لقبه. فخرج علينا المشايخ في الآونة الأخيرة يركزون في خطبهم ومحاضراتهم على محاربة الآراء الشاذة والأفكار المتطرفة ، يقصدون تكفير حكومتهم و تكفير من تولاها والدعوة الى جهادها”.[47]

واذا قدر لهذه الحركة الوهابية الأصيلة ان تنتصر في “جهادها” ضد آل سعود ، فانها كما يبدو سوف تعيد تجربة الحكم السعودي الوهابي تماما ، ولن تغير شيئا في أسس النظام السياسي ، وذلك لأنها لا تملك فكرا نقديا جذريا ، ولا تضع إصبعها على مواطن الخلل والاستبداد ، ولا تعرف غير الدعوة الى إطاعة الحكام الجدد إطاعة مطلقة. وحتى ذلك اليوم ، فانها بالطبع لا يمكن ان تقبل بأي نظام ديموقراطي حديث يقوم على الشورى والمشاركة من قبل جميع الطوائف والأحزاب والفئات الاجتماعية ، في العملية السياسية ، سواء في ظل آل سعود أو في ظل غيرهم ، فانها تعتبر ذلك نوعا من الشرك والكفر بالله.
يقول أبو محمد عاصم المقدسي (أحد زعماء الوهابية الجديدة ومن المقربين الى تنظيم القاعدة) في كتابه: (الديموقراطية دين):”ان الديموقراطية دين غير دين الله ، وملّة غير ملة التوحيد ، وان مجالسها النيابية ليست الا صروحا للشرك ومعاقل للوثنية ، يجب اجتنابها لتحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، بل السعي لهدمها ومعاداة أوليائها وبُغضهم وجهادهم. وان هذا ليس أمرا اجتهاديا كما يحلو لبعض الملبسين أن يجعلوه ، بل هو شرك واضح مستبين وكفر بواح صراح قد حذر الله تعالى منه في محكم تنزيله ، وحاربه المصطفى (ص) طيلة حياته”.[48]
ويقول:” الطاغوت الذي يجب عليك أن تكفر به وتتجنب عبادته لتستمسك بعروة النجاة الوثقى ، ليس فقط أحجارا وأصناما وأشجارا وقبورا تعبد بسجود أو دعاء أو نذر أو طواف وحسب.. بل هو أعم من ذلك…ان الطاعة في التشريع عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله ، فلو صرفها المرء لغير الله ولو في حكم واحد كان بذلك مشركا”[49] ويقول:” ان ترجمة الديموقراطية الحرفية هي: (حكم الشعب أوسلطة الشعب أو تشريع الشعب) وهذا من أخص خصائص الكفر والشرك والباطل الذي يناقض دين الاسلام وملة التوحيد أشد المناقضة ويعارضه أشد المعارضة… فالديموقراطية كفر بالله العظيم وشرك برب السماوات والأرضين ومناقضة لملة التوحيد ودين المرسلين”.[50]
ويقول أيضا:”الشعب في دين الديموقراطية يُنيب عن نفسه النوابَ ، فتتخير كل طائفة أو جماعة أو قبيلة منهم رباً من هؤلاء الأرباب المتفرقين ، ليشرعوا لهم تبعا لأهوائهم ورغباتهم… فمنهم من يتخير معبوده ومشرعه تبعا للفكر والأيديولوجية ، فإما رب من الحزب الفلاني ، أو إله من الحزب العلاني ، ومنهم من يتخيره تبعا للقبيلة والعصبية ، فإما إله من القبيلة الفلانية أو وثن معبود من القبيلة العلانية ، ومنهم من يتخيره إلها سلفيا بزعمهم ، وآخر يجعله رباً إخوانيا أو معبودا ملتحيا وآخر حليقا.. وهكذا.. فهؤلاء النواب هم في الحقيقة أوثان منصوبة وأصنام معبودة وآلهة مزعومة منصوبة في معابدهم ومعاقلهم الوثنية (البرلمانات) يدينون هم وأتباعهم بدين الديموقراطية وشرع الدستور”.[51]
ان موقف الحركة الراديكالية (التكفيرية) السلبي من الشورى والديموقراطية ، هو الذي دفعها لاختيار الطريق العسكري في عملية التغيير السياسي ، كطريق  لا تجد دونه سبيلا ، ولما كانت منظمة (القاعدة) التي يقودها  أسامة بن لادن ، والتي تنتقد التعاون العسكري بين الرياض و واشنطن ، أو ما تسميه بالاحتلال العسكري الأمريكي لبلاد الحرمين ، لا تملك اسلوبا ديموقراطيا لفرض موقفها على الحكومة السعودية ودفعها الى طرد القوات الأمريكية بشكل سلمي ، وذلك لغياب النظام الديموقراطي في السعودية ، وبما أنها لم تكن ترغب في إشعال حرب داخلية مع النظام السعودي ، فانها فضلت توجيه ضرباتها الى تلك القوات الأمريكية ، وأعلن  ابن لادن ، كما رأينا في رسالته الشهيرة التي أصدرها عام 1997 ، أنه في حل من المعاهدات الحكومية وطالب الشعب السعودي بتوجيه أقسى الضربات للأمريكيين في داخل السعودية وخارجها لإجبارهم على الانسحاب من الجزيرة العربية. وبكلمة أخرى.. إن توجه ابن لادن ومنظمة (القاعدة) للاشتباك مع أمريكا هو نتيجة غياب الديموقراطية في النظام السعودي ، وفي فكر المعارضة الوهابية الراديكالية التي لا تؤمن بالديموقراطية. ولو كان ثمة أي نافذة ديموقراطية للتغيير والحل السياسي والمشاركة الشعبية في السلطة لما وجد ابن لادن نفسه مضطرا لحمل السلاح نيابة عن الحكومة ومطالبة أمريكا مباشرة بالخروج من الجزيرة العربية.




[1]  - كان الشيخ ابن باز قد قال: “و أما ماحصل من الحكومة السعودية لأسباب الحوادث المترتبة على الظلم الصادر من رئيس دولة العراق لدولة الكويت ومن استعانتها بجملة من الجيوش التي حصلت من أناس متعددة من المسلمين وغيرهم لصد العدوان والدفاع عن البلاد فذلك جائز بل تحكمه الضرورة  ، فهي معذورة في ذلك ومشكورة على مبادرتها”.  مجلة إقرأ ، العدد 779 بتاريخ 23/8/1990 و  أنور عبد الله ، العلماء والعرش 394

[2]  - أمثال: الشيخ عبد الله بن قعود ، والشيخ عبد الله بن جبرين ، والشيخ سليمان بن فهد العودة ، والشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي ، والشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي ، والشيخ عبد الله المسعري ، رئيس ديوان المظالم سابقا.
[3]  - عبد الله ، أنور : العلماء والعرش ، ص 397
[4] – عبد الله ، أنور: العلماء والعرش ، 397

[5]  - عبد الله ،  أنور: العلماء والعرش ، 398
[6]  - عبد الله ، أنور : العلماء والعرش ، 399
[7]  - مذكرة النصيحة ، ص 10
[8]  - مذكرة النصيحة ، ص 10- 11
[9]  - مذكرة النصيحة ، ص 12-13
[10]  - مذكرة النصيحة ، ص 20 و21 و23
[11]  - مذكرة النصيحة ، ص 25
[12]  - مذكرة النصيحة ، ص 35
[13]  -  مذكرة النصيحة ، ص 36-37 و 41
[14]  - مذكرة النصيحة ، ص 47-48
[15]  - مذكرة النصيحة ، ص 74 و 77
[16]  - طبعا فيما عدا الحركات والدول الشيعية التي أصدر الشيخ ابن جبرين فتوى بتكفيرهم بصورة عامة.
[17]  - مذكرة النصيحة ، ص 91و93
[18]  - العتيبي ، جهيمان : الحاكمية وتقديم الطاعة وكشف خداع الحاكم للعامة وطلاب العلم، ص 11 نقلا عن : الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية ص 259

[19] – المصدر ، نقلا عن : الكواشف الجلية 260
[20]  - النجدي ، أبو البراء عبد العزيز : الكواشف الجلية258- 260
[21]  - يقول جهيمان عن الشيخ ابن باز:” انه ركن من أركان الدولة .. وهو الآن موظف إداري ويخدعونه بـ : (أبونا) و ( شيخنا) وغير ذلك من اجراءات المنافقين. وانما يأخذون منه ومن علمه ما وافق أهواءهم ، فاذا خالفهم بالحق لم يتحرجوا في مخالفته ورد الحق ، وهو يعلم ذلك جيدا .. وأكبر ما جعلنا ننفر منه تعلقه بهذه الدولة الملبسة حتى رأينا أثر ذلك عليه عافاه الله مما هو فيه”.  من (رسالة الإمارة)لجهيمان  العتيبي ، ص 23 نقلا عن : الكواشف الجلية 251-253
[22]  - الياسيني ، أيمن : الاسلام والعرش 201
[23]  - مجلة البحوث الاسلامية ، السعودية (العدد الاول من المجلد الثاني ) بعنوان : (حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر)  والكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية ، 255-256

[24] -   شيخ سوري معارض كان يدرس في جامعة الامام محمد بن سعود في السعودية ، واستقر في لندن بعد حرب الخليج الثانية.
[25]  - يعتقد الشيخ محمد سرور زين العابدين :أن الأمير محمد بن سعود هو الذي بايع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وليس العكس، وأن ذلك يعني : أن الشيخ أصبح إمام هذه البلدة وصاحب القرار الأول فيها.  وذلك بناء على رواية المؤرخين الوهابيين ابن غنام وابن بشر ، التي تقول:  إن محمداً بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقام الشيخ ودخل معه البلد، واستقر عنده . وأن الشيخ كان مع محمد بن سعود يسيران الجيوش، ويستقبلان الوفود ، وأن الأخماس والزكاة وما يُجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها كلها ، كانت تدفع إلى الشيخ بيده ، ويضعها حيث شاء ، ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئاً إلا عن أمره ،وأن الحل والعقد والأخذ والعطاء ، والتقديم والتأخير،  كان بيده ، ولا يركب جيش، ولا يصدر رأي من محمد وابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه . وأن الشيخ فوّض بعد فتح الرياض أمور المسلمين  وبيت المال الى عبد العزيز بن محمد بن سعود ، وانسلخ منها ، وانصرف للعبادة وتعليم العلم ، ومع ذلك فان عبد العزيز لم يكن يقطع أمراً دونه، ولا ينفذه إلا بإذنه ، مما يدل  على أن محمد بن عبد الوهاب كان هو رأس ذلك النظام المحكم لعقده .  ولذا فان هناك من يقول:إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخطأ عندما قبل أن يكون الحكم وراثياً في آل سعود الذين استغلوا هذه الدعوة وأفرغوها من مضمونـها الإصلاحي. وبناء على ذلك يطالب بعودة الأمور في الدولة الوهابية ، الى أيدي العلماء ورجال الدين كما كانت في العهد الأول.

[26]  -   ثم انتقل الى الحديث عن حركته الاصلاحية وتواجده في أفغانستان من أجل العمل على رفع الظلم الذي وقع على الأمة من التحالف اليهودي الصليبي، الذي استباح بلاد الحرمين.  والتذاكر لبحث سبل الإصلاح لما حل بالعالم الإسلامي عامة، وببلاد الحرمين خاصة، وتدارس السبل التي يمكن بسلوكها إعادة الأمور إلى نصابها، والحقوق إلى أصحابها. وخاصة بعد أن أصاب الناس ما أصابهم من خطب عظيم… وبات الوضع في بلاد الحرمين أشبه ببركان هائل يكاد أن ينفجر فيقضي على الكفر والفساد .

[27]  - تجد نص الرسالة كاملا على العنوان التالي في شبكة المعلوماتية
http://www.aloswa.org/bayanat/afgan/laden2.html
[28]  -  وقد أصدر عدد من رجال الدين الآخرين من أتباع الشعيبي مثل سليمان علوان وعلي خضير وبشر بن فهد آل بشر ، وسلمان العودة ، وناصر العمر ، وحامد العلي ، فتاوى تندد بالدعم المقدم للأمريكيين ، وتكفر من يناصر الكفار ضد المسلمين (الأفغان) .وقد حذر وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز بتاريخ 18/10/2001 من عملية التكفير الموجهة ضد الحكومة والعلماء وقال:”نحن أهل الاسلام نحن الذين نطبق شرع الله فكيف يتجرأ أناس مثل هؤلاء ويكفرون أبناء البلد ، قيادة وعلماء ورجالا ونساء؟ كيف نقبل هذا؟”.

[29]  - في حوار مع جريدة الرياض بتاريخ 8/11/2001 وقد أيده في ذلك بعض مشايخ الدولة مثل الشيخ صالح  اللحيدان ، رئيس مجلس القضاء الأعلى ، والسدلان ، اللذين أدانا عملية الهجوم على أمريكا في 11 سبتمبر ، و اتهما جماعة (القاعدة) بالخروج والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

[30]  -  وبعث الشيخ الشعيبي وتلميذاه علي الخضير وسليمان العلوان ، في 16/10/1422هـ برسالة دعم لأمير حركة طالبان الملا عمر يحثونه فيها على الصمود ومقاومة الهجوم الأمريكي ، جاء فيها: “نشهد أنكم أنتم وحدكم الذين رفعتم رؤوسكم في زمن طأطأ الكثير من المسلمين رؤوسهم لدولة الكفر والصليب أمريكا ، فلم يتشرف المسلمون برجل قال ( لا ثم لا ) لما تطلبه أمريكا في هذا العصر إلا بكم ، فيا سعادة المسلمين بأمثالكم …  فصبرتم  يوم أن تخاذل الجميع وتبدلت العقائد وظهرت نواقض الإسلام في كثير ممن ينتسبون إليه .  
    أمير المؤمنين إن إعجابنا بأفعالكم ومناصرتنا لها لا ينقطع ولن ينقطع أبداً بإذن الله تعالى ما لم تبدلوا وتهنوا أو تتراجعوا نسأل الله لنا ولكم الثبات حتى الممات ، وإننا نطمئنكم بأننا وشريحة عظيمة من العلماء والدعاة وطلبة العلم معكم ونؤيدكم ، ونقول لكم لا يسوءكم ولا يفت من قوتكم وإصراركم قول بعض المتخاذلين والمرجفين الذين ذموا صمودكم ولاموا أفعالكم … فقد قرت بكم عيون الموحدين ورضيت بكم عساكر الرحمن ، فنحن من ورائكم نناصركم بكل ما نستطيع ونحرض المؤمنين على القتال في صفوفكم …
وختاماً فإننا نوصي جميع المسلمين في كل مكان بمناصرة الإمارة الإسلامية في جهادها هذا ضد ملل الكفر جميعاً ، كما نوصي الأفغان خاصة بأن يبذلوا أنفسهم لله تعالى ويناصروا الإمارة الإسلامية ويقفوا تحت لواء أمير المؤمنين “.
[31]  - وقد عاد ابن لادن فاتهم النظام السعودي بالردة و الكفر ، وذلك في رسالته الصوتية الى قناة الجزيرة يوم عيد الأضحى من سنة 1423 المصادف 11 شباط 2003 حيث قال: ان “كل من اعان اميركا من حكام الدول العربية عبر توطين القواعد او اي نوع من انواع الدعم ولو بالكلام ، في قتل المسلمين ، عليه ان يعلم انه مرتد وخارج عن الدين” الاسلامي” . ودعا المسلمين الى التمرد على الانظمة الحاكمة قائلا “نؤكد على الصادقين من المسلمين انه يجب عليهم ان يتحركوا ويحرضوا ويجيشوا الامة في مثل هذه الاحداث العظام لتتحرر من عبودية هذه الانظمة الحاكمة الظالمة المرتدة المستعبدة من اميركا ويقيموا حكم الله في الارض”. واعتبر ان “اكثر المناطق تأهلا للتحرير هي الاردن والمغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين (السعودية) واليمن”.
[32] – المنشور عام 1994 عن دار القصيم في لندن ، باسم مستعار هو: ( أبي البراء مرشد بن عبد العزيز بن سليمان النجدي) (واسمه الحقيقي: أبو محمد عاصم البرقاوي المقدسي) الأردني القريب من تنظيم القاعدة .
[33]  - النجدي: الكواشف الجلية 195

[34]  - النجدي: الكواشف الجلية 283
[35]  - النجدي: الكواشف الجلية 191
[36]  - النجدي: الكواشف الجلية 191
[37]  - النجدي: الكواشف الجلية 249
[38]  - النجدي: الكواشف الجلية 250

[39]  -النجدي: الكواشف الجلية 251
[40]  -النجدي: الكواشف الجلية 196
[41]  - النجدي: الكواشف الجلية 198
[42]  - النجدي: الكواشف الجلية 194
[43]  - النجدي: الكواشف الجلية 285

[44]  - النجدي: الكواشف الجلية 286
[45]  - النجدي: الكواشف الجلية 244
[46]  - النجدي: الكواشف الجلية 271
[47]  - النجدي: الكواشف الجلية 272
[48]  - المقدسي : الديموقراطية دين ، ص 2
[49]  - المقدسي: الديموقراطية دين ، ص 2 – 3
[50]  - المقدسي ، الديموقراطية دين ، ص 8
[51]  - المقدسي ، الديموقراطية دين ، ص 10

3 – المعارضة الثورية المسلحة (تنظيم القاعدة)

وقد انبثقت هذه المعارضة (الثورية) من صفوف المعارضة الموالية ، بعد فشل الحوار مع النظام وعجزها عن تحقيق أهدافها بالطرق السلمية ، فتطورت نحو التكفير والخروج المسلح ، وانتشرت بشكل رئيسي في صفوف القواعد الشعبية الوهابية وخاصة “الأفغان السعوديين” الذين شاركوا في حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي وكان يبلغ عددهم حوالي خمسة عشر ألفا ، والذين عادوا الى بلادهم ليجدوا الاحتلال الأمريكي قد جثم على بلاد الحرمين منذ حرب الخليج الثانية عام 1991
وربما كانت الرسالة المفتوحة التي بعث بها أسامة بن لادن  الى عامة المسلمين وأبناء جزيرة العرب بالخصوص ، عام 1997 تشرح حالة الإحباط التي كان يشعر بها ذلك الفريق من المعارضة الوهابية ، بعد وصول طريق الإصلاح السلمي الى طريق مسدود ، والتي شكلت المنطلق للحركة ، والتي  يقول فيها:
-  “بذلت كل فئة جهدها للتحرك السريع لتدارك الموقف، وتلافي الخطر، فنصحوا سراً وجهراً، ونثراً وشعراً، زرافات ووحدانا، وأرسلوا العرائض تتلوها العرائض، والمذكرات تتبعها المذكرات، وما تركوا سبيلاً إلا ولجوه ولا رجلاً مؤثراً إلا وأدخلوه معهم في تحركهم الإصلاحي، وقد كانوا متوخين في كتاباتهم أسلوب الرفق واللين بالحكمة والموعظة الحسنة داعين إلى الإصلاح والتوبة من المنكرات العظام والمفاسد الجسام التي شمل فيها التجاوز مُحْكَمَات الدين القطعية وحقوق المواطنين الشرعية.  ولكن – للأسف الشديد- لم يجدوا من النظام إلا الصدود والإعراض، بل والسخرية والاستهزاء، ولم يقف الأمر عند حد تسفيههم فقط، بل تعززت المخالفات السابقة بمنكرات لاحقة أكبر وأكثر.. فلم يعد السكوت مستساغاً، ولا التغاضي مقبولا. ..ولما بلغ التجاوز ما بلغ، وتعدى حدود الكبائر والموبقات إلى نواقض الإسلام الجليات، قامت مجموعة من العلماء والدعاة الذين ضاقت صدورهم ذرعاً بما أصم آذانهم من أصوات الضلال، وغشي أبصارهم من حجب الظلم، وأزكم أنوفهم من رائحة الفساد …فانبعثت نذر الرفض ، وارتفعت أصوات الإصلاح داعية لتدارك الموقف، وتلافي الوضع، وانضم إليهم في ذلك المئات من المثقفين، والوجهاء، والتجار، والمسؤولين السابقين، فرفعوا إلى الملك العرائض والمذكرات المتضمنة المطالبة بالإصلاح ، غير أنه تجاهل النصح، واستهزأ بالناصحين، وظلت الأوضاع تزداد سوءاً على سوء .
وحينئذٍ أعاد هؤلاء الناصحون الكرة من جديد بمذكرات وعرائض أخرى كان من أهمها مذكرة النصيحة التي سُلِمَتْ للملك في محرم 1413 هـ والتي شَخَّصت الداء ووصفت الدواء، في تأصيل شرعي قويم، وعرض علمي سليم، فتناولت بذلك الفجوات الكبرى في فلسفة النظام، ومواضع الخلل الرئيسية في دعائم الحكم، فبينت ما يعانيه رموز المجتمع وقياداته الداعية للإصلاح – كالعلماء والدعاة وشيوخ القبائل والتجار والوجهاء وأساتذة الجامعات- من تهميشٍ وتحييد، بل ومن ملاحقة وتضييق.
و أوضحت حالة الأنظمة واللوائح في البلاد، وما تضمنته من مخالفات شملت التحريم والتحليل تشريعاً من دون الله. ..  و بينت المذكرة تعطيل العديد من الأحكام الشرعية واستبدالها بالقوانين الوضعية… وعلى صعيد سياسة الدولة الخارجية كشفت المذكرة ما تميزت به هذه السياسة من خذلان وتجاهل قضايا المسلمين، بل ومن مناصرة ومؤازرة الأعداء ضدهم وليست (غزة – أريحا) والشيوعيون في جنوب اليمن عنا ببعيد، وغيرهما كثير.  ولا يخفى على أحد أن تحكيم القوانين الوضعية، ومناصرة الكافر على المسلم معدودة في نواقض الإسلام العشرة.
ومع أن المذكرة عرضت كل ذلك بلين عبارة، ولطف إشارة، مذكرة بالله، واعظة بالحسنى، في أسلوب رقيق ومضمون صادق ورغم أهمية النصيحة في الإسلام، وضرورتها لمن تولى أمر الناس، ورغم عدد ومكانة الموقعين على هذه المذكرة، والمتعاطفين معها، فإن ذلك لم يشفع لها، إذ قوبل مضمونها بالصد والرد، ومُوقْعُوها والمتعاطفون معها بالتسفيه والعقاب والسجن”.
وهكذا ينتقل ابن لادن الى مرحلة جديدة هي سحب الشرعية الدينية من النظام السعودي ومقاربة القول بتكفيره ، في خطوة من أجل تبرير الخروج عليه والتحرر من بيعته والولاء له ، إذ  يقول:   
 - ” إن النظام قد مزق شرعيته بيده بأعمال كثيرة أهمها:
1-  تعطيله لأحكام الشريعة الإسلامية، واستبدالها بالقوانين الوضعية. .. حتى وصل إلى الظلم العظيم وهو الشرك بالله ومشاركة الله في تشريعه للناس،  وإباحة ما حرم الله كالربا وغيره حتى في البلد الحرام عند المسجد الحرام.
2- عجزه عن حماية البلاد وإباحتها السنين الطوال لأعداء الأمة من القوات الصليبية الأمريكية”.
ويقول:” في الوقت الذي لم تسترجع الأمة بعد قبلتها الأولى، ومسرى نبيها عليه الصلاة والسلام .. إذ بالنظام السعودي يفجع الأمة بما تبقى لها من مقدسات: مكة المكرمة والمسجد النبوي بأن جلب نساء جيوش النصارى للدفاع عنه، وأباح بلاد الحرمين للصليبيين ، وفتحها بطولها وعرضها لهم، فامتلأت بقواعد جيوش أمريكا وحلفائها، وقد خالف بإباحته الجزيرة العربية للصليبيين الوصية التي أوصى بها رسول الله  أمته وهو على فراش الموت حيث قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) ؛ لأنه أصبح عاجزاً أن يقف بدون مساعدتهم، فخان بذلك الأمة، ووالى الكفّار وناصرهم وظاهرهم على المسلمين، ولا يخفى أن ذلك معدود في نواقض الإسلام العشرة.
“وكان أن أُصيبَ المسلمون بمصيبة من أعظم المصائب التي أُصيبوا بها منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهي احتلال بلاد الحرمين ، عقر دار الإسلام، ومهبط الوحي، ومنبع الرسالة، وبها الكعبة المشرفة قبلة المسلمين أجمعين ، وذلك من قبل جيوش النصارى من الأمريكيين وحلفائهم”.
ورفض أسامة بن لادن دعوى الحكومة السعودية بأن القوات الأمريكية هي لحماية أرض الحرمين ، وبأنها مسألة مؤقتة للدفاع عنها . واستشهد بقول وزير الدفاع الأمريكي وليام بيري  للجنود الأمريكيين بعد انفجار الخبر ، بأن وجودهم في بلاد الحرمين إنما هو لحماية المصالح الأمريكية. وأكد ابن لادن: بأن تواجد الأمريكيين في الجزيرة العربية هو احتلالّ عسكريّ مخططّ له من قبل ، وإن هذا الادعاء هو خدعة أخرى يريد النظام أن تنطلي على المسلمين ، ليذهب ما تبقى لنا من مقدسات، فَكَذَب  على العلماء الذين أفتوا بدخول الأمريكان، وكذلك على الجمع العظيم من علماء وقيادات العالم الإسلامي في مؤتمر الرابطة في مكة المكرمة بعد أن استنكر العالم الإسلامي دخول القوات الصليبية بلاد الحرمين بحجة الدفاع عنها، حيث قال لهم: إن الأمر يسير، وأن القوات الأمريكية وقوات التحالف سوف تخرج بعد بضعة أشهر. وها نحن اليوم ندخل في السنة السابعة بعد مجيئهم، والنظام عاجز عن إخراجهم، ولا يريد أن يعترف لشعبه بعجزه، فاستمر يكذب على الناس، ويدعي أن الأمريكيين سيخرجون.
وبعد أن استعرض ابن لادن هاتين المسألتين اللتين اعتبرهما ناقضين من نواقض الاسلام العشرة ، أشار الى حرص الدعاة والمصلحين على سلوك سبل الإصلاح السلمية حرصاً على وحدة البلاد، وحقناً لدماء العباد.  وتساءل: “لماذا يوصد النظام جميع سبل الإصلاح السلمية ويدفع الناس دفعاً نحو العمل المسلح؟!!  وهو الباب الوحيد الذي بقي أمام الناس لرفع الظلم وإقامة الحق والعدل”.[1]
ورغم أن ابن لادن كاد أن يفتي بكفر الحكام السعوديين ، لنقضهم بعض شروط الإيمان العشرة ، وأن يفتح باب الهجرة والجهاد ضدهم ،  الا أنه اتخذ قرارا مهما في  تجنب الاقتتال الداخلي ، وعدم توجيه أسلحته الى النظام السعودي مباشرة  “وذلك لما له من نتائج وخيمة، من أهمها:
1-              استنزاف الطاقات البشرية حيث إن معظم الإصابات والضحايا ستكون من أبناء الشعب المسلم.
2-              استنزاف الطاقات المالية.
3-              تدمير البنية التحتية للدولة.
4-              تفكك المجتمع.
5-              تدمير الصناعات النفطية حيث إن تواجد القوات العسكرية الصليبية والأمريكية في دول الخليج الإسلامي براً وجواً وبحراً هو الخطر الأعظم والضرر الأضخم الذي يهدد أكبر احتياطي بترولي في العالم، وإن انتشار القتال في تلك الأماكن يعرض البترول لمخاطر الاحتراق مما يؤدي للإضرار بالمصالح الاقتصادية لدول الخليج ولبلاد الحرمين بل وأضرار جسيمة للاقتصاد العالمي.
6-              تقسيم بلاد الحرمين واستيلاء إسرائيل على الجزء الشمالي منها، حيث إن تقسيم بلاد الحرمين يعتبر مطلباً ملحاً للتحالف اليهودي الصليبي؛ لأن وجود دولة بهذا الحجم وهذه الطاقات تحت حكم إسلامي صحيح قادم بإذن الله يمثل خطورة على الكيان اليهودي في فلسطين، حيث إن بلاد الحرمين تمثل رمزاً لوحدة العالم الإسلامي نظراً لوجود الكعبة المشرفة قبلة المسلمين أجمعين.
7-              إن أي قتال داخلي مهما تكن مبرراته مع وجود قوات الاحتلال الأمريكي يشكل خطأ كبيراً حيث إن هذه القوات ستعمل على حسم المعركة لصالح الكفر العالمي”.
وانطلاقا من هذه النقاط السبع رفض ابن لادن فتح معركة مباشرة مع النظام السعودي الذي جرده من الشرعية ولكن لم يعلن كفره و ارتداده بصراحة ، وانما تجاوزه وأخذ يعمل وكأن النظام غير موجود ، فأعلن الجهاد في سبيل الله وحرب العصابات ، لإخراج العدو المحتل من بلاد الحرمين وتحرير المقدسات المحتلة ” وذلك بواسطة قوات خفيفة سريعة الحركة، تعمل في سرية تامة، وبعبارة أخرى شن حرب عصابات يشارك فيها أبناء الشعب من غير القوات المسلحة”. ووجه خطابا للقوات المسلحة السعودية بالتعاون معه ، ولكن ليس بالانضمام الكامل اليه الآن “نظرا لعدم التوازن بين قواتنا النظامية المسلحة وقوات العدو . وتعلمون أنه من الحكمة في هذه المرحلة تجنيب قوات الجيش المسلحة الدخول في قتال تقليدي مع قوات العدو الصليبي، ويستثنى من ذلك العمليات القوية الجريئة التي يقوم بها أفراد من القوات المسلحة بصورة فردية، أي بدون تحريك قوات نظامية بتشكيلاتها التقليدية، بحيث لا تنعكس ردود الأفعال بشكل قوي على الجيش ما لم تكن هناك مصلحة كبيرة راجحة، ونكاية عظيمة فادحة في العدو، تحطم أركانه وتزلزل بنيانه ، وتعين على إخراجه مهزوماً مدحوراً مقهوراً، مع الحذر الشديد من أن تُسْفَكَ في ذلك دماء مسلمة.
والذي يرجوه إخوانكم وأبناؤكم المجاهدون منكم في هذه المرحلة هو تقديم كل عون ممكن من المعلومات والمواد والأسلحة اللازمة لعملهم، ويرجون من رجال الأمن خاصة التستر عليهم، وتخذيل العدو عنهم، والإرجاف في صفوفه، وكل ما من شأنه إعانة المجاهدين على العدو المحتل”.    وقال أسامة بن لادن أيضا:”في الوقت الذي نعلم أن النظام يتحمل المسؤولية كاملة في ما أصاب البلاد وأرهق العباد، إلا أن أساس الداء و رأس البلاء هو العدو الأمريكي المحتل ، فينبغي تركيز الجهود على قتله وقتاله وتدميره ودحره والتربص به والترصد له حتى يُهْزَمَ بإذن الله تعالى .ولذا اتفق الجميع على أنه “لا يستقيم الظل والعود أعوج” فلا بد من التركيز على ضرب العدو الرئيسي الذي أدخل الأمة في دوامات ومتاهات منذ بضعة عقود بعد أن قسمها إلى دول ودويلات، وكلما برزت حركة إصلاحية في الدول الإسلامية دفع هذا التحالف اليهودي الصليبي وكلاءه في المنطقة من الحكام لاستنزاف وإجهاض هذه الحركة الإصلاحية بطرق شتى وبما يتناسب معها. والصواب في مثل هذه الحالة التي نعيشها هو تكاتف جميع أهل الإسلام للعمل على دفع الكفر الأكبر الذي يسيطر على بلاد العالم الإسلامي ، ولا يخفى أن دفع هذا العدو الأمريكي المحتل هو أوجب الواجبات بعد الإيمان، فلا يٌقَدَمُ عليه شيء.
والذي ينبغي في مثل هذه الحالة أن يبذل الجميع قصارى الجهد في تحريض وتعبئة الأمة ضد العدو الصائل والكفر الأكبر المخيم على البلاد والذي يفسد الدين والدنيا، ألا وهو التحالف الإسرائيلي الأمريكي المحتل لبلاد الحرمين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام”.
وبما أن ابن لادن قد أسقط شرعية الدولة السعودية وإسلاميتها ، فقد أعلن أنه أصبح في حل من جميع التزاماتها وعهودها ، وخاطب الأمريكيين قائلا:” إن الشباب يعتبرونكم مسؤولين عن كل ما يقوم به إخوانكم اليهود في فلسطين ولبنان من قتلٍ وتشريدٍ وانتهاكٍ لحرمات المسلمين … فأنتم تتحملون بذلك مع النظام السعودي دماء هؤلاء الأبرياء ، كل ذلك يجعل كل عهد لكم معنا منقوضاً. وإن إرهابنا لكم وأنتم تحملون السلاح على أرضنا هو أمرٌ واجبٌ شرعاً ومطلوبٌ عقلاً، وهو حقٌ مشروعٌ في أعراف جميع البشر، بل والكائنات الحية، ومثلكم ومثلنا كمثل أفعى دخلت دار رجلٍ فقتلها، وإن الجبان من يترككم تمشون على أرضه بسلاحكم آمنين مطمئنين. ” وقال:”إن الذين يزعمون أن دماء جنود هذا العدو الأمريكي المحتل لبلاد المسلمين معصومة، إنما يرددون مُكرهين ما يمليه النظام عليهم خوفاً من بطشه وطمعاً في السلامة، والواجب على كل قبيلة في جزيرة العرب أن تجاهد في سبيل الله وتطهر أرضها من هؤلاء المحتلين، وعَلِمَ اللهُ أن دماءهم مهدورة وأموالهم غنيمة، ومن قتل قتيلاً فله سَلَبُه” [2].
وأشار ابن لادن في تلك الرسالة الشهيرة الى قيام الشباب المجاهد بتنفيذ عمليتي الخبر والرياض ضد القوات الأمريكية المتواجدة في السعودية. ثم قام في العام التالي بتأسيس (الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين) واصدر فتوى تنص على وجوب قتل كل مسلم للأمريكيين وحلفائهم. وبارك عملية الهجوم على السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998 ، ثم أيد وبارك عملية الهجوم الكبرى على وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن ومبنى التجارة العالمية في نيويورك في11 أيلول عام 2001م
وعندما اتهمت أمريكا ابن لادن بالوقوف وراء الهجمات وشنت حربا على (منظمة القاعدة) وحكومة طالبان الأفغانية التي آوته ، تبرأت السعودية من ابن لادن واتخذت موقفا مؤيدا للحرب ضد القاعدة وحركة طالبان ، وهذا ما دفع عددا من أئمة المساجد والمشايخ المؤيدين للحركة ، بانتقاد موقف السعودية والدعوة  الى اتخاذ موقف  مناصر لأفغانستان وطالبان ، وحتى الى الجهاد والقتال في مواجهة الهجوم الأمريكي ، و أصدر الزعيم الروحي للحركة المعارضة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي بيانا  طالب فيه  الدول والشعوب الاسلامية بنصرة دولة طالبان ضد الغرب الكافر ، ثم أصدر فتوى باعلان “الجهاد” ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة ،  وقال : “مهمتنا ان نعلن الجهاد ضد من يحارب افغانستان”. مما اعتبر تهديدا للنظام السعودي ومحاولة للخروج على سياسته الموالية لأمريكا وتأييدا لموقف ابن لادن . ثم أصدر فتوى أخرى تنص على تكفير كل من ظاهر الكفار أو أعانهم على المسلمين [3]. فرد عليه وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية السعودي ، بأن أولي الأمر وحدهم المخوَّلون بإعلان الفتاوى والجهاد ، وشدد على وجوب السمع والطاعة [4]. و رد الشعيبي على الوزير بأنه علَّم معظم الجيل الحالي من رجال الدين في المملكة و أن من حقه إصدار فتاوى.[5]
ومع أن الشعيبي لم يصرح بتكفير حكام السعودية ولم يدع الى اسقاطهم ، الا ان موقفه المؤيد لحركة طالبان والقاعدة وفتاواه بنصرتهم وحرمة تأييد أمريكا في عدوانها على أفغانستان ، شكلت علامة على انهيار التحالف التاريخي الذي امتد 250 عاما بين البيت السعودي واتباع المذهب الوهابي ، نظرا لأن الشعيبي يتحدر من نجد ومن (بريدة ) قلعة الوهابية ، وهو واحد من المشهود لهم بمستواهم العلمي العالي ويعتبر من أكبر أساتذة الشريعة في السعودية وله الكثير من الأتباع .  وكان قد اعتقل في منتصف التسعينات على إثر توقيعه على مذكرة النصيحة وجمدت عضويته في هيئة كبار العلماء.
وعلى أي حال ، فان هذه الحركة المعارضة تعتبر اقرب الى روح الحركة الوهابية القديمة ، ونظرا لأنها تعيش في ظل النظام السعودي الذي لم تقرر إعلان الحرب عليه ، فيمكننا افتراض أنها  تمارس التقية ولا تعبر عن رأيها ضد حكام آل سعود بصراحة في كل مكان.[6]



[1]  -   ثم انتقل الى الحديث عن حركته الاصلاحية وتواجده في أفغانستان من أجل العمل على رفع الظلم الذي وقع على الأمة من التحالف اليهودي الصليبي، الذي استباح بلاد الحرمين.  والتذاكر لبحث سبل الإصلاح لما حل بالعالم الإسلامي عامة، وببلاد الحرمين خاصة، وتدارس السبل التي يمكن بسلوكها إعادة الأمور إلى نصابها، والحقوق إلى أصحابها. وخاصة بعد أن أصاب الناس ما أصابهم من خطب عظيم… وبات الوضع في بلاد الحرمين أشبه ببركان هائل يكاد أن ينفجر فيقضي على الكفر والفساد .

[2]  - تجد نص الرسالة كاملا على العنوان التالي في شبكة المعلوماتية
http://www.aloswa.org/bayanat/afgan/laden2.html
[3]  -  وقد أصدر عدد من رجال الدين الآخرين من أتباع الشعيبي مثل سليمان علوان وعلي خضير وبشر بن فهد آل بشر ، وسلمان العودة ، وناصر العمر ، وحامد العلي ، فتاوى تندد بالدعم المقدم للأمريكيين ، وتكفر من يناصر الكفار ضد المسلمين (الأفغان) .وقد حذر وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز بتاريخ 18/10/2001 من عملية التكفير الموجهة ضد الحكومة والعلماء وقال:”نحن أهل الاسلام نحن الذين نطبق شرع الله فكيف يتجرأ أناس مثل هؤلاء ويكفرون أبناء البلد ، قيادة وعلماء ورجالا ونساء؟ كيف نقبل هذا؟”.

[4]  - في حوار مع جريدة الرياض بتاريخ 8/11/2001 وقد أيده في ذلك بعض مشايخ الدولة مثل الشيخ صالح  اللحيدان ، رئيس مجلس القضاء الأعلى ، والسدلان ، اللذين أدانا عملية الهجوم على أمريكا في 11 سبتمبر ، و اتهما جماعة (القاعدة) بالخروج والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

[5]  -  وبعث الشيخ الشعيبي وتلميذاه علي الخضير وسليمان العلوان ، في 16/10/1422هـ برسالة دعم لأمير حركة طالبان الملا عمر يحثونه فيها على الصمود ومقاومة الهجوم الأمريكي ، جاء فيها: “نشهد أنكم أنتم وحدكم الذين رفعتم رؤوسكم في زمن طأطأ الكثير من المسلمين رؤوسهم لدولة الكفر والصليب أمريكا ، فلم يتشرف المسلمون برجل قال ( لا ثم لا ) لما تطلبه أمريكا في هذا العصر إلا بكم ، فيا سعادة المسلمين بأمثالكم …  فصبرتم  يوم أن تخاذل الجميع وتبدلت العقائد وظهرت نواقض الإسلام في كثير ممن ينتسبون إليه .  
    أمير المؤمنين إن إعجابنا بأفعالكم ومناصرتنا لها لا ينقطع ولن ينقطع أبداً بإذن الله تعالى ما لم تبدلوا وتهنوا أو تتراجعوا نسأل الله لنا ولكم الثبات حتى الممات ، وإننا نطمئنكم بأننا وشريحة عظيمة من العلماء والدعاة وطلبة العلم معكم ونؤيدكم ، ونقول لكم لا يسوءكم ولا يفت من قوتكم وإصراركم قول بعض المتخاذلين والمرجفين الذين ذموا صمودكم ولاموا أفعالكم … فقد قرت بكم عيون الموحدين ورضيت بكم عساكر الرحمن ، فنحن من ورائكم نناصركم بكل ما نستطيع ونحرض المؤمنين على القتال في صفوفكم …
وختاماً فإننا نوصي جميع المسلمين في كل مكان بمناصرة الإمارة الإسلامية في جهادها هذا ضد ملل الكفر جميعاً ، كما نوصي الأفغان خاصة بأن يبذلوا أنفسهم لله تعالى ويناصروا الإمارة الإسلامية ويقفوا تحت لواء أمير المؤمنين “.
[6]  - وقد عاد ابن لادن فاتهم النظام السعودي بالردة و الكفر ، وذلك في رسالته الصوتية الى قناة الجزيرة يوم عيد الأضحى من سنة 1423 المصادف 11 شباط 2003 حيث قال: ان “كل من اعان اميركا من حكام الدول العربية عبر توطين القواعد او اي نوع من انواع الدعم ولو بالكلام ، في قتل المسلمين ، عليه ان يعلم انه مرتد وخارج عن الدين” الاسلامي” . ودعا المسلمين الى التمرد على الانظمة الحاكمة قائلا “نؤكد على الصادقين من المسلمين انه يجب عليهم ان يتحركوا ويحرضوا ويجيشوا الامة في مثل هذه الاحداث العظام لتتحرر من عبودية هذه الانظمة الحاكمة الظالمة المرتدة المستعبدة من اميركا ويقيموا حكم الله في الارض”. واعتبر ان “اكثر المناطق تأهلا للتحرير هي الاردن والمغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين (السعودية) واليمن”.
تكفير النظام السعودي و المؤسسة الدينية

وربما كان كتاب (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية)[1] لمؤلفه القريب من تنظيم القاعدة ، يشكل بيانا لحقيقة أفكار الحركة الوهابية المعارضة (الثورية والتكفيرية) ، ضد آل سعود وأتباعهم “الوهابيين” . حيث يقول مؤلفه (النجدي) مستعيدا التراث الوهابي:” ليس كل من ادعى التوحيد او انتسب اليه ولو اسما يحرم ماله ودمه ويكون من الموحدين ، بل لا يكون كذلك حتى يكفر بكل ما يعبد من دون الله ويبرأ منه سواء عبادة سجود او ذبح أو دعاء أم عبادة تشريع واستسلام وتحاكم ، فالإشراك بالله في حكمه من الاشراك به في عبادته. وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب معلقا على حديث مسلم ( من قال لا اله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله):” وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا اله الا الله) فانه لم يجعل التلفظ بها عاصما للمال والدم بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو الا الله وحده حتى يضيف الى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فان شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه”.[2]

ويقول:- “اننا مأمورون بالدخول في الاسلام كافة فننظر في الكتاب فترى قوله تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) والفتنة هي الشرك كل أنواع الشرك لا فرق بين شرك القبور وشرك الدستور”.[3] و إن هذه ” الحكومة (السعودية) الخبيثة الكافرة خرجت من دين الاسلام ومن ملة التوحيد من أبواب شتى :
الاول: التشريع وتحكيم القوانين والتحاكم اليها
الثاني: موالاة أعداء الله من الكفار الشرقيين والغربيين الخليجيين والعرب ، وتوثيق روابط الأخوة والمودة والحب والصداقة وتوليهم بالتأييد والنصرة”.[4]
وقد أخذ النجدي على الحكومة السعودية دخولها في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي ، لأنها في نظره بلاد كفار ، ولأن دخولها في تلك المنظمات العربية والدولية يقوم على تعزيز التضامن بين الدول الأعضاء ، ودعم التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي ، وإيجاد المناخ لتعزيز التعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء والدول الاخرى. ولأنه يقوم أيضا  على مباديء هي:
1-              المساواة التامة بين الدول الأعضاء.
2-              احترام حق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
3-              احترام سيادة واستقلال ووحدة أراضي كل دولة عضو.
4-              حل ما ينشأ من منازعات بحلول سلمية.
5-              الامتناع عن استخدام القوة والتهديد باستعمالها.[5]
وهذه أمور يعتبرها المؤلف مخالفة لعقيدة التوحيد (الوهابية) ومساواة لـ: “الموحدين والمسلمين” مع  “المشركين” – ويعني بهم غير الوهابيين – .
ويتهم المؤلف الحكومة السعودية بالصد عن سبيل الله والكفر به وفتنة “المسلمين” عن دينهم واضطهاد “الموحدين  الحقيقيين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المتبرئين من كل الطواغيت” و سجنهم وقتلهم وطردهم  وملاحقتهم . وموالاة أعداء الدين ونصرتهم ومودتهم ومحبتهم .[6]
ويأخذ على حكام السعودية ” تشريعهم مع الله ما لم يأذن  به الله واتباعهم لأقوال المشرعين من الكفرة أعداء الدين ودخولهم في دين الطواغيت المختلفة اقليمية كانت أم عالمية دولية” .[7]    وينتقدهم على “إدخال مشركي الطواغيت العربية الى بيت الله الحرام أثناء عقد مؤتمر القمة في مكة ، وإدخال كل من  يشاءون من إخوانهم الذين قال الله تعالى فيهم: ( انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)”.[8]
ثم ينتقل مؤلف الكتاب (النجدي) من التكفير الى الهجرة والجهاد ، فيقول: “نص العلماء على ان الحاكم اذا أظهر الكفر البواح يجب القيام عليه وعزله وتبديله وتغييره لإقامة شرع الله وتحقيق توحيده كاملا ، ومن داهن فعليه الإثم والعقوبة. ومن ضعف عنه وجبت عليه الهجرة وعدم الركون للكفر وحكوماته ، بل تحديث النفس بجهادهم دوما وتربية الذراري على ذلك وغرسه في نفوسهم.. واعلم ان من أعظم أنواع الهجرة الواجبة في كل زمان هجرة كل وظيفة وعمل فيه نصرة وإعانة لهؤلاء الطواغيت وقوانينهم “. [9]
ويقول ايضا: ” انه لا يصلح لمسلم شم رائحة التوحيد وعرف الشرك أن يكون معينا لهذه الدولة وأمثالها من الدول المرتدة الكافرة … فلا يجوز له بحال ان يعمل في عساكرها ولا حرسها الوطني ولا جيشها أو شرطتها ولا مخابراتها أو أمنها وجواسيسها. فان هذا كله من توليها ونصرتها على المؤمنين الموحدين المتبرئين منها الكافرين بها ، فهو بذلك لا يقف عند حدود المعصية بل يتعداه الى الكفر والردة”.[10] ويتساءل: ما الموقف من هذه الدولة الخبيثة وأمثالها من الحكومات المرتدة؟..  ويجيب : انه الهجرة والجهاد. وغاية هذا القتال تحقيق توحيد الله ، إذ (لا اله الا الله) تعني البراءة من  كل دين وطاغوت ومنهج وقانون ومعبود غير الله ، وعداوة أهل الشرك وموالاة أهل الإيمان.[11]ومن أراد طريقة السلف فليتأمل فرارهم من أبواب السلاطين وأمراء الجور في أزمنة الخلافة فكيف في أزمنة الكفر والقانون وتولي أعداء الله”.[12]ويقول: “ما أشد انطباق ما قاله جدهم عبد العزيز بن سعود عليهم في رسالة بعث بها الى بلاد العجم والروم: ( نحن لا نكفر الا من عرف التوحيد وسبّه وسماه دين الخوارج ، وعرف الشرك وأحبه وأهله ودعا اليه وحض الناس عليه بعدما قامت عليه الحجة ، وان لم يفعل الشرك أو فعله وسماه بغير اسمه بعدما عرف أن الله حرمه). الدرر السنية 1/145″.

الموقف من علماء السلاطين

وبعد تكفير الدولة السعودية ، يشن النجدي هجوما عنيفا ضد رجال الدين الوهابيين المتحالفين مع الحكومة ، ويتهمهم بتولي أعداء الله ومحاربة أوليائه ، وفتنة الأمة والتلبيس عليها ، وممارسة شرك العصر الصريح باسم الاسلام والتوحيد. ويطالب بوعظ العلماء وهجرهم حتى يرتدعوا ويقلعوا عن مداهنة السلاطين والركون اليهم والجدال عنهم.[13]ويقول: ” أذكّر الموحد وأنبهه الى عدم الاغترار بعلماء الحكومات ، هؤلاء الذين يتجاهلون ما يدور حولهم من كفريات وفضائح آل سعود وحكومتهم ، ولا هَمَّ لهم الا الهجوم على الموحدين المتبرئين من طواغيتهم الكافرين بحكومتهم.  أي والله لا تغتروا بشهاداتهم ولا بألقابهم أو لحاهم وعمائمهم.( لا تلق مبتدعا ولا متزندقا  الا بعبسة مالك الغضبان).. أنا أدعو هؤلاء المشايخ الى ان يجلسوا من جديد ليتعلموا التوحيد الحق ويتعلموا معنى لا إله الا الله من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده الذين طالما تمسحت دولتهم هذه بطريقتهم وهم منها براء”.[14]

ويتحدث المؤلف (أبو البراء النجدي) عن (الأفغان السعوديين) والتكفير ، فيقول:”ها هم أفواج الشباب يعودون مدربين على القتال والسلاح والمتفجرات من أفغانستان ، وقد استفادوا بعدما خرجوا من أسوار الجزيرة الى السعودية بغير الوجه الذي خرجوا به أول الأمر .. فها هو فكر (تكفير وقتال الحكومة وكل من ناصرها وعاونها ووالاها) قد انتشر بين الشباب العائد من أفغانستان انتشار النار في الهشيم”.[15] “وها هم الشباب يرجعون وقد فقدوا الثقة بكل من يمدح هؤلاء الطواغيت أو يثني عليهم أو يجادل عنهم او يقف بأبوابهم مهما طالت لحيته وكبر لقبه. فخرج علينا المشايخ في الآونة الأخيرة يركزون في خطبهم ومحاضراتهم على محاربة الآراء الشاذة والأفكار المتطرفة ، يقصدون تكفير حكومتهم و تكفير من تولاها والدعوة الى جهادها”.[16]

واذا قدر لهذه الحركة الوهابية الأصيلة ان تنتصر في “جهادها” ضد آل سعود ، فانها كما يبدو سوف تعيد تجربة الحكم السعودي الوهابي تماما ، ولن تغير شيئا في أسس النظام السياسي ، وذلك لأنها لا تملك فكرا نقديا جذريا ، ولا تضع إصبعها على مواطن الخلل والاستبداد ، ولا تعرف غير الدعوة الى إطاعة الحكام الجدد إطاعة مطلقة. وحتى ذلك اليوم ، فانها بالطبع لا يمكن ان تقبل بأي نظام ديموقراطي حديث يقوم على الشورى والمشاركة من قبل جميع الطوائف والأحزاب والفئات الاجتماعية ، في العملية السياسية ، سواء في ظل آل سعود أو في ظل غيرهم ، فانها تعتبر ذلك نوعا من الشرك والكفر بالله.
يقول أبو محمد عاصم المقدسي (أحد زعماء الوهابية الجديدة ومن المقربين الى تنظيم القاعدة) في كتابه: (الديموقراطية دين):”ان الديموقراطية دين غير دين الله ، وملّة غير ملة التوحيد ، وان مجالسها النيابية ليست الا صروحا للشرك ومعاقل للوثنية ، يجب اجتنابها لتحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، بل السعي لهدمها ومعاداة أوليائها وبُغضهم وجهادهم. وان هذا ليس أمرا اجتهاديا كما يحلو لبعض الملبسين أن يجعلوه ، بل هو شرك واضح مستبين وكفر بواح صراح قد حذر الله تعالى منه في محكم تنزيله ، وحاربه المصطفى (ص) طيلة حياته”.[17]
ويقول:” الطاغوت الذي يجب عليك أن تكفر به وتتجنب عبادته لتستمسك بعروة النجاة الوثقى ، ليس فقط أحجارا وأصناما وأشجارا وقبورا تعبد بسجود أو دعاء أو نذر أو طواف وحسب.. بل هو أعم من ذلك…ان الطاعة في التشريع عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله ، فلو صرفها المرء لغير الله ولو في حكم واحد كان بذلك مشركا”[18] ويقول:” ان ترجمة الديموقراطية الحرفية هي: (حكم الشعب أوسلطة الشعب أو تشريع الشعب) وهذا من أخص خصائص الكفر والشرك والباطل الذي يناقض دين الاسلام وملة التوحيد أشد المناقضة ويعارضه أشد المعارضة… فالديموقراطية كفر بالله العظيم وشرك برب السماوات والأرضين ومناقضة لملة التوحيد ودين المرسلين”.[19]
ويقول أيضا:”الشعب في دين الديموقراطية يُنيب عن نفسه النوابَ ، فتتخير كل طائفة أو جماعة أو قبيلة منهم رباً من هؤلاء الأرباب المتفرقين ، ليشرعوا لهم تبعا لأهوائهم ورغباتهم… فمنهم من يتخير معبوده ومشرعه تبعا للفكر والأيديولوجية ، فإما رب من الحزب الفلاني ، أو إله من الحزب العلاني ، ومنهم من يتخيره تبعا للقبيلة والعصبية ، فإما إله من القبيلة الفلانية أو وثن معبود من القبيلة العلانية ، ومنهم من يتخيره إلها سلفيا بزعمهم ، وآخر يجعله رباً إخوانيا أو معبودا ملتحيا وآخر حليقا.. وهكذا.. فهؤلاء النواب هم في الحقيقة أوثان منصوبة وأصنام معبودة وآلهة مزعومة منصوبة في معابدهم ومعاقلهم الوثنية (البرلمانات) يدينون هم وأتباعهم بدين الديموقراطية وشرع الدستور”.[20]
ان موقف الحركة الراديكالية (التكفيرية) السلبي من الشورى والديموقراطية ، هو الذي دفعها لاختيار الطريق العسكري في عملية التغيير السياسي ، كطريق  لا تجد دونه سبيلا ، ولما كانت منظمة (القاعدة) التي يقودها  أسامة بن لادن ، والتي تنتقد التعاون العسكري بين الرياض و واشنطن ، أو ما تسميه بالاحتلال العسكري الأمريكي لبلاد الحرمين ، لا تملك اسلوبا ديموقراطيا لفرض موقفها على الحكومة السعودية ودفعها الى طرد القوات الأمريكية بشكل سلمي ، وذلك لغياب النظام الديموقراطي في السعودية ، وبما أنها لم تكن ترغب في إشعال حرب داخلية مع النظام السعودي ، فانها فضلت توجيه ضرباتها الى تلك القوات الأمريكية ، وأعلن  ابن لادن ، كما رأينا في رسالته الشهيرة التي أصدرها عام 1997 ، أنه في حل من المعاهدات الحكومية وطالب الشعب السعودي بتوجيه أقسى الضربات للأمريكيين في داخل السعودية وخارجها لإجبارهم على الانسحاب من الجزيرة العربية. وبكلمة أخرى.. إن توجه ابن لادن ومنظمة (القاعدة) للاشتباك مع أمريكا هو نتيجة غياب الديموقراطية في النظام السعودي ، وفي فكر المعارضة الوهابية الراديكالية التي لا تؤمن بالديموقراطية. ولو كان ثمة أي نافذة ديموقراطية للتغيير والحل السياسي والمشاركة الشعبية في السلطة لما وجد ابن لادن نفسه مضطرا لحمل السلاح نيابة عن الحكومة ومطالبة أمريكا مباشرة بالخروج من الجزيرة العربية.






[1] – المنشور عام 1994 عن دار القصيم في لندن ، باسم مستعار هو: ( أبي البراء مرشد بن عبد العزيز بن سليمان النجدي) (واسمه الحقيقي: أبو محمد عاصم البرقاوي المقدسي) الأردني القريب من تنظيم القاعدة .
[2]  - النجدي: الكواشف الجلية 195

[3]  - النجدي: الكواشف الجلية 283
[4]  - النجدي: الكواشف الجلية 191
[5]  - النجدي: الكواشف الجلية 191
[6]  - النجدي: الكواشف الجلية 249
[7]  - النجدي: الكواشف الجلية 250

[8]  -النجدي: الكواشف الجلية 251
[9]  -النجدي: الكواشف الجلية 196
[10]  - النجدي: الكواشف الجلية 198
[11]  - النجدي: الكواشف الجلية 194
[12]  - النجدي: الكواشف الجلية 285

[13]  - النجدي: الكواشف الجلية 286
[14]  - النجدي: الكواشف الجلية 244
[15]  - النجدي: الكواشف الجلية 271
[16]  - النجدي: الكواشف الجلية 272
[17]  - المقدسي : الديموقراطية دين ، ص 2
[18]  - المقدسي: الديموقراطية دين ، ص 2 – 3
[19]  - المقدسي ، الديموقراطية دين ، ص 8
[20]  - المقدسي ، الديموقراطية دين ، ص 10
الفصل السابع:
من الوهابية.. الى الديموقراطية

إذن فان الحركات الوهابية الموالية للنظام السعودي والمعارضة له ، تشترك في بنية فكرية سياسية واحدة ، وتتخذ موقفا متشابها تجاه الشورى والانتخابات والمشاركة الشعبية في الحكم . ولئن كانت تلك الحركات المعارضة تنتقد النظام السعودي أو بعض ممارسات الحاكم وتدعو لإصلاحه أو تغييره ، فانها لا تدعو الى تغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، أو استبدال النظام بصورة جذرية. واذا كان بعضها قد أعلن كفر النظام ، وأعلن أو قد يعلن تبعا لذلك الحرب على النظام ، فانه في نفس الوقت لا يجد أسلوبا للحكم غير الأسلوب الاستبدادي المطلق ، ولا يفكر باللجوء الى الشورى والانتخاب ، أو قبول مبدأ تبادل السلطة بشكل سلمي ديموقراطي مع الأحزاب الاخرى.
ولئن كانت الوهابية الرسمية وغير الرسمية قد خففت من “وهابيتها” وخاصة فيما يتعلق بالتكفير والقتال ، فانها لا تزال تعتقد أنها هي فقط “الفئة الناجية” من بين “الضالين والمنحرفين”. اذا لم تكن تعتقد أنها وحدها تمثل “المسلمين والموحدين” في محيط “الكفار والمشركين”.  ولا تزال تنظر بسلبية الى طوائف عديدة وعامة من المسلمين كالشيعة والصوفية والأشاعرة والمعتزلة وحتى الإخوان المسلمين ، فضلاً عن دعاة الديموقراطية والعلمانية في العالم الاسلامي . ومن هنا فقد أصبح من العسير على الوهابيين القبول بوجود أي حزب آخر يختلف عنهم ويعارضهم وينافسهم على السلطة ، أو الاحتكام الى الرأي العام الذي يتهمونه دائما بالتخلف عن الشرع.. وغابت الشورى حتى  عن شبكة علاقاتهم الداخلية و فيما بينهم وبين رجال الدين ، وبين هؤلاء والحكام ، وبين هذين الطرفين والقواعد الوهابية. وقامت العلاقة بدلا من ذلك على أساس القوة والقهر والغلبة. كما قامت العلاقة بينهم وبين الآخرين، أحزابا وطوائف وتيارات ، على اساس الدعوة والجهاد وفرض الرأي بالقوة .[1]
يقول أحمد الحصين في كتابه (دعوة الامام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية) :”أمر الشيخ أتباعه بالجهاد دفاعا عن النفس أمام أولئك المعارضين من ناحية ، وكسر الطوق وإزاحة الحجر العثرة أمام نشر هذه الدعوة من ناحية أخرى ، فانتقلت الدعوة بذلك الى مرحلة جديدة  هي (مرحلة الجهاد لحمل الناس على الحق) وتهيئة الجو الصالح لنشر الدعوة والعودة بالمسلمين الى منهج الله وشرعه…فوظيفة القوة تأمين الذين اختاروا الاسلام على دمائهم وأموالهم حتى لا يفتنوا في دينهم ، ثم حماية طريق الدعوة وسبيلها حتى لا يتوقف المد الاسلامي ، وكذلك تأديب الجبارين الذين يتخذون لأنفسهم صفة الألوهية فيذلون البشر بما يزرعونه فيهم من ضغائن وأحقاد”. [2]
وينظّر الحصين لمبدأ القتال الداخلي الذي لا ينتهي ، فيقول:” ان التحرك لبدء الآخرين بالدعوة الى الاسلام هو من خصائص هذا الدين ، لأنه من السذاجة بمكان أن يتصور الانسان بقوة عازمة على إخراج البرية من الظلمات الى النور ، ثم يقف أمام عقبات الأعداء ليجاهد باللسان والبيان فحسب ، وهذا ما لم يقل به أحد من سلف هذه الأمة”.[3] ويضيف:”لا بد من الجهاد لإماطة العقبات عن الطريق ، وهذه سنة الله تعالى… ولن تتم مصلحة الناس قاطبة الا عندما يهيمن الاسلام على سلوكهم ومعاملاتهم ويلتقون على العقيدة الصحيحة والدعوة الربانية…وان هذه الجزيرة كانت ولا تزال تدخر تلك العناصر التي تتوثب بين الفينة والفينة لتؤدي رسالتها الخالدة وتستأنف دورها التاريخي المتجدد على مر العصور”.[4]
وهذا ما يدل على أن الوهابية تنظر الى (الجهاد) كسلاح في صراعها الداخلي مع المسلمين الذين لا تعترف بإسلامهم ، وضد التيارات والطوائف والأحزاب والشخصيات المخالفة لها ، مما لا يسمح لها بالقبول بأي فسحة ديموقراطية ، أو احترام للطرف الآخر أو القبول باللجوء الى الشورى وتحكيم الرأي العام ومبدأ الأكثرية ، وتبادل السلطة بشكل سلمي.

الانفتاح على الديموقراطية

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ان النظام السعودي يلتزم بالوهابية حقاً ؟.. ألم يتخلَ عنها ويضربها؟ وهل تحول الوهابية المخففة التي يلتزم بها دون التحول الديموقراطي؟ وهل كل من انتسب الى الوهابية يلتزم بكل مقولاتها بالضرورة؟ ألا توجد نسخ معدلة من الوهابية تقبل بوجود الآخر ، وتحترم المذاهب الأخرى ؟ ألا توجد حركات (وهابية) تؤمن بالشورى وتقبل الحياة الديموقراطية أو تشارك فيها هنا وهناك؟


لا شك انه من مجافاة الحقيقة والبحث العلمي النظر الى أية مجموعة انسانية أو حركة اجتماعية وثقافية نظرة واحدة ثابتة وجامدة لا تتغير . إذ أنها يمكن أن تتغير بين يوم وآخر وتمر بظروف مختلفة ، وتتعرض لقيادة رجال مختلفين ، وان أتباعها وقادتها يمكن ان يتغيروا بين عشية وضحاها ، ويمكن تبعا لذلك أن يغيروا من مواقفهم ورؤاهم وأفكارهم ، ويتطوروا  نحو الأفضل أو الأسوء . وان الحركة الوهابية ليست بعيدة عن هذا الواقع ، ولا مغلقة أمام التطور. ومن هنا فقد حدث في صفوفها أو بالأخرى في صفوف أتباعها مراجعات كثيرة وتطورات عديدة ، وتفاوتت مواقف أفرادها بين الولاء للنظام السياسي والتبعية الكاملة وبين التمرد والنقد والخروج. وليس ولادة الحركات المعارضة المعتدلة والثورية والمتطرفة الا دليل على ذلك. وفي هذا السياق كان من المتوقع أيضا ان نشهد ولادة أشخاص أو قيادات أو حركات تقوم بمراجعة أسس الحركة الوهابية وتحاول التخلص من التراث السلبي المتطرف ، وخاصة موضوع التكفير والقتال واعتماد مبدأ القوة والقهر في فرض  الرأي وإقامة النظام السياسي وتمكين الحاكم المعين. وليس غريبا أن يحدث لدى البعض تطور نحو الشورى والديموقراطية الاسلامية. وهذا ما حصل بالفعل لدى بعض العلماء والسياسيين الموالين والمعارضين الذين قاموا بنقد الفكر السياسي الوهابي ، والاعتراف بإسلام الأمة الاسلامية بجميع طوائفها وتياراتها ، واعتماد السلم والعدل والشورى في انتخاب الحاكم والنظام السياسي.
وهو ما نجده مثلا ، في الحركة الاصلاحية التي قامت بها مجموعة من الأكاديميين والكتاب والشعراء والصحفيين وأساتذة الجامعات والمثـقفين والتجار والوزراء السابقين، الذين وجهوا في تشرين الأول من عام 1990 م ، عريضة إلى الملك فهد ، وطالبوه فيها بالنظر في أوضاع النظام الأساسي وتحقيق اصلاح شامل ، واصدار دستور يحدد واجبات وحقوق المواطنين السعوديين، وإنشاء مجلس للشورى ذي صلاحيات واسعة، وتكريس المساواة بين المواطنين دون تمييز عرقي أو طائفي. ثم وجهوا ، بعد شهرين من ذلك التاريخ ، الى الملك فهد ، مذكرة أخرى تطالبه بـ :”ضرورة الإسراع بوضع نظام للحكم، ودستور البلاد الدائم، ونشره على الناس لينقحوه ويوافقوا عليه في استفتاء عام” و “ضرورة استكمال مشروع مجلس تأسيسي منتخب من جميع مناطق المملكة، لكي يكون هيئة تشريعية و رقابية لتنفيذ مواد الدستور “.[5]
وهو ما يعبر عن نضج النخبة الثقافية والسياسية السعودية ديموقراطيا ،  وابتعادها عن روح الحركة الوهابية المتعصبة والمغلقة.
ولعل من المفيد التوقف عند ثلاثة نماذج بارزة في المشهد الثقافي والسياسي ، ومتطورة عن الحركة الوهابية ، وهم الدكتور محمد المسعري والشيخ حسن المالكي والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.

1-  المسعري.. ثورة على الوهابية

ولعل الدكتور محمد بن الشيخ عبد الله المسعري ، يشكل أبرز نموذج على التطور الديموقراطي في صفوف الحركة الوهابية ، حيث يقدم في كتابه (مشروعية محاسبة الحكام) نظرية متكاملة عن نظام الشورى ، تختلف كليا وجذريا عن الفكر السياسي الوهابي الحاكم والمعارض ، و يتحدث عن حق الأمة في السلطان وقيمومتها على الحكام وحقها في محاسبتهم ومراقبتهم وعزلهم ونصبهم ، ويرفض بصراحة نظرية الحكم بالقوة والقهر والغلبة ، ويطالب بانتخاب الحاكم وبالتعددية الحزبية ، وبإقامة مجالس للشورى.

إعادة تعريف (الامة الاسلامية)

ولعل أهم ما جاء في أطروحة المسعري واختلف به اختلافا جوهريا عن الحركة الوهابية الأولى ، هو انتقاده لعملية تكفير جماهير المسلمين أو ادعاء امتلاك الحق دون الغير ، وتوسيع مفهوم (الأمة) لكي يشمل جميع الفرق الاسلامية المتمسكة بالكتاب والسنة الصحيحة بما فيها الجعفرية والزيدية والإباضية ، خلافا للفكر الوهابي الذي كان يقتصر في تعريف الامة على الوهابيين “الموحدين” فقط.
إذ يقول: ” أما جماهير المسلمين اليوم فهم الفرقة التي بقيت، في الجملة، على ما كان عليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، وهذه هي الفرقة الناجية ـ إن شاء الله ـ تنتسب إليها مذاهب فقهية كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري والزيدي والجعفري والأباضي ومذاهب فقهية أخرى منقرضة كمذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام إسحاق بن راهوية وغيرهم، كما تضم مدارس كلامية مختلفة مثل مدرسة أهل الحديث، ومدرسة الإمام بن تيمية، ومدرسة الإمام ابن حزم، والأشاعرة ، والماتريدية، والكلابية، والزيدية، والأباضية، وغيرهم من أهل القبلة، كما تتكون من طرق ومسالك صوفية كالطريقة الشاذلية، والطريقة النقشبندية، والقادرية، والجشتية، والسهروردية، والحصافية، وغيرها”.[6]  و يقول :”  لا يحل لجماعة من هذه الجماعات أن تدعي لنفسها أنها هي “جماعة المسلمين” التي جاءت النصوص بلزومها وتوعدت الخارج عليها، وأن ما سواها فهو من الفرق الضالة الهالكة…فإذا جاء من يزعم لنفسه أنه هو (جماعة المسلمين) دون غيره من بقية الناس فهذا مفرق للأمة، داخل في الفرقة والضلالة، لأن هذه المقولة تقتضي تبديع المخالف أو تقتضي تكفيره، ونصب مقولات جماعة بعينها وامتحان الناس بها، وتكفير أو تبديع كل من خالفها، مجازفة حمقاء ، واندفاعة هوجاء ، وتعصب أرعن”.[7]
ويقول أيضا:” من ادعى من الجماعات المعاصرة.. أن جماعته هي جماعة المسلمين .. لإنها هي وحدها “الفرقة الناجية” أو “الجماعة المنصورة”، أو لإنها هي صاحبة “العقيدة الصحيحة” المحتكرة لها .. فقد أبعد النجعة، وسلك طريق الهلكى من الخوارج، وأهل الغلو..”.[8]
ان هذه الخطوة التي قام بها الدكتور محمد المسعري ، في إعادة تعريف (الامة الاسلامية) تعتبر مهمة جدا في عملية البناء الديموقراطي الاسلامي في المجتمع السعودي ، وذلك لأنها تفتح الطريق أمام مشاركة أوسع الجماهير في العملية السياسية ، وضرب احتكار السلطة من قبل العائلة المالكة والمؤسسة الدينية الوهابية وأنصارهما في نجد ، وإعادة جماهير الطوائف الاسلامية المتعددة المعزولة والمهمشة الى الحياة السياسية في المملكة العربية السعودية. وهي توفر الأجواء الطبيعية للانتقال من نظام القهر والقوة والغلبة الى نظام الشورى الذي يقوم على احترام كلمة الأمة والتعبير عن إرادتها.   ولذا فان هذه الخطوة تشكل ثورة في الفكر الوهابي تفتح الطريق أمام قيام علاقات سياسية طبيعية و سلمية في المجتمع .

نظرية الشورى

النقطة الثانية المهمة جدا التي يختلف فيها الدكتور محمد المسعري عن الفكر السياسي الوهابي ، هي إيمانه بنظرية الشورى وحق الامة في السلطان ، خلافا لنظرية القوة والقهر والغلبة التي ورثها الفكر الوهابي عن ابن تيمية ، وبالتالي فان المسعري يعتقد :” أن للأمة حق تولية الحاكم وعزله، فلا يصبح الحاكم صاحب السلطان بواسطته يمارس صلاحيات الحكم إلاّ ببيعة الأمة له ، بيعة رضا واختيار، وإن انتقال السلطان من الأمة إلى الخليفة، لا يجعل الأمة بلا سلطان، وإنما السلطان قائم بيدها لتحاسب الحكام ، وتقوّم اعوجاجهم، وتمنعهم من الطغيان، إلى حد العزل”..[9]
ويقوم المسعري بتحديد المهمة الأساسية للحاكم ، فيقول عنها:” إنها رعاية شؤون الأمة، لأنه ما نصب إلاّ لذلك” .  ثم ينتقل لكي يحدد مسؤولية الأمة في محاسبة الحاكم إذا ما قصّر في هذه الرعاية، “لأن الأمة قوّامة عليه”  ويتساءل: كيف تكون الأمة شهيدة على الناس إذا لم تكن قوامة بالقسط شاهدة على نفسها.
ولا يفرق المسعري في وجوب محاسبة الحاكم بين حالات نصبه من قبل المسلمين أو نصب الأعداء له أو نصب نفسه حاكما عليهم بالقوة ، ويقول ان وجوب المحاسبة يصبح من  باب أولى، فيما إذا كان قد أخذ الحكم عنوة ، دون أن ينصبه المسلمون .

وبعد ان يؤسس المسعري لنظرية الشورى وشرعية محاسبة الأمة للحكام ينتقل الى الحديث عن الطرق التي تكفل للأمة القيام بمسؤوليتها تلك ، فيقول إنها : التكتلات السياسية والأحزاب السياسية التي تقوم على العقيدة الإسلامية. والمسلمون بصفة عامة. ومجلس الشورى،  الذى له حق المحاسبة في كل ما يقع من الحاكم من أفعال وتصرفات. ومحكمة المظالم، التي لها صلاحية إصدار الحكم بعزل الخليفة إذا أخل بالشرع.[10]
ويقول:  إن محاسبة الحاكم من قبل المسلمين، ركيزة من ركائز سلطان الأمة، كي يتقيد الحاكم بالشرع وهو يتولى رعاية شؤونها  بالأحكام الشرعية. وللأمة مطلق الحق في محاسبة الحاكم بأية وسيلة تحقق ذلك، سواء بالنصح مشافهة، سراً وعلناً، ام في نقد أعماله كلاماً يقال على منابر المساجد، وقد تكون المحاسبة منظمة بحيث تأخذ شكل إصدار الجرائد السياسية، أو في صورة تكوين أحزاب سياسية تكون مهمتها محاسبة الحكام، داخل المجالس المنتخبة، وفي مقدمتها مجلس الأمة، أي مجلس الشورى، أو خارجة في الاجتماعات الجماهيرية.[11]

ثم ينتقل الدكتور المسعري لمناقشة مقولة أخرى من مقولات الفكر الوهابي السلطاني ، وهي (سرية النصيحة) التي يؤكد عليها  علماء الدولة السعودية ، استنادا الى حديث واحد أخرجه الامام أحمد عن عياض بن غنم عن رسول الله (ص) أنه قال: “من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمرٍ، فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده، فيخلو به، فإن قبل منه، فذاك، والا، كان قد أدى الذي عليه له” ، فيرفض تلك المقولة ويضعف ذلك الحديث.[12]

2 – المالكي.. يرفض التكفير

وقد دعم الشيخ حسن بن فرحان المالكي هذه الثورة التصحيحية ، بما طرحه من كتب تنتقد  الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تكفيره لعموم المسلمين ، وتطالب بالاعتدال .
إذ قام الشيخ حسن المالكي بمراجعة شاملة لقراءة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتأويلاته لعدد من آيات القرآن الكريم ، ومفهوم الشرك والتوحيد فيها ، وخاصة موضوع الغلو في الصالحين والاستغاثة بهم وطلب الشفاعة منهم ، فنفي أن يكون ذلك شركا ، فضلا عن كونه شركا أكبر مخرجا من الملة ، وفرق في كتابه: ( محمد بن عبد الوهاب داعية وإصلاحي وليس نبيا) بين عبادة الأصنام التي كان يقوم بها المشركون ، وبين الغلو في الصالحين الذي قد يقع فيه بعض المسلمين ، ونفي أن يكون الله تعالى قد أرسل الأنبياء الى أقوام كانوا يغلون في الصالحين  ، كما يقول الشيخ عبد الوهاب ، ورفض بالتالي عملية تكفير المسلمين على العموم ، التي قامت بها الوهابية على هذا الأساس . وقال: “ان   الغلو والتبرك بالصالحين قد يعتبر غلواً…  لكن هذا ونحوه يعد من الأخطاء أو البدع وليست شركاً، وإن تجوزنا في إطلاق الشرك على هذه الأفعال فهو شرك أصغر؛ وليس من الشرك الأكبر المخرج من الملة”. وقال: ان ” إنكاري لهذه البدع والخرافات وربما الشركيات في بعضها لا يجعلني أحكم على مرتكبها بالشرك والخروج من ملة الإسلام سواءً كان جاهلاً أو عالماً لأن الجاهل يمنعنا جهله من تكفيره، والعالم يمنعنا تأويله من تكفيره أيضاً. نعم قد يقال فلان ضال، فلان مبتدع، فلان منحرف…فهذه التهمة خطرها يسير، إنما أن نقول: فلان كافر كفراً أكبر خارج عن ملة الإسلام! فهذه عظيمة من العظائم يترتب عليها أحكام ومظالم؛ فلا يجوز أن نتهم أحداً بالكفر إلا بدليل ظاهر لنا فيه من الله برهان؛ خاصة وأن الشيخ يريد بإطلاق الكفر الكفر الأكبر المخرج من الملة! “.
ويطالب الشيخ المالكي الوهابيين باحترام أدلة وتأويلات المعارضين لهم من الذين يستجيزون التوسل والاستشفاع والاستغاثة بالصالحين ولا يعتقدون بتناقض ذلك مع شهادة التوحيد ، وعدم التشكيك بنوايا الآخرين.
وبناء على ذلك يدعو الشيخ المالكي الى إعادة تعريف كلمة (المسلم) و(الموحد) من أجل تجنب تضييق دائرة الاسلام والمسلمين لتقتصر على أتباع الوهابية فقط. ويقول: “ان الشيخ محمد رحمه الله ربما لو لم يقاتل المسلمين، واكتفى بمراسلة العلماء يحثهم على الدعوة إلى الله ؛ ربما لو فعل هذا لتجنبنا مآسي التكفير من ذلك الزمن إلى عصرنا هذا الذي يعتمد فيه المكفرون على فتاوى الشيخ وعلماء الدعوة في تكفير المسلمين”. ويضيف:”ان بيان أخطاء الشيخ محمد في هذا الجانب (جانب التكفير) مفيد وضروري، لأن المجتمع السعودي علماؤه وطلاب العلم فيه تربوا على فتاوى الشيخ وعلماء الدعوة الذين كانوا يميلون لتكفير المسلمين، ولابد أن يتأثر بعضهم بهذا الجانب، وقد رأينا فتاوى لبعضهم في الحكم بردة بعض الناس!. ومن قرأ كتاب (الدرر السنية) عرف هذا تماماً، بل في هذا الكتاب مجلدان كبيران بعنوان (الجهاد)، كلهما في جهاد المسلمين، وليس فيه حرف واحد في جهاد الكفار الأصليين من اليهود والنصارى، مع أن بلاد المسلمين المجاورة في الخليج والعراق والشام كان فيها كفار أصليون محتلون…وتبادل التكفير حصل بين علماء الدعوة أنفسهم عندما اختلف أولاد الأمير فيصل بن تركي (عبد الله وسعود)  رحمهم الله، فكان مع كل أمير علماء يكفرون الطائفة الأخرى. فهذه (الفوضى التكفيرية) هي نتيجة طبيعية وحتمية من نتائج منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي توسع في التكفير؛ حتى وجدت كل طائفة في كلامه ما يؤيد وجهة نظرها.بل حركة الحرم وأصحاب التفجير في (العليا) ما هم إلا نتيجة لمنهج الشيخ في التكفير”.
وينتقد الشيخ حسن المالكي منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التكفير فيقول: “يظهر من كلام الشيخ محمد أنه إن علم بحادثة في الحجاز أو عسير أو سدير عممها على أهل تلك الجهة كلها فيكفرهم ويقاتلهم. فإن علم عدة حالات معدودة في منطقة ما ألزم أهلها كلهم الردة واستحل دماءهم وأموالهم، بحجة أن تلك المنطقة بين ساكت ومرتد! فالمرتكب مرتد والساكت مرتد! وهذا يختلف تماماً عما ذكره الفقهاء تحت باب (حكم المرتد)، فإنهم لا يحكمون على المجموع بفعل البعض، بل بعضهم لا يقول هذا إلا من باب الترهيب والتحذير من الشيء، لكنه عند وجود الحالة يعذر بالجهل ويبين له ما يرفع هذا الجهل.
وكذلك لم يراع الشيخ الجهل فالجهل بالشيء يمنع من إطلاق الكفر على الجاهل. وعلى منهج الشيخ يمكن للعلماء المختلفين أن يكفر بعضهم بعضاً بدعوى كل عالم أن الآخر أنكر شيئاً مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)! وأنه بهذا كمن كذّب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جملة! وهكذا… بينما الصواب غير هذا فالطرف الآخر لا يقر لك بأنه ينكر شيئاً مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإنما يقول لك: هذا لم يثبت عندي أو يقول: إنما معناه كذا أو يعارضه كذا… الخ”.
ولا يتوقف الشيخ المالكي عند نقد التطرف الوهابي وإنما يغوص عميقا في التاريخ لينتقد ظاهرة التكفير والتبديع عند المسلمين بصورة عامة ، وعند الحنابلة بصورة خاصة ، فيقول: إن أصحاب النزاعات العقائدية نسوا المبادئ الاسلامية عند تخاصمهم ولم يسلم أهل السنة ممثلين في الحنابلة والأشاعرة وغيرهم ، من ولوج باب التكفير والتبديع وأشباههما حتى وصل الأمر لتكفير كبار أئمة وفقهاء السنة فضلاً عن غيرهم ، كتكفير الحنابلة للإمام أبي حنيفة والحنفية وذمهم وتبديعهم.  ويقول: ان هذا الفكر عند غلاة الحنابلة هو الذي فرخ لنا اليوم هؤلاء الغوغاء من التيار التبديعى، الذي يصم الناس بالبدعة والضلالة. وقد كفرَّ غلاة الحنابلة معظم فرق المسلمين كالمعتزلة والشيعة والقدرية والمرجئة والجهمية وغيرهم.
ويستنكر المالكي قيام أبي الحسن البربهاري ، إمام الحنابلة في عصره (توفي سنة 329هـ) ،  بتكفير المسلمين ، وقوله: (اعلموا أن الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام) وهذا يلزم منه أن من لم يكن سنياً فليس بمسلم!! ويستنكر كذلك قيام ابن تيمية بالمبالغة بالتفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وقوله: (أن الله لم يبعث الرسل إلا من أجل توحيد الألوهية أما توحيد الربوبية فقد أقر به الكفار!!) وهو ما جرأ مقلديه على تكفير المسلمين الذين حصل لهم خطأ في الاعتقاد. وقد زل بهذا التقسيم عوالم أصبحوا يكفرون المسلمين لوجود أخطاء عقدية فقرنوا بينهم وبين الكفار ولم يحفظوا لهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثم يتوقف المالكي عند ابن القيم وتكفيره للمعطلة الذين يؤولون الصفات ، وهم جمهور المسلمين غير الحنابلة ، من المعتزلة والأشاعرة و الشيعة والصوفية. ويتحدث أخيرا عن تبادل التكفير داخل الحركة السلفية.[13]
ان الشيخ حسن المالكي ، وان لم يتحدث حتى الآن عن الشورى والديموقراطية ، الا ان رفضه لظاهرة التكفير وإطلاقه لصرخة التغيير والتخلي عن الوهابية ، في داخل السعودية تشكل القاعدة الأساسية لبناء علاقة سليمة بين الحاكم والمحكوم ، وتوطيد أسس الشورى في المجتمع .
3- الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق يؤمن بالشورى
وهو زعيم (الحركة السلفية في الكويت) وقد درس على يدي الشيخ عبد العزيز بن باز في الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة. ولكن حدث لديه تطور كبير باتجاه الشورى ، بعد أن تحرر من المعالم الرئيسية للوهابية (كالتكفير والهجرة والجهاد) مما سمح للحركة السلفية بالمشاركة في العملية الديموقراطية في الكويت.
وكان الشيخ عبد الخالق قد أعلن عن إيمانه الراسخ بمبدأ الشورى الاسلامي الأصيل ، وقال:” الشورى هي النظام الإسلامي الوحيد الذي يأتي عن طريقه الإمام أو الحاكم أو الأمير أو الخليفة كما يحلو لنا أن نسميه. وليس هناك من طريق سليم شرعي للوصول الى هذا المنصب الخطير العظيم، الإمامة العامة للمسلمين  إلا طريق الشورى . وان المبدأ الأساسي في الظروف الطبيعية الآمنة لاختيار الحاكم هو الشورى، وليس هناك طريق غير ذلك “. [14]  واستعان الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وهو ينظر لمشروعية الدخول في الحياة الديموقراطية والمجالس التشريعية ، بفتوى للشيخ عبد العزيز بن باز ، يقول فيها: “لا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق، والانضمام إلى الدُعاة إلى الله. كما إنه لا حَرَجَ كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدُعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله، والله الموفق”.[15]
ورفض اسلوب التغلب بالقوة وحيازة الشوكة طريقا للتوصل الى الحكم ، وقال ان قبول علماء السياسة من المسلمين لهذا الأسلوب عبر التاريخ لا يشكل إقرارا لهذا المبدأ ولكن رضوخا له في ظروف استثنائية من باب (ارتكاب أخف الضررين) وخوفا من الوقوع في أضرار الخروج على الحاكم القاهر والمتغلب أكثر  من ضرر الرضوخ له. وأكد أن التسلط وفرض السلطان بالقوة مرفوض شرعاً . وأنه لا يجوز جعل الواقع التاريخي دليلا شرعيا على جواز حكومة المتغلب.[16]
وقال : ان الامام في الاسلام مسؤول أمام الله والأمة أيضا ، وهو ليس حاكما مطلقا لا يُسأل عما يفعل ، بل يُسأل ويُراجع ويُناقش.[17]  واعتبر مهمة رقابة الحاكم أهم عمل لأهل الشورى.
وأشار زعيم الحركة السلفية في الكويت الى مسألة مهمة جدا وهي اعتبار الحاكم نائبا عن الأمة وليس عن الله في تنفيذ حكم الله ، وان الأمة هي التي تختاره وهي التي تملك عزله ، وهي التي يوكل إليها تقويمه إذا حاد، وتسديده إذا أخطأ.[18]
وانتقد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق أكبر انحراف سياسي حدث في تاريخ المسلمين أدى الى مصادرة حق الأمة في الشورى ، وهو تعيين معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد خليفة من بعده ،  وقال:” إن موضوع الشورى في الإسلام من أخطر الموضوعات وأجلها لأنه أهم الأمور في تسيير شئون المسلمين، ورسم سياستهم ولقد كان أيضاً هو أول الأركان هدياً وإقصاء من نظام الحكم الإسلامي كما قال الحسن البصري رحمه الله: “أفسد أمر هذه الأمة اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، والمغيرة بن شعبة حين أشار على معاوية بالبيعة ليزيد، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة” (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص79)، ولذلك بقي هذا الحكم معطلاً في ظل الأنظمة الإسلامية التي تلت ذلك اللهم إلا لمحات قليلة كانت الشورى تطبق تطبيقاً جزئياً تافهاً. ولذلك فقد فسدت أنظمة الحكم، وسارت وفق الهوى والاستبداد أزماناً طويلة حتى ألف المسلمون هذا الفساد والاستبداد، وظنوا مع مرور الزمن أن هذا جزءا من النظام الإسلامي نفسه، ومن تشريع رب العالمين”.[19]
ورغم أنه اعتبر الديموقراطية نظاما غربيا مفروضا على المسلمين من قبل المستعمرين [20]، و أنه نظام غير اسلامي يناقض الإسلام في أخص خصوصياته، وفي أُسِّ أساسه وهو السيادة  ، لأنه يجعل الحكم للشعب ويجعل الشعب مصدر السلطات جميعا .[21]. وهو ما يناقض مناقضة أساسية نظام الإسلام الذي يجعل السيادة لله، والحكم له سبحانه وتعالى .[22] وان الخلط بين الديموقراطية والاسلام يعتبر نوعا من الشرك [23]. الا ان الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق أجاز تولي المناصب التشريعية والتنفيذية في ظل الأنظمة الديموقراطية ، ورفض مقاطعتها “أملا بتغيير الأنظمة الفاسدة من داخلها وتبديلها والحد من شرورها وآثامها ،  وإزاحة من يتقلدون المناصب ويتولون إدارة شئون المسلمين  من اللادينيين وأهل الشهوات والأهواء.. وعدم تخلية الساحة لهم ليزيفوا ارادة الأمة، ويتسلقوا إلى دفة الحكم ويستولوا على مقدرات المسلمين، ويستبيحوا بعد ذلك دماءهم، واعراضهم ودينهم وكرامتهم”.[24]
وكان لا بد للشيخ عبد الخالق وهو ينغمس في الحياة الديموقراطية في الكويت ان يرفض مبدأ مهما من مباديء الغلاة – كما يقول – وهو تكفير المجتمع الاسلامي  وتكفير الحكام جميعا ، ومن ثم تحريم الولايات العامة التنفيذية والتشريعية وغيرها.[25]
ووجد نفسه مضطرا لمواجهة الفكر الوهابي القديم الذي كان يعتبر “الموحدين” فقط أنهم “جماعة المسلمين” ، والذي تجسد في بعض الحركات المتطرفة الحديثة ، فقال:”  اشتدت فتنة التكفير وشاعت القالة بأن كل المجتمعات الآن كافرة ، وظنت كل مجموعة أنهم وحدهم جماعة المسلمين ، وان غيرهم إما كفار او مجهولي الهوية والدين ، وان رأوهم يصلون ويصومون ويشهدون أن لا إله الا الله ويدعون الى الاسلام ويجاهدون في سبيل الله ما داموا لم يبايعوا أميرهم ويدخلوا في عقيدتهم ، وظن أولئك ان حقيقة الاسلام قد ضاعت منذ عصر الراشدين والى يوم ظهورهم هم حيث ظنوا أنهم فهموا الاسلام وطبقوا منه ما لم يفهمه سلف الأمة ، وقالوا : ان الزمان استدار كهيئته يوم بعث محمد (ص) مبشرا بهذا الدين ، فكما انه بعث في أقوام من الكفار يدعون الى الهداية في الدين ، ولم يكونوا كذلك . فكذلك هم قد خرجوا في كفار يدعون الاسلام وليسوا بمسلمين”.[26]
وقال:” الحق الذي لا مراء فيه أنه يجب الحكم على عوام الناس بأنهم مسلمون، ما لم يظهر من أحدهم ناقض من نواقض الإيمان عالماً به، مكابراً فيه. وإن الواجب أن يعاملوا معاملة المسلمين المؤمنين، وأن يعلموا حقيقة الإيمان، وحدود الإسلام. وأن لا ينقل فرد منهم عن هذه الحقيقة إلا بفعل مناقض للإيمان بعد قيام الحجة عليه”.[27]
ودعا الى التريث في تكفير الناس ، وعدم المسارعة الى رمي المسلمين بالكفر بمجرد صدور فتاوى أو آراء تبدو على خلاف كلام الله تعالى ، وضرورة التثبت و التعرف الكامل على مراد المتكلمين.[28]وقال:” لا يجوز أن يُحكم بالكفر على مسلم إذا رأيناه يفعل مكفرا من المكفرات إلا بالضوابط الآتية:
أ – أن لا يكون جاهلا، فإذا كان جاهلا بحكم ما يفعله فلا يكفر حتى يتعلم وتُقام الحجة عليه.
ب – أن لا يكون متأولاً يرى أن ما يفعله من مخالفة شرعية إنما هو لمصلحة أعظم أو درءا لمفسدة أعظم، كما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيذ بعض الحدود درءاً لمفسدة أعظم، ونحو ذلك.
ج – أن لا يكون مضطرا
ووفق هذه الضوابط يكون الحكم على معين ما أنه كافر، وأما إلقاء الكلام على عواهنه، وتكفير الناس دون العلم بحقيقة حالهم، فهذا لا يقدم عليه إلا رقيق الدين، قليل التقوى والخوف من الله.[29]
وحذر قائلا:”  ان من أعظم الفتن التي تجابه المسلمين في العصر الحاضر فتنة التكفير، وأعني بها القول والاعتقاد الذي يعتقده ويقول به كثير من أبناء الأمة الإسلامية في أن المجتمع المعاصر مجتمع كافر (هكذا بإطلاق الكلمة) والرمي بالكفر لكل من فعل مكفرا دون نظر إلى الشروط والموانع، أعني الشروط التي لابد من توفرها ليكون فاعل المكفِّر كافرا، والموانع إن وجدت انتفى القول بالكفر.
ولقد كان من آثار إلقاء القول بالكفر على عواهنه أن رتب بعض من لا علم عندهم ولا فقه أن ديار الإسلام المعاصرة ديار حرب تستباح فيها الأموال والنساء، ولا تجوز فيها الجمعة ولا الجماعة، ولا حرمة فيها إلا لمن عرف معتقده على الحقيقة، واستبان أمره ظاهرا وباطنا.. وكذلك كان من آثار ذلك أن اعتقد وظن كل من يرى كفر المجتمع أنه وحده أو من يدين بدينه هم أهل الإيمان والإسلام فقط فسمى نفسه “جماعة المسلمين” وإن كان واحدا، وإن كانوا أكثر من ذلك، جعلوا أنفسهم جماعة المسلمين دون غيرهم ولذلك بايعوا أحدهم وأعطوه ما يعطى الإمام العام من الطاعة والنصح، ورأوا أن كل خارج عن بيعة أميرهم خارج عن الإسلام يستباح ماله وعرضه إذا قدر على ذلك”.[30]
وأضاف: ” لقد كان من آثار هذه العقيدة أيضا أن نفي باب الاضطرار في الشريعة، وجعل الجاهل في التكليف كالعالم، والمتأول كالمعاند، ونفيت المصالح الشرعية جملة وتفصيلا، وجعلت الشريعة الإسلامية بلا حكمة ولا عقل …ولقد كان أيضا من آثار القول بالكفر بإطلاقه القول بحرمة التعامل مع المجتمع، ووجوب العزلة عنه، والبدء في الدعوة إلى الإسلام من جديد كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الجاهلية الأولى، بل لقد كان من آثار هذه الفتنة العقائدية ظهور الفتن الدموية التي تستباح فيها دماء كثير من المسلمين الغافلين”.[31]
وأكد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق موقفه المميز بكل وضوح ، قائلا: ” نحن  نعتقد أن البلاد الإسلامية وشعوبها ما زالت على الإسلام، ومازال سواد الناس وجمهورهم يريدون تحكيم شريعة الله فيهم، وإنما يحول دون ذلك اللصوص المتغلبة، والمنافقون من الحكام الذين يظهرون الإسلام، ويوالون أعداء الله في الحكم بغير ما أنزل الله.. و أننا لا نقول بكفـر المجتمعات والشعوب الإسلامية ولا نقول إن الجهاد يجب أن يبدأ من الصفر حتى تتميز الصفوف بين جيل إسلامي ومجتمع كافر كما يقول بعض الدعاة. وقد بينا فساد هذا الإعتقاد في مواطن عديدة”.[32]
ومن المعروف ان بعض الحركات الاسلامية ، وخاصة في مصر ، قد اتجه منذ منتصف الستينات من القرن العشرين الى تكفير المجتمعات الاسلامية شعوبا وحكومات، لأنها استبدلت القوانين الاسلامية بالوضعية. واستباح دماءها وأموالها وأعراضها ، وقام  بهجرها ومقاطعتها واعتزالها ،  وأعلن الجهاد ضدها ، واعتبر بلاد المسلمين دار حرب . [33] ولكن الشيخ عبد الخالق رفض كل ذلك وقال:”لاشك أن القول بأن ديار الإسلام الآن وأوطانهم ديار حرب قول فاجر، ليس عليه دليل من كتاب أو سنة أو فقه أو عقل”. [34] “ولا شك أن ديار المسلمين الآن وأوطانهم هي ديار إسلام مادام أهلها مسلمون، وإن غلب بعض أنظمة الكفر عليهم، وهم مطالبون بطاعة الحق فقط، ومأمورون بمعصية أنظمة الكفر وقوانينه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق “.[35] ” وإن إقامة أحزاب أو جمعيات أو تجمعات في أي نظام “ديمقراطي” يسمح بتعدد الآراء والاتجاهات لا يعني بالضرورة إقرار المخالفين، ولا الرضا بما هم عليه من الباطل “.[36]
وبعد أن رفض الشيخ عبد الخالق تكفير المجتمع المسلم او إعلان الحرب عليه ، أعلن تمسكه بالمنهج السلمي في الدعوة والاصلاح ، وقال:” إن  الأصل في الدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى- هو السلم ، و أن الطريق السلمي للدعوة هو الأساس، ولو أن الكفار لم يحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حاربهم، ولو سمحوا لدعوته أن تصل وتبلغ ما قام في وجوههم.. وهذا مع الكفار، فكيف مع المسلمين؟!”.[37]
وهكذا اقترب زعيم الحركة السلفية في الكويت من النظام الديموقراطي حتى ولج فيه ، وقال:”إن النظام الذي يسمح للرأي المخالف أن يعلن، ويسمح للمسلمين بأن يؤلفوا حزباً لدعوتهم، أو جمعية لتحقيق بعض أهداف دينهم كنشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنشاء الجامعات والمدارس والمعاهد، والعناية باليتامى والمساكين.. الخ. أقول: النظام الذي يسمح بذلك يجب التمسك به والحرص عليه، لأن بديل هذا النظام هو الحكم الاستبدادي عسكرياً كان أو غيره وهذا يضطر المسلمين إلى الدعوة سراً، وفي هذا من العسر والمشقة ما فيه”.[38]
وقال أيضا:”إن الحزب السياسي، والجمعية الخيرية، والتجمع والنقابة والاتحاد، هذه المؤسسات التي يسمح بها النظام الحر (الديمقراطي) يجب على المسلمين المبادرة إليها، واتخاذها سبيلاً، وطريقاً لنشر دينهم وتمكين عقيدتهم، وتجميع قواهم، وتدريب وتعليم عناصرهم، بل يجب على المسلمين أن يسعوا إلى مثل هذا التشريع الذي يسمح بذلك لو كان النظام القائم لا يسمح له، لأن هذا حق من حقوقهم، بل واجب من واجباتهم، أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يكونوا جمعيات وجماعات، وأحزاب تدعو إلى الله وتنشر دينه، وتعلي كلمته”.[39]


[1]  -   راجع رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الى أهل المغرب ، حيث يقول بصراحة:” من لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان”.  وقد أيد هذا الموقف المستشار في الديوان الملكي السعودي الشيخ عبد العزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ ، في مقدمته لكتاب (دعوة الامام سلفية لا وهابية).

[2] – الحصين : دعوة الامام سلفية لا وهابية  ، ص  190
[3] – الحصين : دعوة الامام سلفية لا وهابية ص  179
[4] – الحصين : دعوة الامام سلفية لا وهابية ص 180

[5]  - وكان عدد من الامراء السعوديين في الستينات من القرن العشرين قد طالبوا بإصلاح ديموقراطي ، وشكلوا تنظيم (الأمراء الأحرار) بقيادة الأمير طلال بن عبد العزيز ، الذي انشق على أخيه الملك سعود ، ثم الملك فيصل . ولا يزال ابنه الوليد يطرح بين الفينة والأخرى مطالب بالانتخابات الحرة وتأسيس مجلس شورى منتخب ، حيث دعا في حديث الى صحيفة (نيويورك تايمز) بتاريخ 11/12/2001 الى تطبيق مبدأ الانتخابات في السعودية والى تحول ديموقراطي في النظام الملكي.

[6]  - المسعري ، محمد :مشروعية محاسبة الحكام ، فصل: شبهات حول الجماعات الاسلامية وحكم الإنتماء
[7]  - المسعري ، محمد :مشروعية محاسبة الحكام ، فصل: مفهوم جماعة المسلمين.
[8]  - المسعري ، محمد :مشروعية محاسبة الحكام ، فصل: الشبهة الثالثة: البيعة لا تكون الا على الامامة العظمى.
[9]  - المسعري ، محمد ، مشروعية محاسبة الحكام ، فصل : مشروعية محاسبة الحكام
[10]  - المسعري ، محمد ، مشروعية محاسبة الحكام ، فصل: مراقبة الأمة للحكام ومحاسبتهم
[11]  - المسعري ، محمد ، مشروعية محاسبة الحكام ، فصل: مراقبة الأمة للحكام ومحاسبتها لهم
[12]  - المسعري، محمد ، مشروعية محاسبة الحكام ، فصل: سرية النصيحة
[13]  - المالكي ، حسن: قراءة في كتب العقائد ، المذهب الحنبلي نموذجا ، فصل: التكفير والتبديع في كتب الحنابلة. عن موقع المالكي في الانترنت على العنوان التالي: http://www.almalky.net/graa_fi_al3gaid.htm

[14]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي ص23 – 24
[15] – عبد الرحمن عبد الخالق ، مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص17
[16]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي ص23 – 24
[17]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي ص22
[18]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي ص 34-35
[19]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي ص1
[20]  - عبد الرحمن عبد الخالق  ، مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص1

[21]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،  مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص3

[22]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص2
[23]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ص31
[24]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص23
[25]  - يقول:”مما يدل على فساد القول بتحريم تولي الولايات العامة (الوزارة ونحوها وكذلك النيابة التشريعية) في ظل الأنظمة القائمة أن هذا هو قول أهل الغلو، وجماعات تكفير المجتمع فلم يعرف هذا القول في بدايته إلا عنهم ومنهم انتشر في بعض من غرر بأقوالهم. فجماعة شكري مصطفى كانت أول جماعة فيما أظن قالت بعدم جواز تولي أية ولاية عامة أو خاصة في الحكومات المعاصرة بناء على عقيدتها في كفر المجتمع كله، وكفر الحكام جميعا، وسواء عندهم أكانت الولاية وزارة أو إمامة صلاة أو غير ذلك. يقول أحدهم (كل الأعمال حلالها وحرامهـا في هذا المجتمع الجاهلي لا بد أن تصب في النهاية في مصب واحد هو خدمة وبناء هذا المجتمع الكافر). (ماهر بكري. الهجرة ص10 عن الغلو في الدين لعبدالرحمن اللويحق 525). بل بالغ شكري مصطفى فقال بعد أن ذكر مجموعة من الوظائف: (كل ذلك.. إنما هو سلطان الطاغوت ودائرة اختصاصه ومواد الوهيته، والداخلون في نظامه هم عبيده وسدنة محرابه وانه لا شيء مما ذكرنا ولا قشة ترفع في الطريق بأمر البلدية في بلد الطاغوت إلا وهي داخلة في إلاهيته). (شكري مصطفى الخلافة 6/13 وعنه الغلو في الدين لعبدالرحمن اللويحق 526) وقد وافق هؤلاء الغلاة بعض إخواننا السلفيين . وللأسف أنهم استدلوا على ذلك بقريب مما استدل به الغلاة”.   عبد الرحمن عبد الخالق ، مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص20

[26]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ص 3
[27]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ص32

[28]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ص 37
[29] – عبد الرحمن عبد الخالق ، فصول من  السياسة الشرعية  في الدعوة إلى الله ج2 ص 36

[30]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، فصول من  السياسة الشرعية  في الدعوة إلى الله ج1 ص1
[31] – عبد الرحمن عبد الخالق ، فصول من  السياسة الشرعية  في الدعوة إلى الله ج1 ص2
[32]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص5
[33] – عبد الرحمن عبد الخالق ، فصول من  السياسة الشرعية  في الدعوة إلى الله ج2 ص 32-34

[34] – عبد الرحمن عبد الخالق ، فصول من  السياسة الشرعية  في الدعوة إلى الله ج2  ص37
[35]  - عبد الرحمن عبد الخالق ، فصول من  السياسة الشرعية  في الدعوة إلى الله ج2  ص38
[36]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،المسلمون والعمل السياسي ص14
[37]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،المسلمون والعمل السياسي ص14
[38]  - عبد الرحمن عبد الخالق ،المسلمون والعمل السياسي ص 15 وقد استعان الشيخ عبد الخالق وهو ينظر لمشروعية الدخول في الحياة الديموقراطية والمجالس التشريعية ، بفتوى للشيخ عبد العزيز بن باز ، يقول فيها: “لا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق، والانضمام إلى الدُعاة إلى الله. كما إنه لا حَرَجَ كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدُعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله، والله الموفق”. ( مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية ص17)
[39] – عبد الرحمن عبد الخالق ،المسلمون والعمل السياسي ص16
الخاتمة:

التكفير أزمة الفكر السياسي الوهابي

كما لاحظنا في الفصول الماضية فان أزمة الفكر السياسي الوهابي وجذور الاستبداد  ، تكمن في مشكلة التكفير لعامة المسلمين ، و وضع شروط شروط متشددة  على تحقق صفة الإيمان ، و تضييق فتحة التوحيد ، و المبادرة سريعاً الى التشكيك بإسلام الناس واتهامهم بنقض عرى الإيمان. وقد أدت هذه المشكلة الى حدوث تناقض دائم مع الجماهير المسلمة والعداء لمختلف الطوائف و الأحزاب والتيارات الاسلامية ، وعدم الانفتاح عليها ، بل و اقامة العلاقة معها على أساس الفتح و الاحتلال والعنف و القهر و الغلبة.
ان التفسير الجديد الوهابي للتوحيد سمح للحركة إعادة تشكيل إطار الامة الاسلامية ، حيث لم يعد يشمل كل من يتشهد الشهادتين ، و انما  فقط من يعتنق النظرية الوهابية في التوحيد ، و يصطف الى جانب دولتها.
و بغض النظر عما سببه هذا الموقف من ردود أفعال من عامة المسلمين ضد الحركة الوهابية ، فان مشكلة التكفير انعكست أيضا بين أبناء الحركة ، حيث حكمت الأنظمة السياسية التي انطلقت منها على قطاعات واسعة من أتباع الحركة بالردة و الكفر لمجرد الخلاف او العصيان ، كما اتهمت قطاعات من الحركة بعض الحكام و بعض الفئات الوهابية بالكفر و نقض الإيمان لمجرد اختلال تلك الشروط المتشددة ، كالولاء للدولة العثمانية “الكافرة” بالمنطق الوهابي.
لقد خلقت قاعدة التكفير التي حكمت علاقة الوهابيين بعامة المسلمين ، نوعا من التوتر الدائم بينهم ، و ذلك بسبب مبدأ الجهاد الذي التزمت به الحركة كطريق للدعوة و إجبار “الكفار و المشركين والمرتدين” على الدخول في الاسلام من جديد والتمسك بنظرية (التوحيد) التي جاء بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وبسبب رفض عامة المسلمين للتفسير الوهابي الضيق للتوحيد ، مما كان يؤسس للعلاقة بين الطرفين على أساس العنف والقوة و الإرهاب ، ويقضي على أي فرصة لبناء العلاقة بينهما على أساس  الشورى و السلام.
وقد رأينا كيف أشعلت الدعوة الوهابية التي انطلقت في أواسط القرن الثاني عشر الهجري سلسلة طويلة من المعارك و الحروب في قرى إقليم العارض من نجد ، و لمدة اربعين سنة ، ثم امتدت الى الأقاليم المجاورة كالاحساء و العراق و الحجاز فأقامت مجازر رهيبة بحق السكان المسلمين الآمنين الذين كانت تنظر اليهم الحركة الوهابية ككفار و مشركين فعاملتهم بقسوة متناهية ولم ترحم الصغير و لا الكبير ، و ربما كانت مجزرة كربلاء الشهيرة عنوانا بارزا على تلك السياسة الإرهابية المتطرفة.
واضافة الى قاعدة التكفير التي ارتكزت اليها الحركة الوهابية ، فانها فشلت في اقامة نظام يقوم على الشورى و الانتخاب و رضا المسلمين او بيعتهم للحاكم ، و انساقت وراء النظام الوراثي الذي كان يفرش ظلاله على ربوع الصحراء في نجد كما في  سائر أنحاء العالم الاسلامي في عصور التخلف و الانحطاط. وأضفت عليه مسحة أيديولوجية بما استوحت من نظريات فكرية سياسية متخلفة  تجيز حكومة القاهر المتغلب دون اشتراط الشورى او رضا الأمة وانتخابها له ، و بما استوردت من أحاديث تنسب الى الرسول الأعظم (ص) و تأمر بطاعة الأمراء وان ظلموا أو طغوا ، دون ان تسمح  الحركة الوهابية السلفية لنفسها بمراجعة تلك الأحاديث و التأكد من صحتها ، او تقارنها بمباديء الاسلام العظيمة الداعية الى الرحمة و العدل و المساواة.
وقد أدى غياب الشورى من الفكر السياسي الوهابي والقبول بحكم القاهر المتغلب ، الى فتح باب واسع للصراعات الداخلية و الانقلابات العسكرية والاغتيالات ، التي ابتدأها الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه عندما أمر باغتيال قائد القوات الوهابية الأمير الأكبر في نجد ، أمير العيينة عثمان بن معمر . فقد بدا الصراع على السلطة بعد وفاة الأمير سعود الذي أخذ الشيخ البيعة له و لأبيه عبد العزيز بولاية العهد ، وتسنم عبد الله لمنصب الامامة ، حيث أخذ عمه و أخوه ينافسانه على السلطة.
و رغم أن الحركة الوهابية ، بعد سقوط الدولة السعودية الأولى كانت تعيش حالة مقاومة للسيطرة المصرية العثمانية ، الا انها لم تسلم أيضا من الصراع على السلطة ، فقد نصّب محمد بن مشاري بن معمر نفسه قائدا للحركة سنة 1234هـ ، الا ان الأمير مشاري بن سعود لم يقبل بذلك وحاول انتزاع السلطة منه مما أدى الى مقتله. فقام أمير سعودي آخر هو تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود في عام 1236 بالانتقام له من ابن معمر ، و قتل في طريقه أمير بلدة (ضرما) ناصر السياري ، ليفرض هيمنته على الرياض و يأخذ من أهلها البيعة بالقوة . ولكن ذلك لم يمنع من اغتياله  سنة 1249  ،  على يد ابن أخته (مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود)  الذي كمن له عند باب المسجد وقتله غدرا بعد خروجه من صلاة الجمعة ، و استولى على السلطة عنوة . ولم تمض شهور حتى استطاع فيصل بن تركي بالانتقام لوالده وقتل ابن عمه مشاري ، و العودة الى الحكم.
وقد أدى الصراع على السلطة بين آل سعود الى استعانة جناح منهم وهم أبناء سعود بن عبد العزيز ، بالقوات المصرية لكي تعين أحدهم (خالد بن سعود) أميرا على نجد و تفرضه بالقوة سنة 1253هـ.
كما أدى الصراع على السلطة فيما بعد بأبناء الأمير فيصل الذي عاد الى الحكم مرة أخرى ، الى الاقتتال فيما بينهم و الاستعانة بالقوات العثمانية و الانجليزية ضد بعضهم البعض الى ان زال حكمهم من الوجود في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
وبينما كانت الحركة الوهابية تعتبر التعاون مع الدولة العثمانية “الكافرة” و الولاء لها ناقضا من نواقض الإيمان ، لم يمانع أحد قادتها وهو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود في التحالف مع الاستعمار البريطاني الزاحف على الشرق الأوسط في الحرب العالمية الأولى ، ضد الدولة العثمانية التي كان يتولى الامارة من قبلها على نجد. ومع ذلك لم تمانع الحركة الوهابية الجديدة من التعاون معه و العمل في جيشه تحت شعار تكفير الدولة العثمانية و الشعوب العربية المجاورة ، و التحول الى أداة طيعة في يد ابن سعود لاحتلال مزيد من الأراضي و البلاد و العباد. وما أن كاد ابن سعود ينتهي من تحقيق أهدافه التي رسمها له الانجليز حتى اصطدم بقوات (الإخوان) الوهابية واستعان بالانجليز على قمعها وإخضاعها و القضاء عليها. كما استعان برجال الدين الوهابيين لتغطية عملية القمع  باتهامهم بالخروج على الامام.
وفي حين لم يقض ابن سعود على الوهابية تماما ، بعد تلك الضربة ،  فانه لم يعد يلتزم بشعاراتها و لا ببرامجها العسكرية ، وحافظ على الحدود التي رسمها له الانجليز في معاهدة دارين 1915 ومعاهدة جدة 1927 ، واستطاع ان يدجن الوهابية في مؤسسة دينية رسمية تابعة له تحقق له قدرا كبيرا من السيطرة الثقافية و السياسية في المملكة الجديدة التي أنشأها في نجد و الأحساء و الحجاز و توابعها. ومع أنه عدل من خطاب الوهابية الرسمي بما يجنبها من تكفير عامة المسلمين ، مما سمح لها بالعمل فيما بعد في أطر المؤتمر الاسلامي و رابطة العالم الاسلامي و ما الى ذلك ، الا ان نغمة التكفير ظلت تتردد على ألسن بعض كبار العلماء الوهابيين بين الفينة و الاخرى و خاصة تجاه الطائفة الشيعية ، مما حرم الشيعة في المملكة العربية السعودية من ممارسة حقوقهم الانسانية و السياسية وأبعدهم عن المشاركة في السلطة او المطالبة بنظام الشورى.
و رغم أن الشورى كانت مطلبا جماهيريا في السعودية و خاصة مملكة الحجاز التي ضمها ابن سعود الى سلطنة نجد سنة 1925 على أساس و عد بحفظ حق الشورى لها و إدارة أهلها لمملكتهم ، فان النظام السعودي قام على أساس القهر و الغلبة و الفتح و السيف ، ولذلك كانت كلمة (الشورى) أبغض شيء على مسامع النظام.
مع إغلاق باب الشورى  أغلقت أبواب الاصلاح و التغيير السلمي في داخل النظام السعودي ، و لم يعد حتى للوهابيين الحق في الاعتراض او المطالبة بالمشاركة في القرار السياسي ، أو إدارة الدولة و المجتمع ، ولم يعد أمامهم سوى سلوك طريق التغيير العسكري و الجهاد المسلح ضد الدولة التي اعتبرها بعضهم خارجة عن الاسلام و عن الطريق المستقيم ، فكانت حركة جهيمان في مطلع القرن الرابع عشر الهجري في الحرم الحرام ، و التي قدم خلالها جهيمان العتيبي زميله (محمد بن عبد الله القحطاني) كمهدي منتظر و مخلص يحاول بناء الدولة الاسلامية من جديد.
ومع مضي النظام السعودي بعيدا عن شعارات و أهداف الحركة الوهابية ، وخاصة عند استقدامه للقوات الأمريكية للدفاع عن المملكة ضد العراق الذي احتل الكويت عام 1990 ، كان على الحركة الوهابية إما التبعية و التأييد للنظام ، كما فعلت المؤسسة الدينية الرسمية ، أو الاحتجاج الصامت و تقديم المذكرات الناصحة  التي لا تجدي نفعاً ، و إما الخروج المسلح وتكفير النظام تمهيدا لتبرير الانشقاق عليه ، ولم يجد الفكر السياسي الوهابي حلاً وسطا يتمثل في المطالبة بالشورى و إجراء الانتخابات و الدعوة الى تغيير النظام سلمياً ، لأنه كان لا يزال يعيش في أزمة الشك في إسلام و ايمان الغالبية من الشعب السعودي الذي يضم طوائف و تيارات عديدة غير الوهابية ، كما أنه كان لا يزال يعتبر الديموقراطية و الانتخابات نوعاً من البدع الغربية المناقضة للدين ولعقيدة التوحيد ، و لتعليمات الرسول الأعظم الذي يأمر بطاعة الحاكم و عدم معارضته او انتقاده بصورة علنية او تحديد مدة حكمه  فضلا عن اسقاطه و تغييره .
واذا كانت الحركة الوهابية الثورية الجديدة مضطرة لتكفير النظام السعودي و المؤسسة الدينية الوهابية التابعة له من أجل ان تسمح لنفسها بالانقلاب على النظام و العمل من أجل اسقاطه ، فلنا ان نتصور كيف ستعامل هذه الحركة سائر المواطنين السعوديين من مختلف الطوائف والتيارات ؟ وكيف ستتعامل معهم؟ وكم ستعطيهم من الحقوق السياسية؟ وهل ستقبل بمشاركتهم في السلطة؟ بالطبع سيكون الجواب على كل ذلك بالنفي الأكيد . و من المؤكد انها لو نجحت ستفرز نظاما سياسيا جديدا يقوم على توارث السلطة و يخضع لآليات الحكم و معادلات القوة الإقليمية و الدولية ، وسوف يعود التاريخ لكي يكرر نفسه ، حيث ستنفصل السلطة السياسية عن الحركة  الوهابية أو تنقلب عليها ، وسوف يكفر بعضهم بعضا ، ويكفرون معا جماهير الامة و يتخذون منها موقفا سلبيا.
وليس ذلك الا لأن الحركة الوهابية تنطوي على تناقض جوهري أبدي مع الديموقراطية و الشورى ، بسبب رفضها الاعتراف بالأمة الاسلامية على أساس الشهادتين ، و اصرارها على النظر الى الناس من خلال منظار الشيخ محمد بن عبد الوهاب الضيق للإيمان  والاسلام [1]، و هو ما يجعلها دائماً أقلية في المجتمع تلجأ الى العنف و تضطر للتحالف مع قوة  عسكرية وتعتمد الجهاد ضد بقية المسلمين و تقيم نظاما سياسيا على أساس القهر و الغلبة.
ولا يمكن للحركة الوهابية ان تخرج من هذه الأزمة المستعصية الا بإحداث ثورة ثقافية تعيد فيها النظر الى التصور الوهابي للإسلام و الإيمان و الذي قدمه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، و تتخلى عن سياسة التكفير لعامة المسلمين. بالاضافة الى إعادة النظر في الفكر السياسي لابن تيمية و الذي يجيز فيه حكومة القاهر المتغلب. و بكلمة أخرى لا يمكن للحركة الوهابية ان تتقدم على طريق الشورى أو الديموقراطية الا بالتخلي عن الوهابية. وهو ما يقوم به فعلاً عدد غير قليل من أبناء الحركة السلفية الذين بدأوا يعيدون النظر في شروط الإيمان المتشددة و في مقولة الديموقراطية. و يعترفون بإطار الأمة الاسلامية الواسع. و ربما كان رفض النظام السعودي لاستخدام اسم (الوهابية) محاولة منه للتحرر من تركة الفكر الوهابي المتطرف ، و العودة الى رحاب الاسلام .  وقد أصدر وزير الأوقاف السعودي عبد الوهاب بن أحمد عبد الواسع ، بتاريخ 12 / 5/ 1409 تعليماته الى الخطباء للدعوة الى التآلف والتآخي بين المسلمين والتشاور فيما بينهم على ما يصلح أحوالهم الدينية والدنيوية ، وعدم الدعاء بالهلاك على اليهود والنصارى والطوائف الأخرى.

أحمد الكاتب
لندن 10 ذي الحجة 1423هـ / 11 شباط 2003



[1]  - أثناء حوار لي في موقع (أنا المسلم) الوهابي ، في محرم 1422 تقدم شخص كان يسمي نفسه (عبد الله السلفي) فأبدى إعجابه بحديثي و كتاباتي ، واستغل الفرصة لكي يدعوني الى الدخول في (دين الاسلام) ، فلم أفهم ما يقول وقلت له مستغرباً و مؤكداً : إني ولدت على الفطرة ، من أبوين مسلمين في مجتمع مسلم. ولكني فهمت منه بعد ذلك أنه لا يعترف بإسلامي و لا يؤمن بوجود مسلمين خارج إطار (الدعوة الوهابية ) أو دعوة التوحيد ، والاسلام الخالص الجديد الذي جاء به  الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأنه يشكك بإسلام عامة المسلمين




wahabi
http://www.alkatib.net/%D9%83%D8%AA%D8%A8/%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%87%D8%A7/ .

Aucun commentaire: